السؤال المحوري الذي يتبادر الى الذهن دائماً ويطرح نفسه في الساحة النفطية الدولية هو: لماذا يتخذ المراقبون أسعار النفط كشماعة يعلقون عليها مشاكلهم الاقتصادية ويتخذونها أداة لاقناع المستهلكين والمنتجين بانها السبب الرئيسي لما يطرأ على الاقتصاد الدولي من عثرات؟ منذ عام 1973 وما نتج عنه من ارتفاع كبير في أسعار النفط نتيجة "حرب اكتوبر" يلوم المراقبون والعاملون في أسواق النفط الدولية الدول المنتجة للنفط ويتهمونها بأنها السبب الرئيسي للركود الاقتصادي الدولي. ومن عجائب الأمور ان الدول المنتجة لا تسلم أيضاً من اللوم والانتقادات عند انخفاض أسعار النفط، حيث يزعمون أن الانخفاض يسبب ركوداً شاملاً في التنقيب على النفط الخام، لأن انخفاض الأسعار لا يشجع شركات البترول العالمية على اكتشاف المزيد من الحقول النفطية، خصوصاً ذات الكلفة المرتفعة، الأمر الذي يقلل من انتاجها ومن ثم ارتفاع اسعارها في المستقبل. وينتج عن ذلك ركود اقتصادي عالمي. الركود الاقتصادي يعرف الركود الاقتصادي بانخفاض الناتج الوطني لاقتصاد ما لمدة لا تقل عن ستة أشهر، ويطرأ على المستوى المحلي والاقليمي وقد ينعكس على الاقتصاد العالمي نتيجة متغيرات اقتصادية مختلفة تتعلق بتقلبات العوامل التي تؤثر في قوى العرض أو قوى الطلب او كليهما في اسواق السلع والخدمات او الاسواق المالية والنقدية او اسواق العمالة او مزيج من بعض او كل هذه العوامل مجتمعة. فالناتج الوطني في هذه الحالة هو المقياس الاقتصادي الرئيسي الذي يعزى اليه الوضع الاقتصادي لأية دولة، الأمر الذي يفرض على كل دول العالم قياسه بدقة شديدة باستخدام الوسائل الاقتصادية والاحصائية الحديثة والمتعارف عليها عالمياً. فمهمة الناتج الوطني يمكن وصفها بأنها مثل "الثرمومتر الطبي" الذي تقاس به حرارة المريض، وذلك لأن للاقتصاد الوطني حرارة تنعكس بشدة في ارتفاع اسعار السلع والخدمات وهي لا تقل خطورة عن ارتفاع حرارة جسم الانسان. وعلى ضوء حرارة الاقتصاد الوطني تتخذ حكومات الدول القرارات الاقتصادية المالية والنقدية التي من شأنها خفض حرارة الاقتصاد الوطني حتى لا يصاب المواطنون بالتضخم أو البطالة أو كليهما. أثر أسعار البترول على الناتج الوطني يتأثر حجم الناتج الوطني بصفة شمولية بجميع أسعار وكميات السلع والخدمات المنتجة محلياً، فإذا ارتفع نصيب النفط المنتج محلياً في الناتج الوطني بنسبة كبيرة، فإن ارتفاع أسعاره ينعكس في اسعار السلع والخدمات لأن النفط مادة أولية ضرورية في انتاج معظم ما يحتاجه الاقتصاد الوطني من سلع وخدمات. وحيث ان معظم الدول الصناعية تعتمد اعتماداً كبيراً على واردات النفط من الدول النفطية، وبما ان الواردات من السلع والخدمات ليست جزءاً من الناتج الوطني، إلا أن ارتفاع أسعارها يؤثر بطريقة مباشرة على الطلب الكلي للسلع والخدمات الذي تمثل الواردات جزءاً منه. وعلى ضوء ذلك فإن انخفاض الطلب الكلي على السلع والخدمات نتيجة ارتفاع اسعار النفط المستورد يؤثر سلباً في اجمالي العرض المحلي للسلع والخدمات وهو ما يسمى بالناتج الوطني. والنفط يعتبر أحد أهم عناصر الانتاج في العملية الانتاجية الصناعية والزراعية وكذلك في صناعة الخدمات لما يمدها من طاقة. من هذا المنطلق يمكن أن ندرك ان انخفاض نسبة نصيب الواردات النفطية الى اجمالي الواردات يقلل من تأثير ارتفاع اسعار البترول على الناتج الوطني. في الولاياتالمتحدة نجد أن نسبة نصيب واردات النفط الى اجمالي الواردات من السلع والخدمات انخفضت خلال ال25 عاماً الماضية من 24 في المئة عام 1974 الى 6 في المئة عام 2002، الأمر الذي يشير بكل وضوح الى ان هناك انخفاضاً تدريجياً في تأثير ارتفاع اسعار الخام في الناتج الوطني في ربع القرن الماضي. ويذكر أن رئيس "مجلس الاحتياط الفيديرالي الاميركي" المصرف المركزي الأميركي ألن غرينسبان اشار مرات عدة في خطاباته الرسمية إلى أن تأثير ارتفاع اسعار البترول في الاقتصاد الاميركي يكاد يكون معدوماً، وأكد أن أسعار المشتقات النفطية بأنواعها لا تشكل سوى جزء بسيط من اجمالي كلف انتاج السلع والخدمات. وتصريح رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي يشكل رداً واضحاً وصريحاً على المزاعم القائلة إن ارتفاع أسعار النفط كان سبباً في انخفاض نمو الاقتصاد الأميركي. من ناحية أخرى، يمكن استخدام التحليل الاقتصادي نفسه للرد على المزاعم القائلة إن ارتفاع اسعار النفط أدى إلى ارتفاع اسعار البنزين والديزل ووقود الطائرات، الأمر الذي أدى الى انكماش دخل المواطن الاميركي ومن ثم قلل من نسبة الادخار العام، وبالتالي قلل من نصيب الاستثمار العام في الناتج الوطني. ويمكن الرد على ذلك بالقول إن الاقتصاد الأميركي شهد في العقد الماضي نمواً ملحوظاً في كل قطاعاته وانخفاضاً في معدل التضخم، مما نتج عنه زيادة في الدخل الحقيقي للمواطن، انعكس ايجاباً في انخفاض نصيب الدخل المستخدم في شراء منتجات النفط المذكورة، وقلل بالتالي من تأثير ارتفاع أسعارها على المواطن الاميركي. دراسة احصائية يتأرجح الاقتصاد الدولي بصفة مستمرة بين انتعاش وركود وتباطؤ نتيجة أسباب مختلفة، من بينها سوء استخدام السياسات المالية أو النقدية أو كليهما، والبعض الآخر نتيجة أسباب سياسية واقتصادية متنوعة. ولمعرفة قوة أو ضعف العلاقة الاقتصادية الاحصائية بين اسعار النفط الدولية من ناحية، والأوضاع الاقتصادية الدولية من ناحية أخرى، تم تحليل هذه العلاقة في الفترة بين منتصف عام 1990 ومنتصف عام 2002، حيث شهدت هذه الفترة تبايناً كبيراً في أسعار النفط، وكذلك في الأوضاع الاقتصادية الدولية. والعجيب ان متوسط أسعار النفط قفز بين عامي 2000 - 2002 إلى أكثر من 27 دولاراً للبرميل، في فترة وصفت ببطء نمو الاقتصاد الدولي، بينما في الفترة بين عامي 1993 - 1995 بلغ متوسط أسعار النفط 15 دولاراً للبرميل، في وقت عاش فيه الاقتصاد مرحلة من النمو. وعلى رغم الانخفاض الكبير في اسعار النفط، لم تشهد هذه الفترة انتعاشاً اقتصادياً، كما حدث في الفترة بين عامي 1997 - 1999 التي شهدت انتعاشاً اقتصادياً، وبلغت أسعار النفط خلالها 16 دولاراً للبرميل. على عهد الرئيس الاميركي رونالد ريغان، بدأ متوسط الأسعار ينخفض بسرعة مطردة من 29 دولاراً للبرميل في عام 1984 الى نحو 12 دولاراً للبرميل في عام 1986. وعلى رغم هذا الانخفاض السريع والمذهل، فإن هذه الفترة شهدت تباطؤاً في نمو الاقتصاد الدولي. هذا التحليل الاقتصادي الاحصائي البسيط والمختصر، الذي لم يعتمد على فترة زمنية طويلة، يبرهن على عدم وجود علاقة بين أسعار النفط والأوضاع الاقتصادية الدولية، الأمر الذي يرد على الاتهامات الشائعة التي تصف الدول المنتجة للنفط بأنها سبب رئيسي في تدهور الاقتصاد الدولي. إلا انه يمكن القول إن الارتفاع الكبير في أسعار النفط عامل مساعد وليس رئيسياً ساهم مع عوامل اقتصادية اخرى في تدهور أوضاع الاقتصاد الدولي. مشاكل صناعة النفط تواجه صناعة النفط الدولية، خصوصاً صناعة النفط الاميركية، مشاكل عدة منها قدم البنية التحتية لمرافق النفط الخام ومصانع التكرير التي لم تجدد منذ ما يقرب من 20 عاماً، ونتجت عن ذلك زيادة كبيرة في تكاليف انتاج مشتقات النفط، ومن ثم ارتفاع أسعارها. ويعزى هذا التقادم إلى انخفاض الاستثمارات في صناعة النفط وبصفة خاصة صناعة تكرير النفط الخام وتشدد القوانين التشريعية التي تحد من العائد الربحي على الاستثمارات النفطية، خصوصاً قيود حماية البيئة. هذا بالإضافة الى عدم وجود خطة نفطية استراتيجية اميركية شاملة وموحدة في العقود الماضية على رغم الزيادة المضطردة في الطلب على النفط. يقدر الاستهلاك اليومي من منتجات النفط في الولاياتالمتحدة بنحو 20 مليون برميل، يمثل 27 في المئة من اجمالي الاستهلاك الدولي، ولا يغطي انتاجها المحلي من الخام سوى 25 في المئة من احتياجاتها. وتستورد أميركا 75 في المئة من احتياجاتها من الخارج. وتستهلك الولاياتالمتحدة في الوقت الراهن نحو 9 ملايين برميل في اليوم من بنزين السيارات، أي نحو 43 في المئة من اجمالي استهلاكها من جميع منتجات البترول المكررة. ويذكر أن خطة الطاقة التي اعدتها لجنة الرئيس الاميركي بوش للطاقة أشارت إلى أن الولاياتالمتحدة ستواجه أزمة طاقة حادة إذا لم تتخذ خطوات ايجابية في صناعة الطاقة لتلافي الاخطاء الفنية والاقتصادية السابقة. وبذلك يمكن القول إن أزمة الطاقة الدولية لا تتجسد في أسعار الخام، ولكن في عدم قدرة الدول المستهلكة، خصوصاً الولاياتالمتحدة، أكبر مستهلك للطاقة في العالم على تبني استراتيجية نفطية طويلة الأمد ذات أبعاد سياسية واقتصادية معروفة، تهدف الى التغلب على مشاكل العرض والطلب الدوليين التي تطرأ بين فترة وأخرى مسببة أزمة طاقة دولية. ضرائب النفط تلتهم الضريبة بكل أشكالها جزءاً من دخل المستهلك، فتقلل من قدرته على استهلاك السلع والخدمات وتستخدمها حكومات الدول لأغراض زيادة ايراداتها الحكومية أو الحد من استهلاك سلع معينة. وتشير الاحصاءات الضريبية للدول المستهلكة للنفط الى ضخامة الضريبة المفروضة على البنزين والديزل المستخدمان في السيارات في الدول الاوروبية الصناعية، حيث يبلغ متوسط نسبة ضريبة البنزين 70 في المئة ومتوسط ضريبة الديزل نحو 62 في المئة من سعر التجزئة، الأمر الذي يرفع أسعارهما الاستهلاكية. وتفرض اليابان نحو 50 في المئة على أسعار البنزين والديزل، بينما تعتبر الولاياتالمتحدة أقل الدول الصناعية استخداماً للضريبة المعنية. ويذكر أن المستهلك الأوروبي أدرك أخيراً أن السبب الرئيسي في ارتفاع اسعار البنزين والديزل ليس الدول المصدرة للنفط الأعضاء في "أوبك"، بل هو حكومته التي تفرض الضرائب الباهظة، وانعكس هذا المفهوم الخاطئ في التظاهرات والاحتجاجات العارمة التي اجتاحت الشارع الاوروبي في عام 2001 بسبب ارتفاع اسعار البنزين والديزل. يبدو واضحاً من التحليل الاقتصادي والاحصائي المبسط، عدم صحة الاتهامات الدائمة التي يقذف بها مراقبو أسواق النفط الدولية على الدول المنتجة وتلقي اللوم على الدول النفطية في الركود أو التباطؤ الاقتصادي، إذ أن رغبة الدول المستهلكة في زيادة ايراداتها من الضرائب على منتجات البترول تقودها الى استخدام الدول المنتجة للنفط كأداة او شماعة تعلّق عليها أخطاءها السياسية والاقتصادية. * رئيس مركز استثمارات الجدوى الاقتصادية والإدارية - السعودية.