جدة تستعد لاستقبال مهرجان "منطقة العجائب" الترفيهي    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    الإتحاد يُعلن تفاصيل إصابة عبدالإله العمري    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    مبارة كرة قدم تفجر أزمة بين هولندا وإسرائيل    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الثقة به مخاطرة.. «الذكاء الاصطناعي» حين يكون غبياً !    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    984 ألف برميل تقليص السعودية إنتاجها النفطي يومياً    «مهاجمون حُراس»    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    حديقة ثلجية    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    الهلال يهدي النصر نقطة    رودري يحصد ال«بالون دور» وصدمة بعد خسارة فينيسيوس    وزير الصحة يتفقد ويدشّن عدداً من المشاريع الصحية بالقصيم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    الغرب والقرن الأفريقي    جودة خدمات ورفاهية    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    رحلة طموح    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    الأزرق في حضن نيمار    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قاص وروائي عراقي يطل من أُفق نصف قرن من الابداع ... وأعماله الكاملة تصدر تباعاً . فؤاد التكرلي : الواقعية مرجعي الروائي والكتابة وعي بالذات والعالم ... واللغة أساس
نشر في الحياة يوم 26 - 10 - 2003

تثير القصة التي كتبها الجيل الأول من المجددين، مع مطالع خمسينات القرن العشرين، أسئلة عدة، لا بشأن هذه القصة بصفتها فناً فقط، بل وفي آفاق العلاقة - التي تجلت، بداية، وكأنها حتمية - بالواقع. هذا الواقع الذي سيتمثّل ولا نقول: ينعكس في قصة هذا الجيل على نحو يجعل من هذه القصة، في مستوى المضمون كما في مستوى الشكل الفني، مشروع إجابة عن عديد الأسئلة التي ربما يكون القاص نفسه أثارها، قبل أي أحد آخر، بشأن ما ينبغي أن تكون عليه قصة قصيرة تكتب في عصر يشهد مخاضاً من التحولات والصراعات التي يعيشها المجتمع... وتتزامن فيه، معها، الرؤى الجديدة، وقد استأثرت بها ألوان الكتابة الجديدة، ومنها: القصة.
فإذا كان هذا الفن هو الذي مثَّل هذه البداية، الموضوعية والفنية... فإن الرواية ستأتي من بعد لتكريس سؤال الابداع على نحو أشمل وأعمق، وأكبر جرأة... وهو السؤال المتصل بالانسان - إنسان مجتمع الكاتب - الذي نجده، من خلال عديد الأعمال، غارقاً في مشكلات واقعه، وقد نلتقيه نادباً نفسه طرفاً فاعلاً في صراعات هذا الواقع، وهو يحمل "أفكاره الخاصة" ساعياً بها الى أن يجعل منها "صيغة مقترحة" لحياة إنسانية يبحث لها عن تحققاتها الفعلية.
في مثل هذا المناخ ولدت قصة القاص العراقي الرائد فؤاد التكرلي وعاشت... ومن مثل هذا المناخ بثقت رؤيته للواقع - وهي رؤية ستبثّ في ثنايا استجابة فنية يدعوها النقد الأدبي بالاستجابة الواقعية التي ستثير، هي الأُخرى، أسئلتها بشأن الواقع، والانسان، وبشأن اللغة والشكل الفني للقصة. وعلى أساس تكامل الرؤية، وتعدّد الأصوات، واتساع ساحة الصراعات، وتعدّد مخاضات التجربة الانسانية في هذا الواقع... ستكون الرواية ميلاداً فنياً آخر، يتعزز بالتجربة نفسها، وبالرؤية الواقعية للواقع... وسيكون المجتمع ذاته أُفق حركتها، في كل ما لها من توجهات، أو تعتمد من صيغ.
هكذا ولدت مجموعة "الوجه الآخر" في الخمسينات لتؤسس لقصة جديدة في الأدب العربي الحديث، ولتأخذ مداها في تطوير مفهوم الواقعية في الأدب.
ومن الرحم ذاته ستولد "الرجع البعيد" لتؤكد الرؤية الروائية لكاتب اختبرت الكتابة الابداعية نفسها معه بنجاح... لتعقبها روايات أُخر: "خاتم الرمل" و"الأوجاع والمسرّات"... في خطوة يتكامل بها الهاجس الابداعي لكاتب عرف باتجاهه الواقعي - التجديدي.
وإذا كانت الرؤية الاجتماعية - الواقعية قد أطّرتْ أدب التكرلي، القصصي والروائي والمسرحي..، فإنها كانت دافعاً لإحداث التنوع فيه. هذا التنوّع الذي ستغتني منه هذه الرؤية، وسيعدد فيها زوايا النظر الى الانسان والمجتمع، بما يندفع بأدبه، قصة ورواية ومسرحية، الى ما يحقق خصوصيته الموضوعية والفنية. إن التكرلي وهو يتعامل مع الواقع، بما له من رؤية ابداعية ممتلكة خصوصيتها، بدا، في عديد الأعمال التي كتب، وكأنه يتعامل معها بطاقة استثنائية... وبدرجة عالية من التأكيد على الابداع الخلاّق. ظلّ هذا الكاتب المبدع، على امتداد مسيرته الابداعية، التي جاوزت نصف قرن، يواصل تطوير فنه وتوسيع نطاق رؤيته في مستوى من الانضباط الفني الذي لا يتوفر إلاّ لكاتب كبير مثله. وأحسب أنه في ما كان له، في قصته القصيرة تحديداً، من شكل فنّي، غنيّ وقويّ، استطاع أن يغيّر التفكير والتوجّه في هذا اللون من الكتابة الابداعية، واساسه: تغيّر التفكير الاجتماعي لدى التكرلي وجيله.
وإذا كان الجيل الذي يشكل التكرلي علامة ابداعية بارزة فيه قد تكوّن فكرياً وثقافياً في واقع تزامن فيه تياران، وجوداً وتأثيراً، وهما: التيار الواقعي الذي سيأخذ صفة "الاشتراكية" مع هذا الجيل - وهو جيل سياسي بامتياز - والآخر: التيار الفكري الوجودي الذي سيحمل تأثيراته عن الحرية، والانسان، وعن معنى الوجود، فإنّ نموّ هذين التيارين في بيئة ثقافية متفتحة على الجديد والتجديد، وتكاملهما في الرؤية الابداعية لغير كاتب من كتّاب تلك الحقبة، سينتج عنه أُسلوب متميز لفن يسهم إسهاماً أساسياً في ارساء دعائم أدب حقيقي وجديد، نزعة وفناً، أدب اتجه الى الانسان، بضميره الفردي، وبمشكلاته الشخصية، ومفاهيمه عن الحياة والحرية. وبكل ما له الأولوية في اهتمامات هذا الانسان. وكان فؤاد التكرلي من الدعائم الأساسية لقوى التجديد هذه، في ما كتب من قصة إبان الخمسينات وبتواصل حلقات الابداع معه الى اليوم.
تأسيساً على هذا كله، وانطلاقاً منه، فإن الكلام على أدب التكرلي ينصب في مسارين متجاورين ومتتابعين، لا انفصال في مساريهما، وهما: الموضوع، والفن.
حاولتُ الشيء ذاته في الكلام معه في فنّه. كما حاولت أن أجعل من هذا الحديث نقطة اقتراب، لي وللقارئ، من عالمه الشخصي في الفن. إلاّ أنه آثر، كما هي عادته، أن يظل على مسافة من بعض الأسئلة التي طرحتها عليه، متحفظاً، تحفظه المعهود، مع بعض آخر منها.
يذهب أحد الكتاب العرب في القول الى أنه من المستحسن أن نستمدّ من واقعنا الحياتي دروساً تطلعنا على بعض وظائف الأدب وكيف يؤثّر في واقع الانسان وفي حياة المجتمع...
- هذا قول صحيح لا يعترف به الكثيرون، وتحيطه الشكوك. كيف يؤثر الأدب - والفنون عموماً - في حياة الانسان الفرد؟ وهل هذا أمر ممكن، أم أنه لا يعدو أن يكون افتراضاً غير واقعي؟ تلك قضية كبرى، بالطبع، ولا سبيل الى إثباتها بأدلة قاطعة ولكن القرائن والمظاهر وبعض الدلالات تشير الى أن واقعنا الحياتي يمنحنا، لا دروساً، بل مواقف إنسانية تبدو فيها ملامح تأثر البشر بالأدب، سواء من طريق أقوالهم أو تصرفاتهم. وبتأثر الأفراد يمكن أن نستنتج أن المجتمع، عموماً، قد تأثر أيضاً.
هذا يقودنا الى السؤال عن "الواقعية" التي طبعت مرحلتكم بسماتها: على أي نحو كانت علاقتك بها مفهوماً؟ وكيف تطور واقع الكتابة عندك؟
- ليست الواقعية، بالنسبة إلي، قانوناً أو مذهباً ملزماً، بل هي عملية تزويدي بالمادة الخام لأعمالي القصصية والروائية. بهذا المفهوم تبقى لي حريتي الداخلية لتشكيل الانسجام بين أفكاري وبين المادة التي أعثر عليها. وفي اعتقادي أن مفهوم الكتابة لم يتغير عندي، ولكنّ طاقتي الكتابية تغيرت، وهي التي اتسعت ونضجت على مرّ السنين.
ولكن... هل ما تزال تعدّ نفسك كاتباً واقعياً؟
- قلت، قبل قليل، إنّ المادة الخام التي أُشكل منها أفكاري واقعية... أما وصفي بأني كاتب واقعي فذلك ما لا يروق لي. إنه تحديد وتضييق لا فائدة منه.
عندما انظر الى ما تكتب اليوم، من زاوية أُخرى، أجدك تتواصل مع أشكال الكتابة بروح متجددة فنياً كأنك تريد التأكيد أنك وجيلك - جيل التجديد الأول - تمثلون الكتابة الابداعية بصيغتها التي ترون ان العصر لم يتجاوزها.
- الطاقة الابداعية الحقة تبقى - في ظني - منتجة لأعمال تبعث على الاحترام ما دام الانسان حياً. أما ما يتبقى فهو تقويم هذه الأعمال، وهو أمر متروك - بالضرورة - للأجيال القادمة.
ولكن، كما يبدو، أنك ما تزال تحتفي بالأشكال الفنية للكتابة، كما عرفتها وجرّبتها.
- هذا صحيح... فمن دون شكل فني يقدم لك عملاً ذا دلالات إنسانية عميقة ومؤثرة لا أجد داعياً للكتابة أصلاً.
في ضوء هذا، أين تتمثل لك جدّة الكتابة وتجديدها، وحداثة المكتوب؟
- هذه أقوال يشوبها الغموض قليلاً... أُفضل أن أستعمل كلمة "رؤيا" مختلفة مقدَّمة بشكل ملائم ومنسجم. الجدّة في الكتابة نادرة جداً، ولا تظهر في كل وقت... ومن المستحسن أن نلجم تلك الاندفاعات التي لا أساس لها، من أجل الإتيان بجديد، مهما كلف الأمر.
ولكنك ما تزال تكتب عن بيئتك التي عرفت وعشت وعايشت. فهل تعدّ هذا "الالتزام" مع البيئة الأُولى شرطاً موضوعياً لازماً لك في الكتابة؟
- كلا. ولكنني أشعر بأن بيئتي هي التي أُتقن الكتابة عنها بحرارة.
هذا يعيدنا الى مجايلك الروائي غائب طعمة فرمان الذي ظل، على رغم انتقاله الى بيئة اجتماعية أخرى، واختياره الحياة الجديدة.. يكتب عن بيئته الأُولى وحياته فيها.
- كانت لدى الصديق غائب طعمة فرمان حاجة نفسية عميقة لمعاودة العيش في بيئته التي فقدها مبكراً، ولم يشعر أن في امكانه أن يتوازن إلاّ باسترجاعها من طريق استحضارها فنياً.
أُريد، أيضاً، أن أسألك عن "البيئة الجديدة" التي اخترت الحياة فيها من سنوات؟
- هي بيئة ثانوية بالنسبة إلي، وباب نفسي مغلق أمامها.
إذاً، كيف تعيش حاضرك في مستوى علاقتك بذاتك القديمة - إذا جاز التعبير؟
- بإعادة الاتصال، بين فترة وأُخرى، بموطن مادتي الروائية الخام. هذه الزيارات الى العراق العزيز تُعيد لي توازناً فنياً من نوع خاص.
بأي معنى تعدّ الكتابة مصدراً لاغناء حياتك؟
- الكتابة، بدءاً، هي، في نظري، الوعي بالذات الذي يفضي الى الوعي بوجود الآخرين والعالم، وبهذه الطريقة يتعدد "الأنا" ويتوسع بالضرورة. وفي مرحلة معينة من الزمن الإنساني، يجد الكاتب نفسه تحتوي على حيوات أخرى، تعمق نظرته ورؤاه الى العالم. ذلك انه، في خضم عملية الابداع، "يخرج" من ذاته نحو العالم والآخرين، أو، بصيغة أخرى: يتعالى على وجوده المادي، مما يمنحه غنىً لا اسم له ولا مثيل.
لا أدري لماذا لم تقرر، حتى الآن، كتابة "سيرتك" الأدبية والحياتية؟
- في الحقيقة، لا أحسب أن يهتم أحد بحياتي الخاصة.
لو فكرت اليوم، أو غداً، بكتابتها... فما العلامات الأساسية التي ستضعها لنفسك على طريق ما يمكن ان تكتب؟
- المعذرة... لم أُفكر، ولا أُفكر بكتابتها.
وهل تجد لديك اليوم ما لم تقله، أو تكتبه؟
- نعم. أتوقع أن أجد اليوم، أو غداً، ما لم أقله في أعمالي السابقة. فالعالم يتغيّر بسرعة ولا بدّ من أن نتغير معه.
وهل يتمثل هذا، عندك، في صيغة أسئلة تطرحها على نفسك والواقع، أم في صورة حقائق؟
- لا هذا ولا ذاك، بل في صورة معايشة شخصية ومعاناة لتجارب جديدة يمكن أن تفجّر ألف رأي وفكرة.
وأي رهان تعقد اليوم على المستقبل؟ أطرح هذا السؤال عليك وأنا أجد غير واحد من مجايليك لا حديث له سوى الماضي، وكأنه يعمل على إعادة ترتيبه.
- كأنني أعيش أبداً. أما إعادة ترتيب الماضي فهي عملية عبثية ومضحكة.
ولكن، يبقى لعملية "تذكّر الماضي" وقع خاص على النفس...
- هذا صحيح تبقى ألحان الماضي شجية.
ألا تجد "أبطالك" مسحوبين، نسبياً، من الواقع حتى أمام ما يمكن أن يعدّ مشكلات شخصية؟
- أبداً. هذا ما يمكنني أن أؤكده. هم ليسوا مسحوبين، ولكنهم يحاربون بحسب طاقاتهم. أما النتائج...
كذلك يبدون وكأنهم يعيشون "غربتهم الذاتية"، حتى وهم بين أهلهم، وفي مجتمعهم.
- كلنا جرّب ذلك، لا أبطال الروايات فقط.
إنني أتوجه إليك بمثل هذه الأسئلة بحكم كونك ابن مرحلة سياسية بامتياز... لأسألك أيضاً: ماذا أعطتك تلك المرحلة من صراعات وتحولات؟
- ماذا يمكن أن تعطيني سلسلة رهيبة من الصراعات الدموية والاضطرابات العامة والانقلابات المتكررة غير القلق والشعور بعدم الأمان والاستقرار... وغير نظرة تشاؤمية بعدم جدوى السعي الى البناء وتأسيس عناصر حياتية دائمة؟ يذكرني هذا بما شاهدته - بصورة عابرة - في باريس، حينما رأيت قطعة سوداء مكتوباً عليها بحروف كبيرة وملصقة على مدخل أحد الفنادق العادية: سكن فرويد في هذا الفندق في سنة كذا...، وبالطبع لا يحمل هذا الموقف سوى دلالة واحدة هي: تأسيس البقاء للمتميزين من البشر. أما نحن، فإن الزوال يحيط بنا من كل جانب. لذلك أجد أن مخلفات المرحلة السياسية التي تتفضل بالقول إنني ابنها بامتياز، هي مخلفات عقيمة ومريرة بامتياز. أمر، لا شك مؤسف، ترك بصماته السود على كتاباتنا.
وكيف تجد علاقتك اليوم بالواقع؟
- لا يزال الواقع يزودني بالمادة الخام التي أجد فيها، أحياناً، جواهر نادرة.
وباللغة؟ وبالكتابة؟
- اللغة شيء هلامي، أثيري مذهل. هي كل شيء في الكتابة، وهي كل شيء لي. لا جدوى من أي عمل من دون لغة خاصة، به وبك.
وعلى أي نحو وجدت موقفك هذا يتحدد بالنسبة الى الانسان والعالم؟
- الانسان والعالم... مسميات عمومية لا حدود مفهومة لها. واذا أردت أن تسأل عن كيفية تشكيل نظري أو موقفي من العالم والبشر، فالجواب هو من خلال التجارب التي نعانيها ونحن نعيش في مجتمع لا يلبي حاجاتك الفكرية والعاطفية. تجربة " رد فعل " تأمل " مقارنة = فهم معوج للانسان وللعالم، نبذل جهدنا لجعله مستقيماً... من دون جدوى.
أجدني أعود معك الى الماضي لأسأل عما إذا كنت تجد نفسك مدفوعاً، الى معرفة ماضيك أكثر مما كنت عرفت منه من قبل؟
- الماضي، بشكل أو بآخر، هو سجلّنا غير المدوَّن... وهو عندي مرجع لأشياء كثيرة، وأنا أحاول ألاّ أسترجعه أو أستغرق فيه أكثر مما ينبغي. لديّ نزوع دائم لعدم نسيان تفاصيله، فهي مادتي الخام - كما تراني أُكرر - وهي ينبوع أعمالي.
إذا كان الكاتب يتحدد، توجهاً ووضعاً بأكثر من موقف... إذ هناك الموقف من الأشكال السائدة في مستوى ما يمارسه من فن، وهناك الموقف من أساليب التعبير، وهناك الموقف من العالم، والموقف الذي يريد الكاتب، هو نفسه، ان يتخذه في هذا العالم. فماذا تقول في كل موقف منها؟
- هذا سؤال مهم وخطير، بالنسبة الى الكاتب الروائي بصورة خاصة. فمع عالم معقد ومختلف الأوجه، فنياً وفكرياً واجتماعياً، ماذا في إمكان الروائي أن يعمل؟ هو ليس مجبراً أن يتبع، تلقائياً، ما يستجد على الساحة عموماً. هنالك نزعات هوائية كثيرة في الأدب والفن، وحتى في المجال الفكري، تبرز ثم تغيب على الفور، مثل فقاعة صابون. هذه أشياء يجب الحذر منها، لأنها لا تحمل معها غير العقم واللاجدوى. وفي المقابل تستجد، بين الحين والآخر، مذاهب ومدارس جادة تستحق منّا الاهتمام الحقيقي ومحاولة الفهم. أقول هذا من أجل أن اؤكد، بعد ذلك، أن على الكاتب - والفنان - أن يتفحص بعمق هذه المستجدات التي تغطي ساحته الأدبية، وأن يتخذ موقفه منها بحسب علاقتها بالفن الذي يمارسه. أقرأ أحياناً روايات يقال عنها إنها فتح جديد في عالم الرواية، وقد بيعت منها ملايين النسخ. الانتشار الآني لا يعني شيئاً بالنسبة إليّ، وهو لا يمنع من أن يكون العمل فارغاً ومزيفاً. وليس هناك من يعرف هذا غير الروائي. هناك لوحات فنية تعرض أمامنا كآخر الروائع الفنية الجديدة، ولكن إذ تتمعن فيها وتُحكّم ذوقك الذي صقلته خلال سنوات وسنوات، تجد أنها لوحة لا أساس فنياً فيها، ولا تحوي ذلك الانسجام اللوني الذي يعجبك. تلك مواقف تتشكل على مدار الأعوام في دنيانا هذه، وهي غير ذات أهمية إلاّ للكاتب والفنان الذي قد تؤثّر فيه وتُربك رؤياه السابقة للعالم. لذلك كنت دائماً على حذر من الجديد الذي يبالغون في عرضه وتجميده، لأنني أسستُ - منذ البدء - منهجاً منطقياً في تشييد رؤاي الفنية / الأدبية. لذلك بقيت أتقصّى آثاره ونتائجه قبل أن أفكر بتغييره وتجديده، والمشكلة العظمى في التجديد هي: لماذا؟ وأي سبب يدعوني الى التجديد؟ أهو الملل؟ أم التجديد من أجل التجديد؟ أم لإرضاء القراء، أو الناشرين؟ هذه كلها ليست أجوبة مقنعة. التجديد يقتضي - أساساً - تغييب الرؤيا العامة للعالم، أو، على الأصح، تغيّر هذه الرؤيا. وهذا التغيّر لا يتم بين يوم وآخر بحسب رغبة الكاتب أو الفنان... إنه معاناة من نوع خاص، بين المستجدات الحقيقية والمزيفة وبين الذات المبدعة... وهو - التغيّر - صدام مستمر بين القناعات المستقرة وما يقف متحدياً لها. كما أنه لا يتم إلاّ تدريجاً، وأحياناً بغير شعور كامل من الكاتب.
ولكن .. ما الذي يهمك أكثر من سواه، وتعمل على الابقاء عليه في هذا العالم، من خلال ما تكتب؟
- الأصالة والعمق في رؤياي الخاصة للعالم والانسان.
وبالمقابل، ما الذي كنت، وما تزال، تعمل على تغييره؟
- اللغة، والشكل الفني.
بأي معنى؟ بأي أبعاد؟ ومن أجل أن تحقق / أو يتحقق لك... ماذا؟
- بمعنى العمل المستمر والجاد للاقتراب من لغة ذات جمالية خاصة بها كلغة روائية. ملتصقة بالعمل ومدمجة معه وخالقة له. وبالطبع، ماذا يمكن ان يتحقق غير عمل فني روائي متميز؟
غالباً ما يقترن، الابداع الأدبي، عندنا، بفكرة التحقيب، إذ ندعوك ومجايليك بجيل الخمسينات، وندعو من جاء من بعدكم بجيل الستينات. حبذا لو نتوقف عند ما ترى من علاقة بين الجيلين، لأسأل: كيف تجدها؟
- فائدة التحقيب فائدة مدرسية، لنتركها لمدرسي الأدب ونقاده. في ظني أن لكل فترة كتّابها، إنما يجب ألا نحدّد الفترة بعدد من السنين، بل نتركها مفتوحة بمقدار ما يمارس كتابها عملهم. لذلك، وبحسب هذا المفهوم، ما تزال فترة الخمسينات مستمرة الى يومنا هذا ما دام مهدي عيسى الصقر، مثلاً، يمارس الابداع والنشر. أما ما تسمّيه بجيل الستينات، باعتبارهم بدأوا النشر في هذه الحقبة، فقد أثرت على انتاجهم حوادث 1958، وأهمهم، محمد خضير وموسى كريدي، كانوا على خط البداية الخمسينية وأكملوه بابداع شخصي لا شك فيه.
وماذا تقترح لإقامة علاقات جيلية تخدم الابداع؟
- التواصل، واحترام الآخر وعمله، والحياد في النقد.
ولكن التغيرات تتواصل بحكم توالي الأجيال...
- وذلك يعني الثراء الأدبي والفكري، وهو خير على خير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.