بعد روايتيها "الولع" و"الغلامة" تجيئنا عالية ممدوح الروائية العراقية في "المحبوبات" روايتها الجديدة الصادرة أخيراً عن دار الساقي من جهة الصداقة، كونها خيار مشاركة وخيار مقابلة. انها في الحقيقة تضع بين أيدينا أطول نص أدبي عربي في مديح الصداقة بعد رسالة أبي حيان التوحيدي الشهيرة في الصداقة والصديق. فعلى رغم أن خيطاً واحداً من خيوط السرد لم يفلت من الاتجاه الذي يؤدي به الى مركز الرواية حيث تبحر بطلة الرواية "سهيلة" في غيابها الأسطوري عن الوعي، غير ان الكاتبة كانت منهمكة في الوقت نفسه في تفكيك العناصر الخفية التي يتشكل منها سحر اللقاء بالآخر والانفتاح عليه، ذهاباً من الذات وعودة اليها. ان البطلة التي لا يؤهلها وضعها الصحي لأن تكون راوية لا تغيب عن المشهد، لا لأنها حاضرة فيه في شكل مباشر، وهو ما لا يمكن التشديد عليه دائماً، بل لأن حضورها يتحقق من خلال محبوباتها، وهن جوقة من النساء اللاتي أعطت كل واحدة منهن لحياة البطلة معنى مختلفاً. فهن لسن مجرد مرايا عيانية تشهد على حياة البطلة، بقدر ما تستعين بهن البطلة على اكتشاف المخفي من حياتها. تقول سهيلة عن صديقاتها وهي تخاطب ابنها: "لا تضحك علي يا نادر وتقل ان صديقاتي ملائكة، لا أحد ملاكاً، وأنا لا أحب هذا الوصف أصلاً، لكننا بالفعل ونحن معاً، أشعر بقيمة الأشياء، الأفكار، الصداقة، الدنيا، الشعر، الشراب وأشياء أخرى لا أعرف تفسيرها". يتعرف القارئ إذاً بين ثنايا الرواية الى المحبوبات الحاضرات ليجد في معرفته هذه ما يعينه على التعرف الى الغائبة. فهن محبوباتها اللواتي شكل تنوعهن نسيج حياتها. بل انها استمدت منهن القدرة الاستثنائية على تحمل العيش بكل توتره وهي الفنانة المنفية بعيداً من ماضيها العائلي ومن وطنها. هناك نوع من التقابل بين الأوجاع والمسرات سعت الكاتبة الى تفتيته الى جزيئاته التي يمتزج بعضها بالبعض الآخر، حتى ليظن القارئ انه يتنقل بخفة بين مرآتين، كل واحدة منهما تكشف عما تخفيه الأخرى. كل واحدة منهما تكمل عمل الأخرى. واحدة منهما لا تكفي. كما لو نكون معها إزاء حياة ناقصة. هذه الحياة لا يمكنها أن تكتمل إلا بتجاور التجربتين أو تقاطعهما بالشكل المرآتي: المنفى والوطن، الأوجاع والمسرات، الذاكرة والنسيان، الحب والكراهية، الجنس والعنف، اللذة والندم، الفشل والاصرار على المضي. ومن خلال هذا التقاطع الذي تصدر عنه تقنية الكتابة الروائية يلوح لنا الزمن بصيغتيه: السائلة والصلبة. لقد جعلت ممدوح من الزمن بطلاً خفياً لروايتها. وما المحبوبات إلا قناعة الموقت والحيلة التي يتسلح بها لارجاء عصفه الأخير. المحبوبات هن إذاً ذريعة الزمن في نزهته المسلية، عصاه المضادة التي يهش بها وجوده السلبي وخطى شياطينه التي يرتجلها في لحظة طيش. تبدأ الرواية من لحظة استسلام كامل لإرادة الزمن. لقد سقطت سهيلة في أحد شوارع باريس مغمى عليها ونقلت الى المستشفى وظلت في الجزء الأكبر من الرواية في حال غيبوبة. أما في الجزء الصغير الآخر منها، فإن صحوها لم ينتج كلاماً. لم يكن إلا إشارة الى انها لم تزل على قيد الحياة. ولذلك فإن كل ما فعلته سهيلة في الرواية لم تفعله مباشرة وكل ما قالته قاله الآخرون نقلاً عنها أو أفصحت عنه يومياتها. الحاضر بالنسبة إليها هو زمن الآخرين وهم يسعون الى استعادتها. ابنها القادم من كندا ومحبوباتها الوافدات الى باريس من أماكن شتى، المنفيات مثلها، ولا تلجأ الكاتبة الى أسلوب استرجاع الأحداث إلا من خلال يوميات البطلة. أما الوقائع الأخرى فهي رهينة الحاضر الذي لا تشترك البطلة في صناعته إلا بصفتها محوره. بعيدة هي بجسدها الصامت وأكثر قرباً من أي وقت مضى بقدرتها على الإلهام. الهام حياة هي في طريقها الى التلاشي وكأنها لم تكن. فالنائمة الجميلة وهي تنحدر الى فنائها تخلي الطريق أمام ما يتبقى منها: حياتها التي هي أشبه بالقطعة الموسيقية التي كانت المحبوبات أشبه بحركاتها المتشابكة والمتقاطعة. نساء قدمن الى المنفى المشترك من كل مكان ليصنعن عرشاً متخيلاً من نسيج وهم تشكل الصداقة لحمته وسداه. كل واحدة منهن هي في حد ذاتها لغة تضفي على النشيد المشترك نبرة تغنيه وتباركه بسعة توتر ضروري. كما لو أن الروائية سعت الى أن تفاجئنا بما هو ممكن خارج الاحتمال البشري: حياة مثالية وسط فوضى الحس الإنساني. لقد صنعت مدينتها الفاضلة، لكن من خلال استلهام الحدس الإنساني في أكثر مناطقه خفاء. حيث يكون الذهاب الى الآخر تعبيراً عن العودة الى الذات. إجراء في غاية الصعوبة غير أنه ممكن بحسب المشيئة الروائية التي هي مشيئة حياة مشروطة بالإبداع. إننا نتعرف الى سهيلة من طريق الاشتباك بثنايا تلك الحياة، وهي حياة لا تعنيها في شكل مباشر إلا بما تعكسه من أثر، الأمر الذي يتيح لنا التنقل بقدميها والنظر من خلال عينيها ولمس الأشياء بيدها وهي السادرة في غيابها. الروائية تهب التمثال حياة من خلال انعكاس ضوئه في ظلال الآخرين. فالصداقة هنا وهي فكرة الكتاب عاطفة عراقية في حين كان الزمن محوره. من طريق الصداقة جعلت عالية ممدوح شخصيات روايتها أكثر وضوحاً وأشد صلابة، كما لو أنها استلتها من الواقع من غير أن تلحق بها أي تعديل طفيف. وهو ما يجعلنا نتخيل أننا نقرأ كتاب سيرة. غير أن بغداد هذه المرة لا تحضر في شكل صلب مثلما حدث في الغلامة، فهي هنا تلمع وسط مياه الذاكرة المهدمة مثل حصاة فالتة، حصاة تقوى على أن تطفو. على رغم أن المنافي وهي خيار تشرد نزعت عنها الكثير من قشورها. يقول ابنها: "جميع المدن التي غادرنا اليها تسرق منها شيئاً ما، لا أعرف ما هو، لكنني كنت أشاهده في تلك العواصف، في نوبات طويلة من الصمت، في الشعور بالنفور والتنافر مما حولها". وهنا يكتسب السطر الشاعري بكل غموضه والذي بدأت به الرواية معناه "في المطارات نولد والى المطارات نعود". لا بيت إذاً. هناك دائماً مطر هو بوابتنا الى منفى جديد. أما بغداد التي تغمض البطلة عليها عينيها فهي بعيدة كما لو أنها جزء من حلم، يحق لها استرجاعه كما لو أنها تقرأه حكاية مضافة من حكايات لياليها، لكن من غير أن يسمح لها بالدنو منه. تصفها نرجس وهي احدى المحبوبات: "انها أكثر حياة منا، لأنها تحاول أن تحدثنا بلغة لم نعهدها من قبل، نحن من يحاول الوصول اليها وليس العكس. هذا التأرجح ما بين الموت والحياة هو محاولتها للتكلم معنا". وفي الحقيقة فإن ما تقوله نرجس انما يعبر عن ضالة الكتابة لدى عالية ممدوح التي تعيش نفياً مماثلاً هي الأخرى. فهذه الرواية تقرأ من جهة امتناعها، لا لأنها تتستر على ما تريد قوله، بل لأنها كتبت بلغة متوترة، مشدودة، يكمن رخاؤها لا في ما تبلغ عنه بل في ما تبلغه في مقطع هو غاية في الشاعرية والكمال. حين تتعرف على فاو المنفي هو الآخر تكشف عن حساسية مختلفة ينطق بها جسدها من خلال الرقص. هناك نص آخر. هو نص مخفي. نص الجسد الذي يتوق الى سلطته: الخفة المتأنية باسترسال شاعري، الأنوثة التي يغريها التتويج في الكشف عن طقوسها. لقد حاولت ممدوح أن تزيح عن الجسد عريه، ألا تهبه ضلالة مضافة، من خلال الارتقاء به، عابراً محنة الغواية الى حيرة الايحاء. فالراقصة التي تطل من خلالها سهيلة هي بعيني فاو ليست جسداً محايداً، يمرق في ليل شهوته ذاهباً الى النسيان، إنها ذاكرة بلد وثقافة والهام وأشياء أخرى لا يمكن الامساك بها في يسر. "كل قناع هو مخبأ" يقول نيتشه، وهو ما تؤكده عالية ممدوح في كل لحظة كتابة. فالجسد هو الآخر قناع. قناع يجعلنا أقوى في مواجهة ما هو آت. لا نضعف بسببه في مواجهة ما هو أقوى منه. تقول سهيلة: "كلما أتدرب أتيه وأضيع، أفضل أن تنطلق الحركات بعفوية. نحن نقطع الخبز ونلتهم الطعام، وننشر الملابس على حبل الغسيل، ونغطي أجسادنا بالمعاطف أو البطانيات، حركات تدلنا على كيفية مجابهة الموت، فلا يجرؤ على الالتفات الينا. ندع الموت يحار في أمرنا، فلا يعرف كيف يباشر عمله. الرقص هو الذي يحير الموت حتى لو كان سيئ الحركات مثل التي أقوم بها". وفي مكان آخر تقول: "متى تحبنا أجسامنا كما كان بمقدورنا أن نحبها؟". مراوغة الموت واللعب معه من خلال الجسد حاضرة في كل صفحة من صفحات الرواية. كيف لا وسهيلة تكتب في يومياتها: "الأموات يحيطون بي أكثر من الأحياء". "المحبوبات" رواية منفى، لا بحكم المكان الذي يحيط بوقائعها بل بصفته المنفى زمناً يتصف بالإبعاد القسري والقسوة والتيه والعزلة والتلاشي التدريجي. دائماً هناك توق الى حياة غائبة، حياة تقيم في مكان آخر، هو المكان الذي غادرته البطلة الى الأبد، بغداد. كما لو أن عالية ممدوح أرادت من خلال هذه الرواية أن تلقي آخر نظرة على مدينتها الذاهبة الى المجهول. وما هذه الرواية إلا تلويحة الوداع. ولو شئنا القراءة التأويلية بكل مزاعمها الرمزية لقلنا ان سهيلة ذاتها، المرأة الغاطسة في غيبوبتها، الغائبة عن حياتها، ما هي إلا تجسيد رمزي لبغداد التي تعيش اليوم محنة تيهها وأزمة هويتها.