"بيدي لا بيد عمرو"، ليست هي القضية على الطريقة الشكسبيرية. فلو كان هذا هو الاختيار حقاً كما طرحه الدكتور سعد الدين إبراهيم في واحدة من مقالاته الأخيرة لبدت "الليبرالية" فاقدة لأهم مقوماتها، وهي العقل والاختيار، وبدت عاجزة حقا عن التسامح مع درجات وتنويعات مختلفة من التطور التاريخي. وإذا كان "عمرو" قد فعلها حقا في الحالتين الألمانية واليابانية، فقد كان لها ظروفها الخاصة من أول الهزيمة الساحقة التي رآها الجميع من الألمان واليابانيين هزيمة لفكرة من مبتدئها الى منتهاها، وحتى خوف النخبة من الشيوعية وظروف الحرب الباردة، وبالتأكيد فإن الإغراء بعالم أفضل وأكثر حرية كان بدوره عاملا في تأليف القلوب. كما أن الطبقة الوسطى الصناعية كانت جاهزة لكي تبحث عن فرصها في عالم مختلف. وإذا كان "عمرو" الأميركي يمكنه أن يفعلها حقا لكانت الأرض في العراق أكثر استعدادا لقبول يده الممتدة، لكن الحال ليس ذلك تماما، ويظهر أن الدعوة كلها لأن يكون الأمر بيدنا بدلا من يد السيد عمرو، لا تزيد عن مجرد تهديد يحاول استخلاص أمر، أو خطوة للتقدم نحو الديموقراطية، قبل أن تمر اللحظة وتغيب في غياهب الزمن. والحقيقة أن الصياغة كلها محاولة للهروب من أعباء المهمة، وبالطريقة التي يهرب بها الثوروي والقوموي العربي من معضلات التقدم إلى المؤامرة الخارجية، يهرب الليبرالوي بدوره من استحالة التقدم وفق ما يراه إلى يد عمرو الممتدة بالتغيير أو بالتهديد. لكن المعضلة ستظل على حالها في كل الأحوال، وربما يحددها لنا بقدر من الوضوح استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة زغبي الدولية لحساب مجلة "أمريكان إنتربرايز" خلال فترة 3 إلى 19 من آب أغسطس الماضي على عينة من 600 من العراقيين في مدن الموصل وكركوك والبصرة والرمادي. هذا الاستطلاع نُشر منذ فترة قصيرة، ومن دون الدخول في تفاصيله الكثيرة فإن موقف العراقيين من الديموقراطية يبدو لافتا للنظر في شعب خرج لتوّه من واحدة من أقسى تجارب الديكتاتورية والشمولية في آن واحد. وربما كان أول ما يلفت النظر في هذا الاستطلاع أن العراقيين يدركون تماما صعوبة المهمة الخاصة بالتغيير والتحول، فحينما سئل أفراد العينة أيهما سيكون الأصعب، بناء العراق اقتصاديا أم بناؤه سياسيا، كانت الإجابة أن الأصعب هو البناء السياسي، وهو ما قال به 67 في المئة من العينة، بينما اختار الاقتصاد 22.4 في المئة، وكان 610. في المئة غير متأكد. وقد يبدو ذلك غريبا إذ يبدو "الاقتصاد" في هذه المرحلة من الفوضى والأوضاع الصعبة في العراق هو الأصعب بسبب الحاجات المباشرة للمواطنين، ومع ذلك جاء اختيار السياسة لأنها الأكثر تعقيدا بسبب التنوع العرقي والديني في البلاد. أما الاقتصاد فكل ما يحتاجه وضع مستقر واستئناف لضخ النفط وعودة الأمور إلى طبائعها حتى تتحسن. وهنا نجد درجة مدهشة من التقارب في وجهات النظر بين العراقيين، بغض النظر عن السن والدين والعِرق والجنس. وربما كان الاستثناء على ذلك، في الدرجة وليس النوع، قادما من جانب المسيحيين الذين يرون أن البناء السياسي أصعب بنسبة 8،77 في المئة، مقابل 75،16 رأوا البناء الاقتصادي أصعب. وكذلك الحال بالنسبة لأفراد العينة من الشريحة العمرية بين 50 و64 عاماً، أي هؤلاء الذين يقعون في قلب النخبة السياسية العراقية: فقد وجدوا أن البناء السياسي أصعب بنسبة 5،73 في المئة والبناء الاقتصادي بنسبة 2،12 في المئة. هذان الاستثناءان لا يغيران من الأمر شيئا، فكلاهما يظل ضمن الاتجاه العراقي المشار إليه سابقا. وكلما اقترب الاستطلاع من الآراء التفصيلية لأفراد العينة نجد قدرا متزايدا من التواضع. فكما نعلم أن كثيرين في العالم العربي يرون أن المجتمعات العربية جاهزة للديموقراطية إذا ما ذهب عنها الاستبداد الداخلي. لكن يبدو أن المسألة ليست بهذه البساطة. فحينما سُئل العراقيون عن أي من العبارتين التاليتين أقرب إلى آرائهم: الديموقراطية يمكن أن تعمل بشكل جيد في العراق، أو أن الديموقراطية هي نمط غربي في الحكم ولن تكون فاعلة في العراق، كانت النتيجة أن 8،50 في المئة كانوا مع العبارة الثانية، و 6،38 في المئة كانوا مع العبارة الأولى، و6،10 في المئة قالوا إنهم غير متأكدين من مواقفهم. وتكاد تكون الإجابة ممثلة للتوجهات الرئيسة بين شرائح الاستطلاع المختلفة على أساس العمر أو العرق أو الدين. لكن هناك استثناءات مثيرة، فهناك انقسام تقريبا بين الإجابتين بين هؤلاء الذين كانوا على اتصال مع ضحية خلال الحرب الأخيرة 3،46 في المئة مع الإجابة الأولى، و 5،47 في المئة مع الإجابة الثانية. وكأن هؤلاء رأوا أنه من الصعب أن يضيع ضحاياهم هدراً. أما الذين لم يسقط لهم ضحية فالفارق معهم يتسع قليلا فتحوز الإجابة الأولى على 7،35 في المئة والثانية على 6،52 في المئة، لكنه يبقى ضمن النمط العام. لكننا لا نجد خلافا عاما مع النتائج إلا من المسيحيين الذين يرون أن الديموقراطية ممكنة في العراق بنسبة 50 في المئة بينما يراها 7،41 في المئة نمطا غربيا لا يصلح هناك. كذلك الحال مع الشريحة العمرية فوق الخامسة والستين حيث يرى 7،66 في المئة أن الديموقراطية ممكنة و3،33 في المئة انها غير ممكنة. ويبدو السنة أكثر تشاؤما من النمط العام إذ يرى 8،26 في المئة فقط أن الديموقراطية ممكنة، بينما يرى 2،59 في المئة أنها غير ممكنة. ولعل ذلك يتوافق تماما مع القول بصعوبة البناء السياسي على البناء الاقتصادي، فربما عاد ذلك أساسا الى ان تطبيق الديموقراطية في العراق ليس سهلا، وقد لا يراه الكثير غير ممكن، وأن الأرض العربية ليست مثل الأرض الغربية جاهزة لاستقبال الديموقراطية. وربما أكد على هذه الحال العراقية المتشائمة من إمكانات الديموقراطية، أنه عندما سئل العراقيون عن النظام السياسي الذي يفضلونه بين النظم الموجودة في سورية والسعودية والولاياتالمتحدة وإيران ومصر، جاءت الإجابات في اتجاه بعيد عن الديموقراطية الغربية. صحيح أن الولاياتالمتحدة حصلت على أعلى نسب التفضيل، وهي 3،23 في المئة، لكنها نسبة قليلة خصوصاً أن السعودية حصلت على المكانة الثانية 4،17 في المئة وسورية 9.10 في المئة ومصر 1،7 في المئة وإيران 1،3 في المئة. وليس معنى ذلك بالضرورة أن العراقيين يرفضون الديموقراطية كلية، وإنما هناك درجة عالية من الحيرة. فهناك 9،21 في المئة غير متأكدين، كما أن 4،15 في المئة يفضلون نظما سياسية أخرى غير محددة. ومن المدهش أن هذه النسب تكاد تمثل النمط العراقي العام بغض النظر عن الجنس والدين والعرق، اللهم باستثناء واحد وهو الطائفة المسيحية التي يبدو أنها تمس استثناء عاما في الحال العراقية إذ أن تفضيلها للنظام الأميركي بلغ 8.77 في المئة. وإذا كان لدى العراقيين شكوك في إمكانات الديموقراطية لديهم، بل حتى في النظام الديموقراطي ذاته، فالدوافع الوطنية لديهم واضحة. فعندما سئلوا ما إذا كانوا يرغبون في أن تقوم أميركا وبريطانيا بإقامة نظام عادل في العراق، أو أن تدعا العراقيين يقومون بهذه المهمة، جاءت الإجابة عن السؤال في صالح الاحتمال الثاني بنسبة 9،59 في المئة، بينما حصل الاحتمال الأول على 3،32 في المئة بينما كان 8،7 في المئة غير متأكدين. وكما هي العادة، فإن النمط في هذه الإجابة بين العراقيين عام لكن الاستثناء جاء من المسيحيين إذ أيدوا الاحتمال الأول بنسبة 80 في المئة وأعطوا العراقيين 3،14 في المئة، وبشكل أقل فعلت المجموعة العمرية فوق الخامسة والستين من العمر، إذ أيدوا قيام الأميركيين والبريطانيين بالمهمة بنسبة 7،66 في المئة بينما أعطوا العراقيين 3،33 في المئة. وعلى عكس المسيحيين نجد السّنة لم يعطوا أميركا وبريطانيا إلا 2،19 في المئة، وأعطوا العراقيين 7،66 في المئة. وإذا كان هناك من درس هنا فأن العراقيين، أو أغلبية منهم، يرون أن القضية لا ينبغي لها أن تبقى في يد عمرو. ورغم الضعف النسبي للتراث الديموقراطي في العراق، فإن هناك قوة نسبية للتقاليد العلمانية، أو على الأقل هناك تخوف شديد من الانقسام على أساس الدين. فعندما سئل العراقيون عما إذا كان يجب أن يكون لديهم "حكومة إسلامية" أو أن تترك الحكومة ممارسة الدين للأفراد، كانت الإجابة أن 3،60 في المئة رأت أن تترك الحكومة الدين للأفراد، بينما أيد فكرة الحكومة الإسلامية 9،32 في المئة وبقي 8،6 في المئة غير متأكد. وفي هذه الحال أيضا نجد النمط العراقي سائدا، فيما عدا الطائفة المسيحية التي كانت معارضتها للحكومة الإسلامية أكثر من المعتاد إذ لم تؤيدها، وبلغ التأييد للدولة غير الإسلامية 4،94 في المئة. كما أن الفئة العمرية التي تزيد على 65 عاما أخذت موقفا عكسيا حينما أيد الحكومة الإسلامية 7،66 في المئة، بينما العلمانية 3،33 في المئة. وربما كان هذا الموقف عاكسا لدرجة التدين في المجتمع. فحينما سئل أفراد العينة عن قيامهم بصلاة الجمعة خلال الأسابيع الأربعة الماضية على الاستفتاء، أجاب 6،42 في المئة أنهم لم يقوموا بذلك إطلاقا، وقال 4،11 في المئة أنهم مارسوا الصلاة جمعة واحدة، و6 في المئة مرتين، و5 في المئة ثلاث مرات، و7،31 في المئة مارسوها في صلوات الجمعة الأربع، وكان هناك 4،3 في المئة غير متأكدين. وفي هذه المرة فإن أنماط الإجابة متباينة، فتبدو النساء الأقل صلاة إذ لا يصلين الجمعة إطلاقا بنسبة 2،56 في المئة، بينما يبدو السُّنة الأكثر التزاما بمسألة الصلاة بنسبة 4،55 في المئة، كذلك الواقعون في الشريحة العمرية بين 50 و 64 عاما. وإذا كانت هناك صورة ينقلها لنا هذا الاستطلاع في حال وصلتها يد عمرو فعلا فهي بالغة التعقيد، وممتلئة بالتخوفات والتردد. وبالطبع، يمكن مساءلة الحال على أساس فنيّات الاستطلاع من حيث حجم العينة وانتشارها وصياغتها، لكن الفنيات لا تحل معضلة ما لدينا فعلا من معلومات، ولا يبعد عن أذهاننا السؤال عما ستكون عليه الحال عند غياب يد عمرو، وبالتأكيد فإنه لا يمكن دحضها إلا من خلال استطلاعات مغايرة. ولعل ذلك يشحذ ذهن الليبرالي العربي الملول والمتسرع، وربما المنتقم كذلك، لكي يواجه المعضلة في جذورها كما فعل الليبرالي الأول خلال النصف الأول من القرن العشرين من خلال الإصلاح الديني والتعليم العام والجامعات وترقية الفنون ومحاولة فهم الشعوب وحالتها وأفكارها كما هي وليس كما نتمناها، إلى آخر ما فعله الليبراليون العرب الذين تكسرت أقلامهم على صخرات متعددة ليس أقلها صخرة عمرو ذاتها!.