قررت السلطات الصينية اتباع سلسلة اجراءات جديدة هدفها تحسين معدلات انتاج القمح في البلاد. وأسفر التراجع المستمر للمساحات المزروعة بالحبوب في الأعوام الخمسة الأخيرة والتأخر في اتباع سياسات تسعير مناسبة للمزارعين الى انخفاض متواصل في انتاج القمح والحبوب الأخرى يكاد يقارب 50 مليون طن سنوياً، وهي ظاهرة تهدد الأمن الغذائي للصين وسكانها الذين يتجاوز عددهم 3.1 بليون نسمة. تواجه الصين، مثلها مثل بقية البلدان الاشتراكية التي بنت استراتيجيات التنمية الاقتصادية السابقة في النصف الثاني من القرن الماضي على تحميل سكان الريف عبء التنمية الصناعية، مشكلة تطبيق سياسات أكثر ملاءمة للفلاحين والمزارعين، وهي مشكلة ما برح المسؤولون الصينيون يحاولون ترسيخها منذ بدء الاصلاحات الاقتصادية الكبيرة التي عرفتها البلاد منذ بداية عقد التسعينات. وشهدت الاعوام الأربعة من 1995 الى 1998 فائضاً في انتاج الحبوب قارب 250 مليون طن وتم تكديسه في الاهراءات الحكومية. إلا أن هذا الفائض ما لبث ان تآكل بالتدرج ليصل الآن الى نحو 150 مليون طن بعدما استخدم أكثر من 100 مليون طن في تغطية العجز في انتاج الحبوب خلال الأعوام الأربعة الماضية. وقرع جرس الانذار مطلع الشهر الجاري المركز الحكومي للمعلومات الخاصة بالحبوب والزيت في بكين، حينما أصدر دراسة أكدت ان انتاج الصين من القمح تراجع الى أدنى مستوى له منذ عام 1985، وانه يواصل الانخفاض للعام الرابع على التوالي. وقال المركز ان انتاج الصين لن يتجاوز 86 مليون طن، بانخفاض مقداره 3.4 مليون طن أو ما يعادل خمسة في المئة عن انتاج العام الماضي. ويعتبر أبزر مؤشر الى مشكلة الهبوط المستمر في حجم محاصيل القمح الصينية الانكماش المتواصل لمساحة الأراضي المزروعة بالقمح والتي وصلت الى 22 مليون هكتار السنة الجارية، وهي أدنى مساحة عرفتها زراعة القمح في الصين منذ انتصار الثورة الماوية عام 1950، وتشكل تراجعاً مقداره 75.1 مليون هكتار أو ما يعادل 9.7 في المئة عن العام الماضي وحده. وعقد المجلس الحكومي اجتماعاً خصص للبحث في هذه المسألة هذا الاسبوع رأسه رئيس الحكومة جياباو وين. وتقرر في ختامه التحرك على مستويات عدة حكومية ومحلية مع التركيز في صورة خاصة على دعم المناطق الرئيسة المنتجة للقمح والحبوب مع إفساح المجال للمزارعين لامتلاك المبادرة. كما ركز الاجتماع على أهمية تحسين بنية صناعة انتاج الحبوب والقمح واعطاء مزيد من الحوافز للمزارعين والعاملين في المناطق الزراعية. وكانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني نشرت أول من أمس في 24 صفحة 12 قراراً جديداً تخص الشأن الاقتصادي وذلك في ختام الجمعية العمومية المفتوحة الثالثة التي عقدت بين 11 و14 الشهر الجاري، والتي تتعلق بتطوير اقتصاد السوق. ونصت القرارات على اعتبار بقاء الملكية الحكومية الأساس في الاقتصاد، مع السماح بتطور اشكال مختلفة من الملكية جنباً الى جنب معها، على أن يتم اتخاذ اجراءات تحول دون حدوث عوائق من قبل السلطات المحلية في الولايات قد تعيق المنافسة. كما تدور غالبية القرارات حول تعميق الاصلاحات المالية والقانونية و"ضمان استقرار اليوان العملة الوطنية" والحكومية. إلا أن أبرز القرارات ينص على تضييق الفجوة بين المناطق الريفية والمدن والقيام بتطوير متناسق بين مختلف المدن. ويلقي بعض المحللين اللوم على تراجع الانتاج الزراعي، والحبوب خصوصاً، على السياسات المطبقة والتي أدت بالمزارعين الى تفضيل المحاصيل ذات العائد المادي السريع بدل زراعة المحاصيل الموسمية السنوية، مثل الحبوب. تراجع مساحة الأراضي وشهدت الأعوام الخمسة الماضية تراجع مساحة الأراضي المخصصة للحبوب من 78.113 مليون هكتار عام 1998 الى 9.103 مليون هكتار العام الماضي نحو 23 في المئة منها مخصص للقمح وحده. وتزامن هذا الانكماش في المساحة مع تراجع في المحاصيل من 512 مليون طن حبوب عام 1998 الى 457 مليوناً العام الماضي. وكان المكتب الوطني للاحصاءات توقع سابقاً مطلع السنة الجارية ان يتراجع محصول الحبوب الصيفي بمقدار 4.2 في المئة أو ما يعادل 4.2 مليون طن. إلا أن النتائج المسجلة تتجاوز هذه النسبة بمقدار الضعفين. وتقدر الاحصاءات متوسط نسبة التراجع السنوي خلال الأعوام الأخيرة في حجم محاصيل الحبوب سنوياً نحو 25 مليون طن الى 35 مليوناً. وعلى رغم هذا التراجع الكبير إلا أن استهلاك المواطن الصيني يبقى بعيداً عن التأثر بالتراجع الحاصل، اذ يجري تعويض النقص من الفائض الحكومي، وفي صورة تبقي أسعار الحبوب ثابتة وغير عرضة للتذبذب، وهو ما من شأنه ارضاء سكان المدن الذين يشكلون ثلث سكان الصين البالغ عددهم 3.1 بليون نسمة، إلا أنه لا يستجيب لمصالح المزارعين. وبين أبرز الأسباب التي تجعل التراجع المستمر للمحاصيل مبعثاً للقلق ان عدد سكان الصين سيرتفع عام 2030 الى 6.1 بليون نسمة في وقت سيشكل التوسع العمراني للمدن ضغطاً كبيراً يؤدي الى تراجع المساحات الزراعية، ما سيولد صعوبات متزايدة لتأمين القدر المناسب من المحاصيل عام 2030 والبالغ 640 مليون طن من الحبوب. إلا ان بين الأسباب التي تدفع أيضاً الى عدم الشعور بالخطر تغير الظروف الدولية التي قد تسهم في جعل الصين أقدر على تجاوز أي مخاطر تمس أمنها الغذائي، وفي مقدمها أوضاع السوق الدولية. وتسعى الصين، منذ انضمامها الى منظمة التجارة الدولية قبل عامين الى حماية قطاعها الزراعي خوفاً من أن يؤدي تدفق واردات زراعية رخيصة الثمن الى كساد الزراعة الصينية وانهيار انتاج بعض المحاصيل الاستراتيجية بطريقة الى تضرر المزارعين الصينيين وتضاعف الضغط عليهم. إلا ان الانخفاض العام الذي طرأ على انتاج الحبوب حول العالم منذ 2001 أدى الى ارتفاع الأسعار الزراعية في الأسواق الدولية ما سمح للصين بتسجيل فائض في ميزانها التجاري الزراعي. وتصطدم السياسات الزراعية التي ترغب السلطات في تطبيقها لزيادة الانتاج الزراعي بواقع بديهي يتمثل في أن الاستمرار في الطلب من المزارعين رفع انتاجهم بأسعار متدنية لا تتماشى مع المعروض في السوق الدولية سيؤدي بهم الى التحول الى المحاصيل الأسرع عائداً، بدل زراعة المحاصيل السنوية الدورية. وفي المقابل فإن السياسة الحكومية القائمة على التحكم بمعدلات الانتاج لضمان الأمن الغذائي اعتماداً على الموارد الزراعية الذاتية للبلاد ستتناقض على المدى المتوسط بالاتفاقات والمواثيق التي ستقرها منظمة التجارة الدولية على الصعيد الزراعي. وهو ما يفسر دعوة الصين في قمة "ايبك" الأخيرة للدول المطلة على المحيط الهادئ في بانكوك الى استئناف سريع لجولة المفاوضات التي تعثرت في كانكون الشهر الماضي. ويقول جو كيوان، وهو محلل اقتصادي صيني، ان تطور التجارة الدولية قد يقدم حلاً تقنياً عبر استيراد بذور أعلى محصولاً وأفضل نوعية مع تحقيق اندماج أفضل للصين في الاقتصاد العالمي، ما سيتيح تدفقاً منتظماً للواردات، ويغير من القيود الموضوعة على مفهوم الأمن الغذائي. ويتوقع المحللون، في انتظار تحقق هذه التغيرات، استمرار انخفاض انتاج الصين من الحبوب ريثما تنجح السياسات الحكومية في توسيع رقعة الأرض الزراعية اذا جرى اقناع المزارعين بجدوى مضاعفة انتاجيتهم.