دخلت انتفاضة الأقصى في 28 أيلول سبتمبر 2003 عامها الرابع، ولعلها مناسبة لقراءة الموقف في فلسطين على نحو يستجيب لصراع وعالم تبدو فيه الحقوق العربية ضائعة وأقرب إلى الضياع والانحسار. ولذلك فإن هذه القراءة ستلقي بالتزامات صارمة على الدول العربية والإعلام العربي. ظهر بهذه المناسبة بعض الاجتهادات والقراءات، غلب على جزء منها الطابع العاطفي الأخلاقي وربما الايديولوجي فطالب باستمرار الانتفاضة مهما كان الظرف والأثر، ومنها ما ربط بين فشل عملية السلام وبين استمرار الانتفاضة، بل منها ما ربط مباشرة بين الأضرار التي تلحق بالشعب الفلسطيني وانتكاسة لنضاله وبين ما أسماه عسكرة الانتفاضة، فانصب الاعتراض لا على الإنتفاضة ذاتها، وإنما على وسائلها. وهناك فريق ثالث اتهم الانتفاضة بقصر النظر وعدم الواقعية بالنظر إلى الخسائر الفادحة التي تفرضها إسرائيل على الشعب الفلسطيني باستمرار الانتفاضة بعد كل عملية تقوم بها بخاصة داخل أراضي إسرائيل. ولم تعدم الساحة فريقاً رابعاً وجد أن طريق السلام لا يمكن أن يتحقق بالضعف والقوة، وربط بين تعنت إسرائيل واقتناع المجتمع الإسرائيلي بنظريات شارون وبين استمرار الانتفاضة، بل وجد هذا الفريق، وهو يتخذ موقفاً مماثلاً أو قريباً في الواقع من الموقف الإسرائيلي وركز نظره على خسائر المدنيين الإسرائيليين وغض الطرف عن سواهم، فنصح بأن استمالة الشعب الإسرائيلي إلى القضية الفلسطينية لن تنجح إلا بوقف الانتفاضة، ورفض هذا الفريق المقارنة بين خسائر الشعبين في الأرواح، وغيرها من أوجه الحياة. وقد اعلن بعضهم صراحة أن الخلل الديموغرافي بين الشعبين يجعله قلقاً على الخسائر البشرية حتى لو قلت في الجانب الإسرائيلي. وفي صفوف هذا الفريق من يبدون أكثر رحمة أو أكثر خبثاً، فيرجعون خسائر المدنيين الفلسطينيين وما يصيبهم إلى رعونة المنظمات الفدائية وعجز السلطة عن ردعها، فأصبحت الصورة عندهم وقد اختزلت في سلطة مكلفة بلجم الفلسطينيين أمام تصرفات إسرائيل السياسية والعسكرية والإجرامية، ولكنها فشلت في منع الفلسطينيين من التصدي للإسرائيليين بما ملكت أيديهم، ولم يدركوا أن عجز السلطة ليس في الحقيقة في لجم المنظمات، وإنما في تعمد إسرائيل خلق ظروف تجعل المواجهة حتمية بين السلطة والفصائل، والكل يدرك داخل فلسطين وخارجها أن الشعب الأعزل ينطق حاله بما نطق به شاعرنا العربي منذ قرون: فإن كنت لا تسطيع دفع نيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي وقد طرأت على ساحة الصراع خلال العام الثالث للإنتفاضة تطورات جوهرية يجب رصدها والخلوص إلى ما نعتقد أنه الأصوب من مواقف وسياسات. لقد تمكنت إسرائيل من إحداث هذا القدر الهائل من البلبلة في الصفوف العربية والفلسطينية، فجعلت الموقف غائماً والبدايات معتمة، وامتد أثر الموقف الإسرائيلي إلى العالم الخارجي برسالة قصيرة واحدة أحسنت صياغتها، وهى أن السلام يبتعد عن المنطقة والشعب الفلسطيني، وكذلك الإسرائيلي حيث يزداد شقاؤهما، وأن السبب الوحيد في ذلك هو عجز السلطة التي تستمد شرعية وجودها من قدرتها على قمع الانتفاضة بعد ان ألقت إسرائيل من صور البشاعة والكراهية على المنظمات الفلسطينية ونشاط فصائلها الكثير الذي رافقه ضغوط أميركية وإسرائيلية غلاّبة جعلت حتى مجرد تقديم الزكاة للمنظمات الفلسطينية أو العطف على ما آل إليه حال الفلسطينيين مشاركة في تغذية "الإرهاب الفلسطيني". الحق أن إسرائيل وهي تواجه الانتفاضة استخلصت أنها بما استحدثته من عمليات استشهادية هى أخطر ما واجه إسرائيل في وجودها منذ نشأتها وأن استمرارها هو الرد الحاسم على البطش الإسرائيلي الذي لا يمكن رده إلا بعمل مؤلم مضاد، خصوصاً أن هذا العمل يأتي من أصحاب الحق الذين طاردتهم الدولة العبرية في أراضيهم ومنازلهم وأرزاقهم، ثم تعمل على سلبهم الحياة لكي تصبح حكراً على الإسرائيليين مادامت دولتهم تملك القوة وعدوها أعزل إلا من الإرادة والتمسك بالحق والإصرار على انتزاعه. لذلك وضعت إسرائيل استراتيجيتها على أساس وقف الانتفاضة من دون أن تقدم هي شيئاً في المقابل، ثم تعقبت رموز الانتفاضة وكل من له علاقة بها داخل الشعب الفلسطيني، وقامت بتفكيك منظماتها وحظر أنشطتها وتجفيف مصادر تمويلها وتسليحها وأنزلت أبشع الخسائر البشرية والمادية بنشطائها وقياداتها. وساعد اسرائيل على ذلك أن واشنطن تساعدها علناً، بل سعت لكي ينقلب الموقف العربي الذي كان متعاطفاً مع نضال الشعب الفلسطيني ناقماً على بطش إسرائيل. وتنادى العرب بدعم المقاومة وصمودها مادياً ومعنوياً وديبلوماسياً وسياسياً، وأكدوا في كل قراراتهم أنها الرد الفلسطيني، بما في ذلك العمليات الاستشهادية على تعنت إسرائيل واستمرار احتلالها. لكن الضغط الأميركي العاتي حوّل الساحة العربية الرسمية تحولاً كاملاً عن الانتفاضة نحو ما يمكن أن يكون مساندة لموقف إسرائيل، فلم تعد القرارات ولا الإعلام يتحدث عن شرعية المقاومة بعد أن تطور التراجع ومر بمراحل بدأت بالتأكيد على حق المقاومة بكل الاساليب والوسائل، وبأن العمليات الاستشهادية هى المعادل الاستراتيجي لقوة إسرائيل الخارقة. وفي مرحلة تالية بدأ فرز صفوف المقاومة فحصر البعض المشروع منها فيما يتم ضد أهداف عسكرية في فلسطين وفي إسرائيل، ثم قصر المشروع منها على الاهداف العسكرية وحدها داخل الأراضي الفلسطينية، فأصبحت المقاومة عبثاً يضر استمرارها بمصالح الشعب الفلسطيني، وأصبحت رموز المقاومة شؤماً على شعبها وبات المخلصون لها يتعرضون للعقاب الجماعي الإسرائيلي، تماماً كما حدث لزعماء الثورة العرابية في مصر في ثمانينات القرن التاسع عشر فيما أعلنه محمود سامي البارودي دون أن يصر على شرعية الثورة وبطولة الثوار في قصيدته الشهيرة "في سرنديب" التي يقول فيها: فإن كنت قد أصبحت فلّ رزية تقاسمها في الأهل باد وحاضر فكم بطل فل الزمان شباته وكم سيد دارت عليه الدوائر وأي حسام لم تصبه كلالة وأي حصان لم تخنه الحوافر أما شارون فقد أدار المعركة باقتدار بدأ بضمان الموقف الأميركي المؤيد له تأييداً أعمى والمبرر لكل ما يراه متصلاً بتأمين الشعب الإسرائيلي، وفي سبيل هذا التأمين استحل كل شيء واستباح كل عمل، حتى ما اعتبره الرئيس بوش بطل السلام وأوهم شعبه أنه مثل بوش مبعوث العناية الالهية ليؤدب البرابرة ويثبت ملك الشعب المختار، وربما أوهم بوش هو الآخر بان الشعب الأميركي كزميله الإسرائيلي شعب مختار أيضاً. وضمن شارون أن تقوم واشنطن بارهاب العالم العربي كي ينفض يده من المقاومة حتى إذا خبت جذوتها وأكملت إسرائيل دورة الإبادة التي تمارسها على مدار الساعة انبلج صبح جديد لا ترى فيه أراضي فلسطين إلا مقابر الشهداء وبقايا شعب بائد فصله اليأس والبطش عن ماضيه. ومؤدى ما تقدم أن الإنتفاضة الفلسطينية واجهت في العام الثالث لها، أخطر التحديات داخل العالم العربي وداخل فلسطين، وهي تدخل عامها الرابع، وقد تفاقمت ظروف التحدي من حولها. ومع ذلك تحوطها قلوب الشعب الفلسطيني والشعوب العربية العاجزة المنهكة التي غيبت عن كل الساحات وعجزت عن السيطرة أو المشاركة في القرار. ولم يتوقف المتحالفون على الإنتفاضة لحظة للسؤال أو التساؤل، وماذا لو توقفت الانتفاضة تماماً على أساس أنها فصل من الثورة الفلسطينية والرفض الفلسطيني الدائم لإنكار وجوده والعجز الشامل عن تأكيد هذه الحقوق. فالإنتفاضة ليست كما تقول إسرائيل أداة أو سيفاً يمكن أن يسل وأن يغمد عند اللزوم، كما أن الانتفاضة والمنظمات الفلسطينية لم تنشأ خصيصاً للقتال حتى إذا ساد السلام تحولت إلى مافيا تبحث لنفسها عن وظيفة وأن السلام هو الذي يقتل طموحاتها التي لا تتحقق إلا في أحوال الصراع. وليس صحيحاً أن الانتفاضة الأولى التي تمخضت عن أوسلو أحسن حظاً من انتفاضة الأقصى التي تمخضت عن أفكار هشة اسمها "خريطة الطريق" لتداعب أحلام الفلسطينيين في دولة فلسطينية أياً كان شكلها أو مساحتها أو طبيعتها، وأن انتفاضة الأقصى أفرزت زعامات دموية مثل شارون وموفاز وأيقظت شهوة إسرائيلية تاريخية إلى الدم الفلسطيني في ظروف غير مواتية عربياً ودولياً. كذلك ليس صحيحاً أن تغيير شارون سيغير من أداء إسرائيل أو أن تغيير بوش سيؤدي إلى ارباك الحسابات الإسرائيلية. وخلاصة القول إن شارون، كما يقول أصدقاؤه، لا يريد السلام، لكنه مستعد للتنازل والقبول بعملية السلام التي تكمل برنامجه في الإبادة الفلسطينية، وان المكاسب الاستراتيجية التي تحققت للشعب الفلسطيني من جراء الإنتفاضة لن تدركها الحسابات القاصرة في هذا الظرف الذي يتعرض فيه الشعب لبرنامج الإبادة سواء استمرت الإنتفاضة أو توقفت وأن نقطة الخلل في ميزان المواقف والقوى العربية إزاء إسرائيل وأميركا، هو الذي يجب ان يتجه إليه الإصلاح. ولذلك فنحن في حاجة إلى إعادة التعبير الحازم والشجاع عن المواقف يؤكد شرعية المقاومة فلسطينية مادام الاحتلال والبطش قائماً، ومساندة هذه المقاومة مهما كان الثمن، وإلا كان ذلك إقراراً بشرعية الاحتلال وشرعية الإبادة وتسلط إسرائيل فتصبح قرارات مجلس وزرائها وبرلمانها وأحكام محكمتها العليا هو القانون الدولي ومصدر الشرعية الدولية الواجبة الاحترام. * كاتب مصري.