يحضر كافكا بقوة في رواية "نزيف الظل" للتونسي مصطفى الكيلاني، وإنْ كان الحضور "المعلن" هو لكونديرا أساساً" سواء من حيث "أريحية" الاستشهاد به وتصدير بعض فصول الرواية باقتباسات منه أم من خلال السعي إلى نوع من التنظير داخل الرواية. ولئن تعامل مصطفى الكيلاني أستاذ النقد الحديث، جامعة سوسةالتونسية مع النقد في مؤلفات عدة إشكاليات الرواية التونسية، مختارات من الرواية التونسية، وجود النص - نص الوجود، أسئلة الراهن والثقافة الممكنة، نداء الأقاصي، ليل المعنى فهو بدأ قاصّاً وأصدر في هذا النوع الأدبي بضع مجموعات هي: "من أحاديث المقص"، "أعوام الجراد والمخاض"، "حلم السبيل". أما "نزيف الظل" فهي روايته الأولى الصادرة حديثاً عن دار المعارف للطباعة والنشر في سوسة - تونس 260 صفحة من الحجم المتوسط. قد لا يكون حضور كافكا من باب التأثر المباشر، غير أنه يتجاوز المصادفة إلى الحلول في نسيج الرواية وأجوائها كنتيجة محتومة لطبائع الشخوص - ولا سيما شخصية "طُوَيْر الليل" المركزية الخفاش، باللهجة التونسية. وربما كان في ذلك "تحوُّله" الخاص، بدل التحوّل إلى حشرة، إذا أردنا الإمعان في المقارنة! أما الدوافع المؤدية إلى ذلك التحوّل، أو المسخ المعنوي في حالته، فيمكن اختزالها، حسب تطوّر أحداث الرواية، في ما يلي: - الاغتراب. - طبيعة العلاقة بالجسد، وبالأنثى، وبالآخر إجمالاً. - الشعورالوهمي نسبيّاً بالمطاردة إلى حدّ الجنون. - التعامل مع هشاشة الجسد جسده الخاص. - اختيار العزلة وملازمة الغرفة. - هيمنة "ثيمة" الشعور بالترهّل والقرف من الشكلاطة! مقابل المرض، اللزوجة، الحشرة" عند كافكا. - الإصرار على الكتابة والتأليف، بلا هوادة، على رغم الشك في النجاح وظهور بوادر الفشل. لكن مصطفى الكيلاني يضيف إلى كل ذلك مسائل عصره" من الاستقلالات إلى هجوم العولمة. ونستطيع أن نستغرب - لكننا نتفهّم - حضور كونديرا "المعلن"، في فتح النص الروائي على إمكانات متعدّدة منها التأمل والتنظير والاستدراك من أجل قراءة العصر، مقابل "اختفاء" كافكا وظهوره الموحي بالتشيّؤ الناجم عن كل ذلك. هكذا إذاً: يذهب مصطفى الكيلاني إلى زيارة كونديرا، ليخرج من سهرة عند كافكا! وكما تكشف الرسائل الخاصة التي تبادلها كافكا مع خطيبته فيليس، عن مراوحة بين حاجته إلى الأنثى والرغبة في معايشة وحدته، وصولاً إلى استعانتها، أي خطيبته، بصديقتها، فأحبّها بدلاً منها، نجد "طوير الليل" يتخلص من زوجته وابنه ويرتبط بعلاقات أنثوية أخرى سرعان ما تتكشف - ضمن جريمة غامضة لا تغيب عنها ملامح "طوير الليل نفسه - عن موت رمزي للمرأة من حيث الفشل الدائم في الارتباط بعلاقة مهدّدة بالتشيّؤ هي الأخرى. فمن الزوجة، إلى سعاد الرسّامة، إلى زينب، تتكثف ملامح امرأة قتيلة داخل البطل - الراوي، فيما تظل ملامح القاتل غامضة وعمومية، لأنه هو المؤلف! قاتل لا تنقصه المبرّرات: فهو مطارَد، والعاشقة الأولى "جاسوسة"، والثانية بدورها جاسوسة تائبة! هكذا يكتمل الحصار حول "طوير الليل" في "وادي الطين" حيث يعيش بين الضفادع والبعوض والرؤى: النساء ضفادع، والحلم بالعالم حوضاً من الشكلاطة السائلة! ولن ينجو "طوير الليل" من التواطؤ، وهو الهارب منه، إذْ يعمل مستشاراً في غير اختصاصه الاقتصاد! لدى غريمه الناجح، وتكون الحرب بينهما على قدم وساق، ووسيلتهما الأساسية فيها هي المرأة! ويسهر "طوير الليل" دائماً ليكتب رواية الشكلاطة الفاشلة، حالماً "ببناء مدينة الشكلاطة بلغة الشنفرى"! وعندما تصدر الرواية أخيراً يمدحها أحد النقاد المرتشين، بعد أن دفع له "طوير الليل"! ليهاجمها ناقد آخر فضلاً عن "الصحافيين الذين نسفوا روايته نسْفاً بما كتبوه من مقالات حاقدة"! وتتواصل كتابة الرواية أو بالأحرى إعادة كتابتها في صيغة ثانية وثالثة. لكن النجاح لا يحالف "طوير الليل"، في الحياة كما في الكتابة، بسبب مشاكل واقعه المتكثّفة ظاهريّاً في امرأة قتيلة تعشش بين ضلوعه ولا يستطيع التخلّص منها. قد يدخل "طوير الليل" في طور تدريجي من فقدان الذاكرة، أو يتظاهر بذلك، كما بدا لصديقته سعاد، فيما تقترب هي من ملامح القتيلة فتْحيَّة عبدالحق لاحظ الاسم! ويعود إلى روايته متشكّكاً: ما جدوى الكتابة؟ يتفاقم وضعه ويبدأ بالخلط بين الأشياء: "ترتعش الصور كي تستعيد بعضاً من خيالات مدن إيتالو كالفينو اللامرئية ... كأنها بغداد ... الجثث، دموع الأمهات وألسنة الدخان والحرائق ... ودمشق تلملم الذكريات ... والنيل قطعة من ليل أبدي ينام على ضفاف الصمت وعمّان جذلى فاتحة ذراعيها...". أوردنا هذا المقطع كعيِّنة على ما تزخر به رواية مصطفى الكيلاني من مصطلحات وأسماء أماكن وأعلام كونديرا، إيتالو كالفينو، دولوز، أفلاطون، ماركس، ستالين، فوكوياما، أوفيديوس، جلجامش، سقوط الاتحاد السوفياتي، فضيحة كلنتون ومونيكا، اقتصاد المكسيك والعولمة الخ... في هاجس عارم بتصوير واقع العصر! وقد تكون النتيجة في نوع من الانكفاء ووهم العودة إلى المشيمة، أو اختفاء الجميع لأنهم كانوا مجرد هاجس في "نوباته العصبية المفاجئة"؟ لكن مع إصرار من نوع آخر يظهر في هذه الأسطر الأخيرة التي تشكل خاتمة الرواية: "هل بقي للراوي المُكنَّى "طوير الليل"، مجنون الغرفة رقم 311 سابقاً، الشهير ب"باتيستا"، شيء آخر سوى الإبحار ضد التيّار حدّ الموت ومحاولة إعادة كتابة روايته "الشكلاطة" بحثاً عن آخر نزيف للظل، عن أوّل نزيف؟".