سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"ما لم يتم تحديده كان مساحة الأرض التي تعيدها اسرائيل ، وهو ما أصبح مصدراً رئيسياً للخلاف . اولبرايت : مقاربتي للشرق الاوسط اتسمت بالمرونة باستثناء نقطة واحدة ... لقد آمنت دوماً ان اسرائيل حليف اميركا المتميز وعلينا ضمان امنها" 5 من 10
تقر وزيرة الخارجية الاميركية السابقة مادلين اولبرايت في كتابها الذي تنفرد "الحياة" بنشر مقتطفات منه بالعربية، وعنوانه "السيدة الوزيرة: مذكرات مادلين اولبرايت" بان مقاربتها للشرق الأوسط "اتسمت بالمرونة، عدا في نقطة واحدة. فقد آمنت دوما ان اسرائيل حليف أميركا المتميز وأن علينا عمل كل ما يمكن لضمان أمنها". وتعيب على العرب انهم اعلنوا في ختام قمة الخرطوم في اعقاب حرب حزيران يونيو 1967 أن لا اعتراف ولا تفاوض ولا سلام مع الدولة اليهودية التي احتلت في تلك الحرب شبه جزيرة سيناء المصرية والضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان السورية. تذكر اولبرايت بين ما تذكر في هذا المقتطف من كتابها اغتيال رئيس الوزراء الباسرائيلي اسحق رابين ثم هزيمة خلفه شمعون بيريز في الانتخابات على يد بنيامين نتانياهو الذي رفض في البداية لقاء الرئيس ياسر عرفات وأذِن، بين امور اخرى، بثلاثة عمليات اثارت غضب الفلسطينيين والعرب: فتح نفق قرب المسجد الاقصى وبناء مستوطنة "هار حوماه" على جبل ابو غنيم في القدسالشرقية وارسال فريق من "موساد" لاغتيال احد قادة "حماس" خالد مشعل في العاصمة الاردنية عمّان. تقول اولبرايت في الفصل ال 18 وعنوانه "مرحبا بكم الى الشرق الأوسط": "تلك اللحظة من بعد ظهر 13 أيلول سبتمبر 1993 بدت مثل معجزة. فقد شاهدت، من مقعدي في الصف الأول في حديقة البيت الأبيض، الرئيس بيل كلينتون وهو يفتح ذراعيه ليوجه رئيس وزراء اسرائيل اسحق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات برفق احدهما نحو الآخر. وتردد رابين لحظة ثم تصافح الرجلان، في ذلك المشهد الذي تصدر كل صحف العالم تقريبا. جاء ذلك خلال الاحتفال بتوقيع "اعلان مباديء أوسلو"، الذي رسم الملامح العامة لخطة يتآلف فيها أمن اسرائيل من جهة مع آمال شعب فلسطين في الحصول على الأرض من الثانية. ولاحظ الرئيس كلينتون في كلمته حضور مجموعة من الشباب الاسرائيليين والفلسطنيين والمصريين، الذين جاءوا برعاية منظمة "بذور السلام"، وكان يشير اليهم عندما وصف الاعلان بأنه "مقامرة شجاعة على جعل المستقبل أفضل من الماضي". وبذلت الولايات في السنين السبع التي تلت ذلك ما لا يحصى من الوقت والجهد والسمعة لمساعدة الاسرائيليين والفلسطينيين على ربح تلك المقامرة. ذلك الجهد كان نبيلا، وأتوقع ان التاريخ سيحكم انه كان ايجابيا. لكن لم يُقدّر لنا، الرئيس وأنا، رؤية أرض السلام الموعودة في الشرق الأوسط خلال وجودنا في المنصب. تعلمت عن الشرق الأوسط مثلما تعلمت الروسية. أولا، عن طريق الاصغاء، ثم الكلام، ثم القواعد وقراءة الأدبيات. واتيح لي من خلال النقاشات مع زملائي أثناء عملي في الأممالمتحدة تعلم مفردات عملية السلام، واستمعت الى القوائم الطويلة المعتادة من الحجج التي تسوقها الأطراف. وعندما أصبحتُ وزيرة كان علي ان اعرف أكثر عن تاريخ الصراع، وسجل المفاوضات السابقة، وشخصيات القادة الذين رسمت قراراتهم مسيرة المنطقة. مقاربتي للشرق الأوسط اتسمت بالمرونة، عدا في نقطة واحدة. فقد آمنت دوما ان اسرائيل حليف أميركا المتميز وأن علينا عمل كل ما يمكن لضمان أمنها. واعتبرت أن قرار الرئيس ترومان الاعتراف باسرائيل فور اعلانها في 1948 كان من بين أشجع قراراته. اضافةً الى ذلك كنت معجبة بالتزام اسرائيل الديموقراطية. وكان من شأن الطبيعة الثابتة لمصالحنا في الشرق الأوسط أن تضفي ثباتا نسبيا على سياستنا تجاه اسرائيل عبر الادارات الجمهورية والديموقراطية المتعاقبة. وقد ساعدنا اسرائيل منذ انتصارها في حرب الأيام الستة عام 1967 على الاحتفاظ بتفوقها العسكري الاقليمي لكي لا يستطيع اعداؤها تدميرها. وقدمنا مساعدات سخية لشركاء اسرائيل في السلام، وشددنا على مبدأ الأرض مقابل السلام كما تجسد في قراري مجلس الأمن 242 و338 . يحتج العرب غالبا على عدم قيام الولاياتالمتحدة عبر السنين بما يكفي لاجبار اسرائيل على الانصياع للقرارين. لكنهم ينسون تاريخهم. فعند صدور القرار 242 واجهته منظمة التحرير الفلسطينية بالرفض الغاضب. وفي 1967 أعلنت الجامعة العربية أن لا اعتراف ولا تفاوض ولا سلام مع الدولة اليهودية. والتزمت كل الدول العربية تقريبا الى حين توقيع معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية في 1979 ازالة اسرائيل. وعندما اغتيل أنور السادات، القائد الذي عقد السلام مع اسرائيل، لم يذرف الدموع عليه الا قليل من العرب خارج مصر. من هنا كان اقناع اسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها في 1967 سيكون أسهل بكثير لو بدا ان ذلك سيأتيها بالأمن. لكن استمرار العداء والتطرف العربيين جعلا حتى أبسط التنازلات موضعا للكثير من التحفظ والتدقيق. في المقابل كان تليين العداء العربي سيكون أسهل لو لم يشدد بعض قادة اسرائيل على الحق في حكم الضفة الغربيةوغزة حكماً كاملاً ودائماً. وشجع رؤساء اسرائيل خلال السبعينات والثمانينات انتشار المستوطنات، وذلك بدوافع أمنية ودعما لما يدعيه بعضهم من أن الله أعطى كل تلك الأراضي الى اليهود. الصورة التي توحي بها كلمة "مستوطنات" هي بعض المساكن الموقتة أو حتى الخيام، لكن الواقع كان في احيان كثيرة مختلفا تماما. فبعض المستوطنات بالفعل لم يزد على عدد من المساكن النقالة، لكن غيرها بدا وكأنه من الضواحي الأميركية، بكل ما فيها من الشوارع والبيوت والحدائق ومراكز الترفيه. ساكنو تلك المستوطنات المسيجة كانوا من الأغنياء الذين يعيشون حياة الرفاه. أما في خارجها فقد كانت أكواخ الفلسطينيين الذين يعيشون حياة الفقر والتعاسة. وبدا أن المستوطنين الأكثر استفزازا - من ضمنهم بعض الاسرائيليين الأميركيين - يستثيرون غضب الفلسطينيين. ويخطر في بالي عند التفكير بهؤلاء المتشددين أن "اسرائيل قصة رائعة. انها الأرض القاحلة وقد أصبحت خضراء، واقتصاد مبدع يقوم على التكنولوجيا المتطورة، وديموقراطية طافحة بالحياة. لكن أين الأمن اذا كان جيرانك يحقدون عليك؟". ]...[ عملية أوسلو بعد اغتيال رابين "تنفيذ عملية أوسلو كان يمثل تحديا بالغ الصعوبة حتى في حياة رابين. فقد أراد الفلسطينيون الأرض، فيما أراد الاسرائيليون الأمن. السؤال كان ما هي مساحة الأراضي التي يعيدها الاسرائيليون، وأي ضمانات أمنية يمكن ان يقدمها الفلسطينيون؟ وكان الطرفان وقعا أوائل 1995 "الاتفاق الموقت"، الذي عرف باسم "أوسلو 2"، الذي نص على انسحاب اسرائيل من سبعة مراكز سكانية فلسطينية، وذلك بالتدريج خلال فترة من 18 شهرا. لكن ما لم يتم تحديده كان مساحة الأرض التي تعيدها اسرائيل، وهو ما أصبح مصدرا رئيسيا للخلاف. فقد اعتقد الفلسطينيون ان الاتفاقات تنص على تسليمهم كل الضفة الغربيةوغزة، عدا القدس والمستوطنات والمواقع الأمنية، قبل بدء مفاوضات الوضع النهائي - أي ما يمكن أن يصل الى 90 في المئة من الأراضي قيد النزاع. ورفض الاسرائيليون ذلك بشدة، واعتبروا ان تحديد المساحات من شأنهم وحدهم، مشيرين الى أن شمعون بيريز، وزير خارجية رابين الذي خلفه في المنصب بعد اغتياله، كان قد أقنع ياسر عرفات بالقبول بالاتفاق من دون تحديد مدى الانسحاب". ]...[ "في أيار مايو 1966 ]بعد اغتيال رئيس الوزراء رابين[ توجه الاسرائيليون الى صناديق الاقتراع، وسط توقعات بفوز بيريز. الا ان سلسلة من التفجيرات الارهابية عشية الانتخابات قتلت عشرات الاسرائيليين وأضعفت موقفه. كما أحرجت التفجيرات ياسر عرفات، الذي رد عليها باطلاق حملة قوية ضد الجماعات الفلسطينية المتطرفة. وفي مصر استضاف الرئيس مبارك مؤتمرا دوليا وقف فيه الرئيس كلينتون كتفا الى كتف مع العديد من القادة العرب للتضامن مع بيريز وادانة الارهاب. وشكل ذلك دعما لا سابق له، لكنه لم يكف لانقاذ بيريز. فقد استغل زعيم حزب ليكود المعارض بنيامين نتانياهو مخاوف الاسرائيليين الى أقصى حد ممكن، واتهم بيريز بالضعف وتعهد انهاء الهجمات الارهابية. بعد تسلم نتانياهو - المعروف ب"بيبي" من جانب اصدقائه واعدائه - السلطة ورث عملية للسلام كان قد دانها والتزامات اسرائيلية كان قد رفضها لكنه لم يستطع التراجع عنها علنا. واتخذ موقفا متشددا منذ البداية، بتعيين شخصيات من التيارات المحافظة المتطرفة، اضافة الى رفض مقابلة عرفات. وفي أيلول سبتمبر فتحت اسرائيل نفقا أثريا قرب موقع اسلامي مقدس في القدسالشرقية، مثيرة بذلك اشتباكات قتل فيها 80 فلسطينيا و15 اسرائيلي. وكانت تلك المرة الأولى التي تطلق فيها قوات الأمن الفلسطينية النار على القوات الاسرائيلية. وفي آذار مارس 1997، بعد شهرين على تسلمي وزارة الخارجية، بدأت الجرافات الاسرائيلية العمل في مشروع اسكاني أثار الكثير من الخلاف في حي هار هوما "جبل أبو غنيم" كما يسميه الفلسطينيون في القدسالشرقية. واعتبر الفلسطينيون أن هدف المشروع كان عزل الأحياء العربية في القدسالشرقية عن بقية السكان الفلسطينيين الى الجنوب والشرق. وكانت هذه قضية مهمة بسبب اصرار عرفات على جعل القدسالشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية المقبلة، أمام تصميم قادة اسرائيل على عدم تقسيم القدس. وفي 21 آذار مارس تعرض مقهى في تل أبيب الى تفجير انتحاري أدى الى مقتل ثلاث اسرائيليات، واتهم نتناياهو عرفات باعطاء "الضوء الأخضر" للارهابيين. وبدا أن عملية السلام، التي كانت في غرفة العناية الفائقة منذ مقتل رابين، على وشك الاستسلام لمصيرها. وكنت تحادثت مع الرئيس غداة تسلمي المنصب عن الوقت الذي يمكن تخصيصه لمفاوضات الشرق الأوسط. واتفقنا على أن لا أزور المنطقة الاّ عند احتمال التوصل الى نتائج واضحة ومحددة. ولم احتج لزيارة المنطقة في أي حال، لأن الكثيرين من قادة المنطقة كانوا يأتون الى واشنطن. وبيّن التباحث معهم أزمة كبيرة في الثقة بين طرفي أوسلو. فقد أصر نتانياهو على أن التجربة كشفت خطأ المسلّمة الأساسية ل"اعلان المبادي". فقد حصل الفلسطينيون على بعض الأراضي وكان ردهم المطالبة بالمزيد. وقال ان ضميره وأيضا حكومته لن يسمحا له، في ظل استمرار الارهاب، باعطاء المزيد من الأراضي الاّ مقابل سلام حقيقي. واقترح نتانياهو القفز على مرحلة الانسحابات التي نص عليها الاتفاق الموقت والانتقال مباشرة الى مفاوضات الوضع النهائي، وأن كامب ديفيد هو المكان الأفضل لذلك، لكي يتمكن الرئيس كلينتون من افهام عرفات حقائق الأمور. في المقابل أصر عرفات على ان الاسرائيليين يرفضون تنفيذ التزاماتهم، وأن ذلك يفاقم من صعوبة السيطرة على المتطرفين. وقال انه بحاجة لتقديم مكاسب ملموسة لشعبه مقابل الموافقة على اسرائيل كشريك. أردنا ان نجد سبيلا لاعادة الثقة لكن شعرنا وقتها أن لا جدوى من تقديم مقترحاتنا الخاصة. بدل ذلك شجعنا الطرفين على العمل سوية بعيدا عن الأضواء لتحديد أرضية للعودة الى المحادثات الرسمية. وبعد أسابيع من المحادثات المتكتمة أعلنا استعدادهما للعودة الى طاولة التفاوض. لكن يبدو أن القاعدة في الشرق الأوسط هي أن هناك انتكاسة بعد كل تقدم. ففي 30 تموز يوليو شهد سوق ماهان في القدس تفجيرين ارهابيين قتلا 14 اسرائيليا وجرحا 170 غيرهم. كنت لحظتها في طريق العودة من جولة في آسيا، واتصلت بنتانياهو للتعزية، وبعرفات لاطالبه باعتقال المتطرفين ومصادرة أسلحتهم وحظر التنظيمات التي تنادي بالعنف. وأدان عرفات التفجيرات، لكنه قال انه لا يستطيع تبرير ملاحقة المتطرفين بعد سنة من الشلل لعملية السلام. عند وصولي الى واشنطن توجهت فورا الى البيت الأبيض، حيث قررنا القيام بعدد من الخطوات. أولا، ارسال دنيس روس مستشار الرئيس ومستشاري لشؤون الشرق الأوسط الى المنطقة للضغط على الفلسطينيين لاعادة التعاون الأمني مع اسرائيل. ثانيا، وفي حال نجاح روس، أن أقوم برحلتي الأولى الى المنطقة منذ تسلمي وزارة الخارجية سعيا الى اعادة اعادة المفاوضات حول القضايا السياسية. ثالثا، ان نحاول تعبئة الدعم لعملية السلام في أميركا نفسها وأيضا في الشرق الأوسط. في السادس من آب أغسطس قدمت الخطوط العامة لموقفنا في كلمة القيتها في النادي الوطني للصحافة. ]...[ واذ تقصدت أن يكون خطابي متفائلا فقد كنت صريحة أيضا عندما أكدت أن لا امكان للسلام الاّ اذا استعد الطرفان لاتخاذ خيارات صعبة. لقد اتفق الاسرائيليون والفلسطينيون من خلال عملية أوسلو على تحويل ما كان مواجهة لا حل لها الى مفاوضات سياسية - ولا امكان للعودة عن ذلك. وتوقعت أن الأزمة الحالية ستتراجع اذا بذل الفلسطينيون جهدهم مئة في المئة في مكافحة الارهاب، وتوقفت اسرائيل عن اتخاذ خطوات انفرادية مثل عمليات البناء في هار هوما. لكنني حرصت في الوقت نفسه على التمييز بين الارهاب وتوسيع المستوطنات، وذلك بالقول ان "لا مساواة أخلاقية بين المفجرين الانتحاريين والجرافات. بين قتل الأبرياء وبناء المساكن". وبتحديد أكثر أبديت موافقتي على موقف نتانياهو في أن المقاربة التدرجية للسلام لم تعد كافية، والمحت الى ان الولاياتالمتحدة قد تساند تسريع الأمور وصولا الى مفاوضات الوضع النهائي. كما أشرت الى مسؤولية العالم العربي عن القبول باسرائيل عضوا في الأسرة الدولية، ودعم كل من الدول لعملية السلام. القاعدة الأهم في العلاقات العامة عدم الافراط في التفاؤل. وكان من السهل تلبيتها عندما كنت أتهيأ للمغادرة الى الشرق الأوسط. ففي أواخر آب أغسطس نشرت الصحف صور عرفات وهو يعانق واحدا من قادة منظمة "حماس" الارهابية. وفي الرابع من أيلول سبتمبر حدثت ثلاثة تفجيرات انتحارية متزامنة في شارع بن يهودا في القدس. وفرض نتانياهو اغلاقات جديدة في الضفة الغربيةوغزة واعتقل بعض الناشطين واحتجز ملايين الدولارات من أموال الضرائب الفلسطينية. لم أتوقع التوصل الى اي اختراق عند زيارتي الأولى الى المنطقة، لكنني حاولت تطمين اسرائيل عن دعم أميركا لها في قتالها ضد الارهاب، واقناع عرفات بأن عليه المشاركة الكاملة في ذلك القتال. أردت أيضا التوجه المباشر الى الشعبين الاسرائيلي والفلسطيني للحصول على دعمهم، والتوصل الى اطار للمفاوضات يوافق عليه الطرفان. وصلت الى مطار بن غوريون في اسرائيل فجر 10 أيلول سبتمبر، ومن ثم الى القدس في الرحلة بالسيارة التي تستغرق أربعين دقيقة. ]...[ في القدس سألت نتانياهو اذا كان يعتبر ان عملية أوسلو قد ماتت، فأجاب: "اعتقال قادة حماس، مصادرة كل الأسلحة، اغلاق ورش القنابل، انهاء التحريض على الارهاب من جانب الكل، من ضمنهم أئمة المساجد. اذا قام الفلسطينيون بذلك يمكن التقدم الى مفاوضات الحل النهائي، لأن الاتفاق الموقت مع الانسحابات التدرجية لم يسفر الا عن تشجيع الصراع والارهاب". وسخر رئيس الوزراء الاسرائيلي من الفكرة القائلة بأن عرفات أضعف سياسيا من تنفيذ تلك الخطوات. وقال ان بامكان عرفات تحطيم "حماس" خلال شهرين اذا اراد. لم اعترض على ما قال، لكن ضغطت عليه للاعتراف بمسؤوليات اسرائيل نفسها. أي ان وقف الارهاب سيكون أسهل لو رأى الفلسطينيون مكاسب ملموسة من عملية السلام. غير ان نتانياهو أصر على أن الارهاب هو القضية الوحيدة: "يدرك الاسرائيليون انهم قد يضطرون الى القتال اذا لم يكن هناك سلام. بل يرون انهم سيضطرون الى القتال في أي حال، ويفضلون قتال سلطة فلسطينية ضعيفة على دولة فلسطينية أقوى معترف بها دوليا". عرفات ونتانياهو كانا على بعد عشرين ميل لكن البعد بينهما كان كونيّا. وشهدت خلال سنيّ الثماني في الحكومة أربعة رؤساء وزراء اسرائيليين. لكن خلال كل تلك السنين، اضافة الى السنين العشرين قبلها، كان للفلسطينيين ممثل واحد، وهو ما يشهد على براعة عرفات في اللعبة السياسية وقدرته على البقاء. ]...[ التقيت عرفات خلال رحلتي الأولى الى الشرق الأوسط في مقره في رام الله - وهو مبنى أبيض متقشف متواضع التأثيث دمره الاسرائيليون تقريبا بعد خمس سنوات على اللقاء. كان يجلس أمام صورة كبيرة لقبة الصخرة، وبدا سلبي المزاج نوعا ما، واشتكى من الاقفالات الاسرائيلية واحتجاز أموال الضرائب. وقال ان المسؤولية تقع على نتانياهو لعدم تنفيذه الوعود التي قدمها ضمن عملية أوسلو، لكنه لم يحاجج عندما شددت الضغط عليه للمساعدة في حيز الأمن. قلت اننا نريد أن نرى اعمالا وليس مجرد وعود، وأن الارهاب يلحق بقضية الفلسطينيين دمارا لا يقل عمّا يلحقه باسرائيل. جوابه كان الموافقة على خطة لتفكيك البنية التحتية ل"حماس" - وهي الخطة التي بقيت لاحقا موضعا للمساومات. كان ل"حماس" وقتها عشرات الألوف من الأعضاء، يقتصر نشاط الكثيرين منهم على مجالات مدنية مثل ادارة المدارس والمساجد والخدمات الاجتماعية. لكن جسم "حماس" انطوى أيضا على شبكات سرطانية عملها صنع المتفجرات والتخطيط للكمائن واعمال الخطف وغسل أدمغة الشباب للقيام بالتفجيرات الانتحارية. وكانت هناك خلايا ارهابية في غالبية المراكز السكانية الفلسطينية. كانت السلطة الوطنية الفلسطينية عموما مستعدة للعمل ضد "حماس" عند تقديم معلومات محددة اليها عن مخازن السلاح أو هجمات قيد التخطيط، لكنها لم تتحمس كثيرا عند استلام قوائم الاعتقالات. كما كانت تتقاعس عن المبادرة الى التحرك. فقد فضل عرفات ان يركز المتطرفون غضبهم على اسرائيل وليس عليه. النتيجة أن وعوده افتقرت الى الكثير من المصداقية، وبقيت قضية الرد الفاعل على الارهاب تحتل موقعها في قلب مساعي السلام. ]...[ خلال أيام على مغادرتي اتخذ الطرفان خطوات، مهما كانت أولية، على الطريق الصحيح. فقد اعتقل عرفات بعض الناشطين وأغلق محطة تلفزيون كانت تحرض على الحقد. بالمقابل أطلق الاسرائيليون نصف مستحصلات الضرائب الفلسطينية، وخففوا بالتدريج، وبالتوافق مع تحسن التعاون الأمني، اجراءات الاغلاق. واتفق المتفاوضون على لقائي خلال الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر أيلول سبتمبر في نيويورك. لكن نتانياهو خلال الفترة نفسها تقريبا واجه قضية محرجة كلفته الكثير. ففي 25 أيلول سبتمبر هاجم شخصان أحد مسؤولي "حماس" خالد مشعل عندما كان يترجل من سيارته في عمّان، وحقنه أحدهم خلف الأذن بجرعة سامة شلّت عموده الفقري. الا ان حرس مشعل تمكنوا بسرعة من اعتقال الشخصين بعد اشتباك عنيف بالأيدي وسلموهما الى الشرطة الأردنية، التي اكتشفت بسرعة أنهما عميلان اسرائيليان. كانت تلك ضربة ذاتية قاسية بالنسبة الى اسرائيل. فقد رد الملك حسين، وهو ربما أقرب أصدقاء اسرائيل في العالم العربي، باجراءت كادت تصل الى قطع العلاقات. وذهب نتانياهو بنفسه الى عمان للاعتذار، لكن الملك حسين رفض مقابلته، وأرسل من يبلغه ان العميلين الاسرائيليين سيشنقان علناً اذا مات مشعل. في النهاية كشف نتانياهو عن السم المستعمل والمصل المضاد له، منقذا بذلك حياة الناشط الفلسطيني، كما وافق على اطلاق سبعين سجينا فلسطينيا احتجزوا بتهمة الارهاب، من ضمنهم زعيم "حماس" الروحي الشيخ أحمد ياسين. هكذا، وبعد أن قضينا، الاسرائيليون وأنا، شهورا في الضغط على عرفات لاعتقال الارهابيين، يجد نتانياهو نفسه مضطرا الى اطلاق واحد من أهمهم - وهي الواقعة التي بقي عرفات يرددها مرارا وتكرارا في الشهور التالية. استمرت المفاوضات الى نهاية 1997 من دون كثير من التقدم. واستبعدنا بحلول السنة الجديدة أن يقدم أي من الطرفين تسوية يقبلها الطرف المقابل. كنا قد أحرزنا بعض التقدم في قضايا مثل المطار الفلسطيني والتنقل الآمن للفلسطينيين بين مدنهم، لكن قضية المزيد من الانسحابات الاسرائيلية وصلت الى طريق مسدود. كانت القرارات التي أردناها من الجانبين بالغة الصعوبة لكنها ملحة أيضا. من هنا قررنا تقديم مقترحاتنا الخاصة الى نتانياهو وعرفات في شكل منفصل، أملا في موافقتهم على حضور اجتماع ثلاثي مع الرئيس يتم خلاله الاعلان عن اتفاق. وفي 19 كانون الثاني يناير 1998 وصل نتانياهو الى واشنطن، والقى كلمة في اجتماع للمسيحيين الانجيليين. وكان من بين مضيفيه هناك جيري فالويل، الذي كان ينشر شريط فيديو بالغ السخف يتهم فيه الرئيس كلينتون بالتورط في تجارة المخدرات والقتل. ولم نستغرب ان يعتبر الاعلام مشاركة نتياناهو في الاجتماع صفعة مباشرة للرئيس. التقينا في البيت الأبيض في اليوم التالي. واذ لم نر فائدة من مشادة مع نتانياهو، بدأ الرئيس اللقاء بدعوة الى "ترك التعريض والاهانة وراءنا. علينا ان نكون ايجابيين". لكن اتضح بسرعة ان نتانياهو لم يكن مستعدا للموافقة على اقتراحاتنا، ولا يريد حضور اجتماع ثلاثي. وحثنا بدل ذلك على خطة لاقامة مناطق أمنية دائمة في الضفة الغربيةوغزة مقابل انسحابات اسرائيلية. لم يكن بوسعنا ذلك، لان مناطق كهذه من ضمن قضايا الوضع النهائي ولا بد من التعامل معها في مفاوضات الوضع النهائي. واكد لنا نتانياهو مرارا وتكرارا انه يواجه وضعا سياسيا صعبا في اسرائيل، وان حكومته لن تسمح له بمرونة أكثر. ]...[ صباح اليوم التالي التقينا عرفات. ]...[ وكما توقعنا فقد رفض عرض نتانياهو بانسحاب اسرائيلي جديد لكنه محدود للغاية ومربوط بشروط قاسية، ووصف العرض بأنه "تافه"، وحذر من ان استمرار الجمود قد يؤدي الى "انفجار العنف". اما بالنسبة لمقترحاتنا فلم يجب بالسلب أوالايجاب، لكنه عرض رسالة توضح الغاء النصوص المعادية لاسرائيل من الميثاق الوطني الفلسطيني. كما وافق على خطة أمنية تتضمن: أولا، حظر الجناح العسكري ل"حماس". ثانيا، مصادرة الأسلحة. ثالثا، التشاور قبل أطلاق دفعة جديدة من السجناء. كما وافق على اقتراحنا بأن تأتي الانسحابات الاسرائيلية التالية، التي ينص عليها الاتفاق الموقت، بعد بدء مفاوضات الوضع النهائي. كل هذا كان ايجابيا. لكن عندما ضغط عرفات على الرئيس من أجل انسحاب اسرائيلي أولي أوسع أجابه الرئيس: "أرفض ما عرضه نتانياهو. لكن أيضا لا استطيع قبول مطلبك". الحلقة السادسة غداً