بعد الصدمة المباشرة ازاء موت ادوارد سعيد في 25 أيلول سبتمبر خطرت لي فكرتان. الأولى اذا كان الصهاينة سيحتفلون الآن بموت عدو كان الأنجح والأبلغ والأكثر فاعلية ضدهم. ذلك أن خوف الاسرائيليين الحقيقي ليس من المقاومة الفلسطينية المسلحة أو ما يسمونه الارهاب الفلسطيني أو تهديدات الناشطين، بل ان أكثر ما يخشونه هو المعركة من أجل كسب "القلوب والعقول"، تلك المنافسة على صعيد العلاقات العامة التي ربحها الاسرائيليون عادة أمام العرب الفاشلين المفككين. لكن هذا بالضبط كان الوضع الذي قلبه ادوارد سعيد رأساً على عقب، وفي الحلبة الأهم لاسرائيل ومناصريها، أي الولاياتالمتحدة والغرب. في هذا السياق لنا ان نتذكر كلام مناحيم بيغن في 1948 بعد نجاح مجزرة دير ياسين في طرد الوف العرب من وطنهم: "المجزرة كانت بالنسبة لنا أفضل من دزينة من الفرق العسكرية في الحرب على العرب". ويمكن القول بالمقابل أن ادوارد سعيد كان أكثر فاعلية من دزينة من الجيوش في المعركة ضد الصهاينة. فقد كان له تأثيره الهائل في الملايين من خلال خطبه وكتاباته وأفكاره وشخصيته الآسرة، ولاشك ان الاحاطة بهذا التأثير ستستغرقنا سنين طويلة. الفكرة الثانية كانت عن مكان دفن ادوارد سعيد. أقول ذلك لأن الاسرائيلبين الذين يضطهدون الفلسطينيين في حياتهم يواصلون اضطهادهم بعد موتهم. وكانت أمنية سعيد الأغلى ان يدفن في مسقط رأسه القدس. لكن امكان ذلك سيكون ضئيلا، مثلما كان الحال مع عمّي، الشاعر الوطني المرموق أبو سلمى الذي توفي في 1980، وكان تواقا الى ان يدفن في وطنه. لكن اسرائيل رفضت الطلب، كما هي عادتها في كل طلبات الفلسطينيين، ودفن في دمشق، موطنه الثاني بعد نكبة 1948. انها اسرائيل نفسها التي سمحت للمجرم اليهودي التشيكي روبرت ماكسويل بقبر في جبل الزيتون، ولا شك انها ستعود الآن الى القول بأن لا مكان فيها لأبناء فلسطين الذين يريدون أن تكون تربة الوطن مثواهم الأخير. فوق كل ذلك وجدت نفسي أسيرة موجة داهمة من اللوعة والفقد الشخصي. السبب ربما كان التشابه بين قصتينا. فقد ولدنا في المنطقة نفسها من القدس، واضطررنا في عمر مبكر الى مغادرة مسقط رأسنا والعيش في المنفى، هو في الولاياتالمتحدة منذ اليفاع، وأنا في بريطانيا في سن أصغر. ورغم نشأته في أميركا فقد تربى مثلي على الأدب الانكليزي وبقي وفيا له في العمل وأسلوب الكتابة. وعلى صعيد شخصي أكثر، كانت هناك مشاكله مع والده، التي دفعته الى المزيد والمزيد من الانجاز لكن دون التخلص من الشعور بعدم الكفاءة، وهو ما يتوافق في شكل مؤلم مع تجربتي. وكتب في مذكراته "خارج المكان": "أفتقر الى الشعور بتراكم الانجاز. كل يوم بالنسبة لي مثل بداية فصل دراسي جديد، ولا شيء قبله سوى صيف متطاول فارغ" - وهو شعور اعرفه بعمق. كما ان يقظتنا السياسية جاءت مع هزيمة 1967 ودفعتنا الى البدء بالمشاركة بالسياسة الفلسطينية. ثم انطلق ادوارد سعيد نحو شهرته الواسعة وانجازاته التي لا تضاهى، فيما كان طريقي أكثر تواضعا. لكن ما استمر في اعماق حياته كان الشعور الدائم بالاستلاب والافتقار الى المستقر، وهو ما عذّبه دوما وكان في الوقت نفسه دافعه لبذل الجهد - وهو أيضا الشعور الذي يعذبني ويدفعني. كان ادوارد سعيد في الوقت نفسه مواطنا عالميا، حسب أفضل معنى للكلمة، لأننا نعلم ان من يفتقر الى المواطنية في وطنه يصبح مواطنا عالميا. ربما كان هذا التماثل ما جعل لقاءاتنا عبر 24 سنة بالغة المعنى، وأيضاً، من جهتي، محفورة في الذاكرة. لقاؤنا الأول كان في ليبيا في 1976 عندما شاركنا في مؤتمر عن الصهيونية والعنصرية استضافه العقيد معمر القذافي. الموضوع كان على لسان الكل بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الصهيونية في 1974. ولم ادرك وقتها عند لقاء ذلك الشاب الخجول المكانة التي كان سيحتلها في وقت قصير. اللقاء الثاني كان في نيويورك في 1978 غداة صدور كتابه "الاستشراق" ولم اقدّر أهمية الكتاب ذلك الحين لأنني لم أكن مؤرخة. لكن الضجة التي أثارها كانت مذهلة، وعندما تيسر لي قرآته بدأت أفهم ما يعنيه، خصوصا للفلسطينيين. الكتاب، كما هو معروف، يكشف أساس المقاربة الغربية للشرق، أي تشرب الآداب والأبحاث الغربية بالمواقف الكولونيالية واعتبار "الآخر" الشرقي أقل من مستوى الانسان، أو موضوعا مثيرا للدراسة، مثل حيوان في حديقة الحيوان. لكن الكتاب يحتوى على أكثر من هذا، كما سأبين أدناه. فكرة الكتاب الأساسية، مثل كل الأفكار العظيمة، تبدو فورا وكأنها مألوفة أو اننا نعرفها منذ زمن طويل. لكنها أثارت من العداء بقدر ما أثارته من الاعجاب. وأتذكر هنا في بريطانيا ذلك السيل من النقد اللاذع في المجلات الأدبية والاستقطاب الحاد بين المؤرخين البريطانيين الذي أحدثه الكتاب. الانتقاد الأساسي كان ما زعمه البعض من "تبسيطية" تحليلات سعيد لكتابات الغربيين عن الشرق واستهانته بالدراسات الحقيقية المعتنية التي قدمها الكثيرون من الباحثين الغربيين، فيما أشار آخرون الى ندرة الدراسات للوجه الآخر للموضوع. اذ كم عدد الباحثين الشرقيين - اذا كان هناك أي منهم أصلا - الذين درسوا الغرب بالمقدار نفسه من الاعتناء الذي بذله الباحثون الغربيون في دراستهم للشرق؟ البعض من هذه الانتقادات، كما أرى، لا يخلو من قسط من الحقيقة، لكن هذا لم يكن المحور الرئيسي للكتاب، لأن انجاز ادوارد سعيد الحقيقي كان في تحديده لما يمكن ان أسميه ارادة الاستلاب الكامنة في قلب الأبحاث المعنية. أي ان كتاباته تندرج تحت عنوان "سياسات الاستلاب" التي ينبع اهتمامه بها من أصوله الفلسطينية. وعلينا لكي نفهم أهميته على حقيقتها أن نفهم تاريخ فلسطين الحديث. فقد كانت الأرض التي ولد فيها في 1935 تحت الادارة الكولونيالية البريطانية، وفقا للانتداب الذي قررته عصبة الأمم في 1922. أي أن البيئة التي قضى فيها طفولته كانت كولونيالية، وليس لجهة الوجود البريطاني فحسب بل الصهيوني أيضا، ذلك المشروع الكولونيالي الذي بدأ في الازدهار تحت حماية بريطانيا. عائلة ادوارد سعيد نفسه كانت ميسورة، وتمكن والده، رجل الأعمال المسيحي الثري، من توفير تعليم غربي في أغلى المدارس. مع ذلك فإن الوجود العربي كله كان أسير هذا الوضع الكولونيالي. هذا كان التأثير الذي سيطر على نشأته. بل أن حتى تسميته نتجت عن ذلك، لأن والدته سمته ادوارد تيمنا بولي عهد بريطانيا الذي أعجبت بشخصيته، والواضح انها لم تعرف شخصية عربية تثير اعجابها الى هذا الحد وتعتبرها قدوة ممكنة لوليدها. وعندما غادرت عائلة سعيد القدس في 1947 الى القاهرة، حيث درس في كلية خاصة بريطانية النظام، كانت تحظر استعمال العربية في البيت، الاّ عند مخاطبة الخدم. وأدى هذا، كما لاحظ سعيد نفسه، الى ذلك الانفصام في الهوية الذي رافقه من المراهقة حتى بقية حياته. ثم جاء تأسيس دولة اسرائيل في 1948 وطرد نحو ثلاثة أرباع المليون فلسطيني، وأصبح هذا السلب التاريخي للبلد موازياً للاستلاب الروحي الذي عاناه واصبح من بين أسس نظرته الى العالم، كما اتخذ حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى الديار التي طردوا منها موقعا مركزياً في عمله. وعاد في كتاباته دوماً الى العناصر الأساسية في الصراع بين اسرائيل والفلسطينيين وسلب الشعب الفلسطيني ورفض اسرائيل تحمل مسؤلياتها عن عذاباته. واتخذ هذا الرفض الاسرائيلي منذ اقامة الدولة شكل الانكارالعصابي. وسعت اسرائيل، لكي تديم اسطورة برائتها، لازالة كل أثر للوجود الفلسطيني على الأرض، من بين ذلك تدمير أكثر من 400 قرية وانشاء مستوطنات اسرائيلية على أنقاضها. كما تم تزوير تاريخ اسرائيل في المدارس في شكل يضمن استبعاد الحضور الفلسطيني، والاستعاضة بأسطورة تاريخية عن استمرار الوجود اليهودي في فلسطين منذ عهد التوراة حتى الوقت الحاضر - ذلك الوجود الذي لم تقطعه سوى فترات موقتة من الدخول الروماني والعثماني والبريطاني. ولا غرابة، اذا لم يكن لديك معلومات غير هذه، أن تعتقد أن العرب لم يكونوا في البلاد أبدا، عدا بعض القبائل البدوية الرحالة. هذه هي الأساليب التي سعى الاسرائيليون من خلالها الى الغاء شعب بكامله بكل تاريخه وذاكرته ولغته وثقافته. انها الاهانة المزدوجة التي يشعر بها كل الفلسطينيين، الموجهة اليهم جسداً وروحاً، بانكار وجودهم كشعب متميز له تاريخه، وعدم الاعتراف بما تحملوا ويتحملون من عذاب. ادوارد سعيد شعر بهذا بعمق، وانعكس هذا الشعور، في شكل أو آخر، في كل كتاباته. هذا في التحليل الأخير هو سبيل فهم كتاب "الاستشراق". فالكتاب الغربيون الذين وصفوا العرب قاموا بسلبهم أيضا، ولو كان ذلك بأناقة في الأسلوب والكثير من الاحاطة التاريخية. ذلك ان شعبا يعاد تصوره من خلال منظور ثقافي أجنبي يقوم على مسلمات عن "التفوق" الغربي يتعرض بذلك الى سرقة هويته الحقيقية - وهذا أيضا نوع من السلب. * كاتبة فلسطينية، لندن.