كانت «الحياة» زارت الكاتب والمفكر اللبناني خليل رامز سركيس في دارته في لندن وأجرت معه حواراً طويلاً نشر معظمه في 1/11/ 2009، وكان بمثابة جولة في عالمه الفكري وفي أعماله التي جمعت بين الأدب والفلسفة، عطفاً على بعض من ذكريات. هنا يتحدث سركيس عن لبنان كما عرفه عن كثب في أواسط القرن المنصرم وكما تجلّى على أقلام رواد النهضة والحداثة. كتبتَ مرة أنك تحاول أن تستحق لبنان. هل تغيرت وهل تغير لبنان؟ - لبنان، عندي، استحقاق يومي لوطن لا يفتأُ يتطور ويتغير ايجاباً وسلباً في مدى جغرافية تاريخه الدهري. «لبنان توتر دائم، المهم ألاّ نقطع الوتر»، كما في مأثورة صديقي جورج خضر. الإنسان، أياً كان، يتطور ويتغير. وأنا إنسان، فكيف لا أتطور ولا أتغير؟ اللبنانيون نجحوا كأفراد في كل بلد ارتحلوا اليه. لكنهم عجزوا عن أن يخلقوا وطناً متجانساً. أهي لعنة الجغرافيا، أم لعنة التاريخ، أم هما اللعنتان؟ - أولاً أفضّل أن نستغني عن مقولة «اللعنة»، لأنها أجنبية عن طبيعة لبنان وإنسان شعبه. معضلة لبنان التعدد والتنوع بلا توحد. هكذا كان. هكذا أخشى أن يبقى. أإعجاز الكيان هذا؟ ربما. أإعجاز السكان؟ ربما. أإعجاز الطائفية، خطيئتنا الأصلية التي وُلدنا فيها؟ ربما. فما البديل فعلاً لا رصف كلام؟ لست أدري. أمِن أحد يدري حقاً؟ هل تذهب الى لبنان من وقت الى آخر؟ - أعترف بأني لم أذهب الى لبنان، في خلال الثلاثين سنة الأخيرة، إلا مرة واحدة لم تجاوز عشرة أيام. وكان غرض الزيارة أن أجدد جواز السفر اللبناني في طبعته الجديدة، لأن القنصليات اللبنانية ليست لديها الوسائل التقنية اللازمة لإصدار هذا الصنف من الجوازات العسيرة التزوير. كل ما يسع قنصلياتنا عمله، في هذا الشأن، هو أن تمدد جوازات السفر القديمة سنة واحدة قابلة للتمديد سنة ثانية، فثالثة... الى آخر مهزلة الفوضى والتقصير! المؤكد ان السلطات المسؤولة تلزم صمت الجمود على رغم تكرار الإلحاح عليها لكي تهتز. فهل وراء ذلك موقف سياسي؟ أتاحت لي الأيام المعدودة التي قضيتها في لبنان، أن أتصل ببعض الأقارب والأصدقاء. وكان مما سررت به في بيروت زيارتي مدرسة الترجمة في جامعة القديس يوسف، في مبانيها الحديثة، شارع الشام. وذلك بأني أحترم مدير المدرسة هنري عويس وأسرتها التعليمية التي تنهض بعمل كبير يخدم الثقافة المتعددة اللغات خدمة انتشرت فوائدها في بلدان عدة من مسكونية الكلمة. فكأن الترجمة أخرجت الإنسان من برج بابل. هل عندك ذكريات لبنانية وطنية وذكريات شبه خاصة؟ - عندي، في مستودع الذكريات، ألوان منها تلو ألوان. أول ما يحضرني منها، الساعة، هو كيف كان المفوض السامي الفرنسي «يُعيِّن» ويقيل رؤساء الجمهورية والدولة في لبنان زمن الانتداب، وهم، على التوالي، بين 1926 و1943: شارل دباس، حبيب السعد، إميل إده، ألفرد نقاش، أيوب ثابت، بترو طراد، بشارة الخوري. ومن أطرف أخبار الإقالة والتعيين أنه بينما كان أيوب ثابت، رئيس الدولة، يزورنا في مصيفنا، في عاليه، في 13 تموز (يوليو) 1943، إذا بنا جميعاً - أيوب ثابت وأبي وأمي وأنا - نفاجأ بخبر سمعناه من إذاعة راديو الشرق في بيروت وهو أن أيوب ثابت قد أُقيل من منصبه بمقتضى مرسوم أصدره المندوب السامي الفرنسي جورج كاترو! كان ثابت على خلاف مع كاترو ومع المندوب السامي البريطاني إدوارد سبيرز حول مشروع قانون الانتخابات النيابية المقبلة. وسمعنا من الإذاعة، في الوقت نفسه، نبأ تعيين كاترو بترو طراد رئيساً للدولة خلَفاً لأيوب ثابت، الى أن انتُخب بشارة الخوري، في 21 أيلول (سبتمبر) 1943، رئيساً للجمهورية اللبنانية، فما لبث أن كلّف رياض الصلح تأليف الوزارة، فألّفها. فنشطت تنفِّذ البرنامج الاستقلالي الذي على أساسه اختار الشعب - وبعض الدول الكبرى - رجالات البلاد. لكن ما إن بلغ المفوَّض السامي الفرنسي، هيللو، ما شرعت الدولة اللبنانية تنفِّذه على هذا الصعيد، حتى هبّ فثار، وقد تعتعه السكر بحسب ما قيل، فأمر باعتقال بشارة الخوري ورياض الصلح وعبدالحميد كرامي وسليم تقلا وعادل عسيران، وبسوقهم، ليلاً، الى قلعة راشيا. فسُجنوا هناك من 11 الى 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1943 كما هو معلوم. أما ما لا يعلمه إلا الأقلّون، فهو أنه، في ساعة مبكرة من صباح يوم الاعتقال، قام القائد العسكري الفرنسي لمنطقة بيروت بزيارة رئيس الدولة الأسبق أيوب ثابت، فأعلمه بما حدث. ثم أضاف أن المفوض السامي عيَّن إميل إده رئيساً للدولة. ففوجئ ثابت وسأل الضابط هل وافق إده؟ فأجابه أن نعم. فقال ثابت ما هذا مختصره: ليتكم أعلمتموني قبلما اتصلتم بإميل إده. إن إده قيمة لبنانية عزيزة جداً، لكنه شديد الكره لبشارة الخوري حتى انه يجازف بنفسه ليُسقط بشارة الخوري عن سدة الحكم فيحل هو محله. لو لم تتسرعوا الى ترئيسكم إده، لكنت أشرتُ عليكم بتعيين قائد عسكري فرنسي حاكماً موقتاً. فإن نجحت محاولة هذا الانقلاب، فاوضتم المعتقلين في راشيا، والمرجح أن تنتهي الأزمة، عندئذ، الى حل وسط لعله يكون كما يلي: 1 - موافقة بشارة الخوري وحكومة رياض الصلح على الاستقالة. 2 - عزل الضابط الفرنسي ونقله الى وظيفة في السنغال مثلاً. 3 - انتخاب النواب إميل اده رئيساً للجمهورية، فيكون إده حلاً للأزمة بدلاً من أن يزيدها تعقيداً. وإده يصغي عادة، الى نجله ريمون وإليّ، وكثيراً ما عدّل بعض مواقفه نزولاً منه على رأينا، نحن الاثنين، من دون أن يتساهل في تمسكه بكل ما يضمن كيان لبنان 1920، وفي الوقت نفسه يوافق إده على بعض المطالب الاستقلالية التي شرعت حكومة رياض الصلح تلبّيها، كتعديل الدستور، واعتماد العربية لغة لبنان الرسمية، وجلاء الجيوش الأجنبية، وتسلم المصالح المشتركة التي يتولاها حكم الانتداب، الخ. وختم أيوب ثابت «نصائحه» بما هذا معناه: تجاه الأحوال الداخلية والإقليمية والعالمية السائدة، لا غنى عن المرونة الديبلوماسية الحكيمة. لا مجال، هنا، للقوة. القوة، في لبنان، لا تصنع شيئاً يدوم. ومن الذكريات التي يصعب عليّ أن أنساها أنه، قبل اغتيال رياض الصلح ببضعة أيام، في تموز (يوليو) 1951، صادف عيد الأضحى. كنا في المصيف في عاليه، وكان منزلنا على مقربة من دارة رياض الصلح، فتوافد عليه من جمهور المهنئين... جمع غفير كنا، أبي وأنا، في عداده، والصلح يومئذ خارج الحكم، لخلاف بينه وبين بشارة الخوري. فقال له أبي: «ما شاء الله! ما شاء الله! ما أكثر المهنئين!». فابتسم الصلح ابتسامة كبتت شيئاً من التوقع غير المطمئن وقال: «ما عادت حرزانة يغيِّروا». فما مرت بضعة أيام حتى اغتيل رياض الصلح في عمّان، مع ان حراسه كانوا من أوفى المخلصين له ومن أقدرهم محافظة على سلامته، وهم عصبة من شجعان آل عرب: سعد وعثمان وبعض أنسبائهما البواسل، ولكن أمِن مفر من القدر؟ قيل لي ان لديك قصة عن تأسيس جامعة بيروت العربية، فما هي؟ - الواقع ان لتأسيس جامعة بيروت العربية قصة طريفة. وتلك أن ثلاثة من وجهاء منطقة الطريق الجديدة وتوابعها ومن أعمدة جمعية البر والإحسان البيروتية وهم: جميل الرواس وراشد الحوري واسماعيل الشافعي، قاموا، في أواسط القرن الماضي، يطالبون الحكومة اللبنانية بتأمين الاعتماد المالي اللازم للمدرسة الرسمية هناك. وكان عبدالله اليافي، رئيس الحكومة يومئذ، قد وعدهم بتلبية الطلب. لكن الحكومة تباطأت، ثم تباطأت على رغم تكرارهم التذكير لرئيسها بما وعدهم به. فاستاء الوجهاء الثلاثة الذين كان يُبلغهم سوء أحوال المدرسة معلِّمان فيها هما محيي الدين وعبدالحميد فايد. فاتصلوا بسفير الجمهورية العربية المتحدة عبدالحميد غالب وعرضوا عليه المسألة. فكان أن جمال عبدالناصر، هو نفسه، أمر بتلبية الطلب. فوصل المال في الحال، على أن يصبح اسم المدرسة الرسمية «جامعة بيروت العربية». فوافقوا، وشكروا بعدما قدَّروا تبعات هذا التغيير. هل عندك أخبار أخرى من هذا «النوع»؟ - عندي أخبار عدة أذكر منها، الآن، أن أحمد طالب الإبراهيمي، وزير التربية والثقافة في الجزائر والرقم 3 في عهد بومدين، زار لبنان عام 1967 تلبية لدعوة من الحكومة اللبنانية. وكان الوزير الضيف صهراً للأسرة البيروتية الصديقة، أُسرة آل حوري. وكانت الندوة اللبنانية قد دعت أحمد طالب الى إلقاء محاضرة في قاعتها في شارع بشارة الخوري، كما أن ميشال أسمر، مؤسس الندوة، أعد للضيف الكبير برنامجاً ندوياً خاصاً يليق بكفايته ومقامه. كان عنوان المحاضرة Albert Camus vu par un algérien. وذلك أن أحمد طالب كان يجيد اللغة الفرنسية أكثر مما يجيد العربية. فدعيت الى لقائه قصد أن أترجم المحاضرة الى العربية. وسبق اللقاء غداء تكريمي أقيم له في فندق البريستول وحضره بعض رؤساء الجامعات والمعاهد الثقافية، فضلاً عن سفراء الدول العربية، وكان بينهم عبدالحميد غالب سفير الجمهورية العربية المتحدة، ومستشاره الصحافي النافذ أنور جمل. فبينما كنا نتناول الطعام، دار الحديث على تعديل في برنامج البكالوريا اللبنانية. فقال زكي النقاش، مدير كلية المقاصد الإسلامية في بيروت: «خلصنا من الصوفيين، حذفناهم من برنامج البكالوريا». فما كان من فؤاد أفرام البستاني، رئيس الجامعة اللبنانية، إلا أن سأله عن سبب هذا الإلغاء. فقال زكي النقاش إن الصوفيين تغنّوا بالعزة الإلهية فيما كان الصليبيون يحتلون الأراضي المقدسة ويستعمرونها. فسأله البستاني عن العلاقة بين الحروب الصليبية والصوفيين. فقال النقاش إنه كان يجب على الصوفيين أن يتغنوا بالأراضي المقدسة فتصل صلاتهم رأساً الى الله. فاحتدم الجدل بين الرجلين، وكاد يتلبّد جو الوليمة. فدخل السفير غالب في الموضوع، وقال لزكي النقاش: «يمنع إيه تعرف عدوَّك؟»، فهدأ النقاش فوراً وسكت. فانتهزها البستاني فرصة فقال للنقاش: «الآن وصلت لك من سعادة السفير فيزا السكوت!» فبقي النقاش ساكتاً حتى آخر الوليمة. ما كانت علاقتك بمهرجانات بعلبك؟ - لم تكن لي علاقة بها مباشرة، ما عدا صداقتي لمعظم أعضاء لجنتها. وجُلّ أمري فيها هو أن صديقي القديم كميل أبو صوان، الذي كان أول من كُلِّف إعداد الكتاب السنوي لمهرجانات بعلبك، اقترح عليّ أن أتولى إعداد القسم العربي من هذا الكتاب، بينما يتولى هو إعداد القسمين الفرنسي والإنكليزي، فأتحف لبنان مجموعة مجلدات عالمية المستوى. ثم إنه، عام 1963، بلغ لجنة مهرجانات بعلبك أن دُني دو روجمون، الفيلسوف السويسري، قادم الى لبنان لمهمة ثقافية وأنني على برنامج زيارته. فرغبت إليّ رئيسة اللجنة في أن أُهدي له كتب السنوات المهرجانية السابقة، فضلاً عن الكتاب السنوي الجديد. فقدمتها له نيابة عن رئيسة اللجنة ليلة اجتمعنا، عندنا في البيت، على عشاء خاص لم أدعُ اليه إلا جورج نقاش، أحد مؤسسي جريدة «لوريان» والصديق الحميم لدو روجمون. فشكر لي التقدمة وذكر أنه سيوجه الى رئيسة اللجنة رسالة شكر واعجاب. ثم نظر إليّ فابتسم وقال ما هذا مؤداه: فهمت المقصود بهذا الإهداء: لجنة مهرجانات بعلبك تود لو أن اللجنة العليا للمهرجانات العالمية توافق على رغبة لبنان في ضمه الى عضويتها، فتُدخل برامج مهرجانات بعلبك إدخالاً تلقائياً سنوياً في البرنامج العام العالمي للجنة العليا. معلوم ان لجنتنا، هذه، العليا التي لي شرف رئاستها، قوامها عنصران: الفن والمال. الفنانون، عازفين وممثلين وراقصي باليه وسواهم، أكثرهم من الطائفة اليهودية الوثيقة العلاقات بإسرائيل. أما المال، مال لجنتنا، فهو مال عربي المصدر يصل لنا، كل سنة، من بعض الدول العربية التي اشترطت علينا ألاّ نضم اسرائيل الى لجنتنا. فإن أدخلنا لبنان، قاطعنا الفنانون. وإن أدخلنا اسرائيل، انقطع عنا المال. لذلك قلنا للبنان: لا، وقلنا لإسرائيل: لا. واتضح لنا ان الدول الممولة لا يهمها ان يكون لبنان في اللجنة العالمية العليا بقدر ما يهمها أن تبقى اسرائيل خارج اللجنة. وطلب إلي دو روجمون أن أُطلع على هذا الأمر لجنة مهرجانات بعلبك. محمد عبده وابراهيم اليازجي ماذا لديك عنهما؟ - في ملفات خليل سركيس، جدي، أن محمد عبده، بعدما نُفي من مصر فرحل الى فرنسا، انتقل منها الى بيروت في أواخر القرن التاسع عشر، وكان كثيراً ما يتردد الى «لسان الحال»، إذ وصلته بجدي صداقة قديمة. فرحب به جدي، وأكرمه، وأشعره بأنه في وطنه وبين أهله، حتى إذا استقر بمُقامه البيروتي، فاتحه جدي بمشروع طالما فكّر فيه، فقال له ما هذا مختصره: أودّ لو تُشرف على تحقيق «نهج البلاغة». فما رأيك؟ المستحب جداً أن يتولى شيخ سنّي وعالم جليل تحقيق كتاب الإمام الأكبر علي بن أبي طالب، خصوصاً أنني أتوقع أن ستصبح، في يوم ما، مفتي الديار المصرية. هكذا تكون قد شاركت في تعزيز روح الأخوة والوفاق بين المذهبين من أجل خير الجميع مسلمين ومسيحيين. فأصغى محمد عبده الى جدي، فشكره شُكر الموافقة والارتياح. ثم دأب في العمل الى أن أتمه، فأصدره جدي في منشورات المطبعة الأدبية - لسان الحال. أما ابراهيم اليازجي، فقد وصلته بجدي صداقة موروثة. فكلّفه جدي، إذ كان اليازجي جميل الخط، أن يرقم حروف مسبك سركيس للحروف العربية. فرقمها بالخط النسخي والرقعي والثلثي والفارسي، ولم يفته أن يرقم النقطة والحركات. ذلك من حيث الخط. أما في ما يجاوز فنه، فقد تبين لي، من خلال قراءتي لكتابات ابراهيم اليازجي ولكتابات أحمد فارس الشدياق، أن العناية اليازجية باللغة العربية ودقائقها ربما كان في رأس أسبابها الحرب الكلامية التي نشبت بين القلمين المعلّمين بعدما تعمَّد الشدياق أن ينتقد ناصيف اليازجي انتقاداً لاذعاً، شديد العنف. فهب ابراهيم اليازجي يدافع عن أبيه ويثأر بمنتقده. لكن اليازجي، الابن، تروّى، في أول الأمر، وقد آثر أن يتعمَّق في أصول العربية ومشتقاتها وسائر أبوابها قبل أن يرد على الشدياق. وكان النقد، في عصرهما، أقرب الى أسلوب السيف والترس منه الى موضوعية الدراسة والبحث. والمرجح، عند الأغلبين، أن ابراهيم اليازجي مَدين لتلك المعركة اللغوية التي أوجبت عليه أن يتأهب لها قبلما نازل خصمه الشهير. بيد أن آية أعمال إبراهيم اليازجي، فضلاً عن لغة الجرائد وتوابعها، هي، في نظري، صياغته العربية للمزامير، (طبعة الآباء اليسوعيين)، واسمها في «قاموسي» الخاص: مزامير اليازجي.