بين العرب مؤرخون . وللعرب أيضاً مؤرخون ، عرب وغير عرب. وكذلك للبلدان العربية أو العالم العربي مؤرخون. ولكن، هل للعروبة مؤرخ؟ هل للعروبة من حيث هي ماض وحاضر ومستقبل، فكرة وتراث وحضارة، عادات وتقاليد، نهج وهوية قومية، سياسة انسانية كونية، هل لها تأريخ وتحديد؟ عام 1901 ولد في لبنان ، في حدث بيروت، يوسف ابراهيم يزبك، وفي الخامس والعشرين من شهر حزيران يونيو 1998 تحلّ الذكرى السادسة عشرة لرحيله، بينما كان يقاوم الألم في منزله، وكانت ويلات الحرب في لبنان، تقصف آماله الكبرى في نهضة اللبنانيين ونهضة العرب جميعاً، وتزيد من عمق جراحه، حتى توقف قلبه الكبير، تحت وطأة القلق الذي ساوره طوال عمره، أيام الاستقرار الظاهري، والازدهار المشبوه، فتوقف المشرق أيضاً عن سبر الحقائق وتدوين الشواهد، وقول كلمة الإنصاف والحق ضد أكاذيب التاريخ الموروث لبنانياً وعربياً. ومنذ نشأته الأولى، في بيئة تنزع الى الانفتاح، ولكنها قلقة على المصير، متحفظة حتى الحساسية، كان على الكاتب والصحافي والسياسي والمفكر، ان يستشرف الخط الوطني الذي يناضل من أجل النهو ض والاستقلال، سواء في لبنان أم في بقية البلدان العربية، وان يركز في مقالاته - الأبحاث، على ما يجنب اللبنانيين مخاطر الطائفية، متحملاً بروحه النضالية الصلبة ردات الاضطهاد والتجاهل والإهمال، التي لم تستطع ان تحوله عن طيب المقصد، النابع من طيب جوهره، أو ان تدخله في صفوف المتقلبين المزيفين طالبي الكراسي أو الشهرة العابرة، أو المال المشبوه. وسيرة يوسف ابراهيم يزبك، التي لم تكتب بعد، والتي تحتاج كتابتها الى فهم خفايا تاريخ الشرق الأوسط، في القرون الثلاثة المنصرمة، ابتغاء لإدراك ما رمى اليه هذا المؤرخ من ضرورة اعادة كتابة تاريخ لبنان، والتاريخ العربي بشكل عام تنقسم عبر مؤلفاته الى مواقف وعبر وملاحظات وأوراق ووثائق جمعها، وحققها ونشر الكثير منها في مجلته التاريخية "أوراق لبنانية"، بينما يبقى قسم مهم جداً منها، غير منشور حتى اليوم. وإذا كانت "أوراق لبنانية" قد عنيت بدراسة المخطوطات والحقائق التي رافقت تاريخ اللبنانيين، ودور البلدان الأجنبية - لا سيما الأوروبية - فيه، من القرن الثامن عشر حتى التاسع عشر، فالعشرين، فإن التوقف عند مؤلفات معينة من آثار يوسف ابراهيم يزبك، يلقي أضواء كاشفة على نمو حركة التقدم والارتقاء التي أسسها أحرار اللبنانيين على طريق السيادة المنشودة. فأين الدراسات الأدبية والتاريخية المعاصرة، من وجوب قراءة كتابه "ثورة وفتنة" الذي عالج فيه ثورة طانيوس شاهين ضد الظلم والاحتكار والإقطاع؟ أين هذه الدراسات من كتاب "النفط مستعبد الشعوب" الذي ألفه في الثلاثينات ودافع فيه عن حق العرب بنفطهم، قبل ان يشهد العرب عودة ملكية النفط اليهم، وذلك بعد ثلاثين عاماً على صرخة المؤرخ، اليتيمة في ذلك الزمن الغارق تحت الانتداب والحماية؟ أين الدراسات المعاصرة من استذكار كتاب "14 تموز" وما يعنيه من رموز المساواة والتآخي والحرية والعدالة؟ بل أين الدراسات المطلوبة أيضاً، لإعادة قراءة كتاب يوسف ابراهيم يزبك عن "دريفوس" وما يمكن ان تعنيه في هذه المرحلة من صراع الشرق الأوسط، ومحاولات تحقيق السلام؟ لقد كانت نظرة هذا المؤرخ الكبير، الى التاريخ واسعة وشاملة، وكانت عروبته هي الفضاء الذي جعله يؤرخ توحيد الجزيرة العربية على يد المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود، وذلك في كتابه "ليلة المصمك"، وكان حلمه قبل ان يرحل، ان يتمكن من وضع تاريخ شامل عن موحد الجزيرة العربية، يجمع معالم النهضة الجبارة التي أسس لها عبدالعزيز، وبنى وحدتها الراسخة المستمرة؟ عرفت الصحف اللبنانية والعربية، في معظمها، يوسف ابراهيم يزبك كاتباً فيها، كما أن اسمه وآراءه ترددت في جميعها، على مدار ستين عاماً من كفاح القلم الذي ظل شاباً حيّاً حتى اليوم الأخير. أما محاضراته عن الاحداث والقضايا العربية فقد شملت الهموم العربية جميعاً، وبقي طابعها الأول والدائم هو الطابع المنبثق من مفهومه للعروبة؟ فما هي العروبة عند يوسف ابراهيم يزبك؟ وبناء على أي أساس يمكن القول انه "مؤرخ العروبة"؟ في عام 1957، وفي محاضرات "الندوة اللبنانية" في بيروت، كان أبو ابراهيم، يدرك ما يُهيأ للبنان، من فتنة تفجرت في أحداث 1958، ومهدت بعد ذلك لانفجار عام 1975. وكان في معاناته الوطنية والقومية، يحرص باستمرار على تنبيه اللبنانيين الى ما يجمعهم في مقاومة ما يفرّق بينهم، فتحدث في محاضرته تلك عن "تطور الشعور العربي" منذ القدم حتى العصر الحديث مُستلهماً الوقائع والحقائق، نفسها، التي جعلت مؤلفه الأخير، الذي نشر بعد وفاته بعنوان: "الجذور التاريخية للحرب اللبنانية" يعكس الدروس المستقاة من الزمن القديم لمعالجة الزمن الراهن والزمن الذي قد يأتي، وبحيث ان ما دارت المحاضرة حوله، لم يكتف، منذ واحد وأربعين عاماً مضت، باستكشاف معالم العروبة، ولا باستطلاع عناوينها التاريخية بل انه أراد ان يقدم تحديداً خالداً للعروبة... جعله يستحق ان يكون هو مؤرخ العروبة... قال يوسف ابراهيم يزبك في محاضرته: "ما هو الشعور العربي، وعلام هذا الشعور؟ ان الشعور العربي هو تحسس الأنسان العربي كينونته، وابتعاثه ذكرياتها، في خاطره على الأقل، وهذا أيسر تعريف". ولكي يعطي التحديد الأكمل لما يبرهن عنه قال في عبارات ساطعة ما يؤلف بطاقة الهوية التي لم يعرف العرب بعد، في نهاية القرن العشرين، كيف يطلّون بها على العالم، متجانسين متآلفين، لتقوية الحوار الانساني بينهم وبين بقية الشعوب والأمم. قالها يوسف ابراهيم يزبك، ورحل قرير العين والفكر والقلب بهذه العروبة: "من ذلك الماضي العربي البعيد عادات وتقاليد، هي اليوم "القيم الانسانية" يموت كرام القرن العشرين، والصالحون والطيبون فيه، في سبيل ان يتشرفوا بالسير عليها: فالوفاء عربي، والمروءة عربية، والكرم عربي، والضيافة عربية، وغوث اللاجئ عربي، وحماية الضعيف عربية، والمعروف عربي، وصيانة العرض عربية، والصبر عربي، والشجاعة عربية، والعدل والعفو والشمم وانفتاح القلب، جميع هذا عربي، وفي كلمة واحدة: إن مكارم الأخلاق عربية". * كاتب لبناني مقيم في باريس