بعيداً عن مشاعر الفقد التي خلفها غياب البروفيسور إدوارد سعيد، إذ انه أوفى الفقد والمنفى اجمل المعاني ومؤلفاته ومواقفه كفيلة بأن تبقيه في الوجدان أبد الدهر، ينبغي الالتفات الى حال الفصام في المشهد الثقافي العربي الذي كشفه غيابه. ففي تأبين سعيد، كُتبت مرثيات كثيرة تحدثت، بحق، عن فاجعة موته ومآثره والخسارة المتعددة الاوجه لغيابه. لكن على رغم فيض هذه المرثيات، واصحابها جميعا من الادباء او الكتاب او المفكرين او الصحافيين او الأكاديميين، فان هذا الاعجاب بسعيد ومكانته الفكرية لا ينعكس بالزخم نفسه في حياتنا الأكاديمية، بل يكاد سعيد يغيب عن حاضرنا وتأهيلنا الأكاديمي في فلسطين مثلما في معظم اقطار العالم العربي. أقول هذا وانا اتذكر يوم غادرت القدس قادمة الى لندن بعد وقت قصير من تخرجي في الجامعة. فعلى رغم تحصيلي بكالوريوس في علم اللغويات، تخصص لغة انكليزية، ودبلوم في الترجمة، الا انني لم أكن اعرف عن سعيد غير اسمه واسم مؤلفه الشهير "الاستشراق". وهكذا كان حال زملائي في الدراسات التابعة لكلية الاداب، وتحديداً الأدب الانكليزي والألسنيات وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا وعلم النفس، ولسعيد مساهمات اساسية فيها. أذكر أيضاً ان جامعتي كانت تفرض على جميع الطلاب قبل التخرج انهاء اربعة مساقات في "الدراسات الثقافية" موضوعها تاريخ الفكر الانساني بدءا بالاغريق، ومروراً بالمفكرين المسلمين، ثم عصر النهضة والتنوير، وصولاً الى فلاسفة العصر الحديث في اوروبا، من دون ان يكون سعيد من بينها. المفارقة كبيرة هنا، فكيف تدرس جامعة عربية كل هذه المساقات، خصوصاً في حقل الدراسات الثقافية، وتتجاهل ادوارد سعيد ... المفكر الذي كان حاضراً في معظم فروع الدراسات الثقافية، وكان ركنا مؤسسا لدراسات "ما بعد الكولونيالية". وكيف تتجاهل غالبية المناهج الجامعية العربية المفكر الذي قارع العقل الغربي في عرينه وعرّاه، وانتزع اعتراف العالم الأكاديمي الغربي به؟ وكيف تتجاهل الناطق الأبرز باسم القضية الفلسطينية، وصوتها الذي فضح الرواية الصهيونية المهيمنة والمتداولة، وطرح "سرداً" فلسطينياً بديلاً على مستوى العالم؟ وكيف يتم تجاهل مفكر من طراز سعيد الذي أعطى نموذجاً فريداً للمثقف الملتزم الذي يربط الفكر بالممارسة في جدلية تصاعدية امتحانها الواقع المتغير والمتبدل أبداً؟ في لندن التقيت سعيد ثلاث مرات. كان أولها خلال حوار اجراه الكاتب طارق علي مع سعيد، وكنت اريد ان اغطيه لصحيفة "الحياة". بداية، ادهشتني فكرة وجود تذاكر للبيع من اجل حضور حوار فكري، ولو انني ادركت لاحقاً ان هذا تقليد معتمد في الغرب، خصوصا عندما يكون المحاضر بشهرته. خلال الحوار، شن سعيد هجوماً على الرئيس ياسر عرفات داعياً اياه الى التنحي. كان انطباعي الأول ان سعيد اكبر بكثير من المؤسسة الفلسطينية ومن فكرة تدجينه في عمل حزبي ودعائي، لكن في الوقت نفسه أحسست بالجرح الذاتي والاسى لدى مفكر ومناضل مثل سعيد جراء عدم الاعتراف به فلسطينياً او حتى الاستعانة بمعرفته، هو الذي شكلت فلسطين قضية مركزية لديه وحافزاً لابداعاته وإنجازاته. نعم، كان الوعي بالقضية الفلسطينية ومأساتها هاجساً وحافزاً لدى سعيد اخذ شكل التحدي الذي كان دفعه الى امام. لقد ارقه الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967، وما رافقه من هيمنة خطاب معاد للفلسطينيين والعرب والمسلمين في اميركا والغرب، ومعه تفاقم احساس سعيد بالمنفى وأزمة الهوية. استعمار فلسطين حفزه على تفكيك الخطاب الامبريالي الاسرائيلي والغربي وآلياته واهدافه، مستعيناً بفكرة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عن العلاقة بين "القوة والمعرفة": فاذا كانت معرفة الاخر مقدمة للسيطرة عليه، فان قلب المعادلة يعني ان "القوة" او "السلطة" تستطيع ان تفرض تصورها للآخر بهدف السيطرة عليه. استخدم سعيد هذا المنهج في تفكيك الرواية الغربية في كتابه "الاستشراق" حيث اشار الى ان الغرب هيمن على الشرق الآخر من خلال "تمثيله" في صورة الكسول والاكزوتيكي والمتخلف والمترهل بما يستدعي تدخل الغرب. وفي هذا الصدد، ابرز سعيد العلاقة الوثيقة بين الرواية الغربية عن الشرق وبين مصالح الكولونيالية وحاجاتها ومطالبها. وهكذا استنتج ان هيمنة الخطاب الصهيوني وروايته عن الآخر الفلسطيني، أعادت صوغ المسألة الفلسطينية امام الرأي العام العالمي بحيث باتت تتطابق مع التصور الصهيوني لها، وبذلك تم الترويج لفلسطين على انها "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، على حد وصف رئيسة الوزراء الاسرائيلية الراحلة غولدا مائير. احتلال عام 1967 كان ايضا حافزاً لدى سعيد لكي يحسم أمره كمثقف ملتزم ويخرج من علياء الأكاديمي وبرجه العاجي لينزل الى الواقع السياسي الذي سيكون المحك العملي لتطوير منهجه في شكل ديالكتيكي. لقد اعاد سعيد الاعتبار الى دور المثقف سياسياً، معتبراً ان المثقف يجب ألا يكون طرفاً في السلطة أو أي حزب سياسي، بل يجب ان يكون غير منتم لهذه السلطة حتى يستطيع ان يواجهها بالحق والنقد وان يكون مرجعية ثقة. واذا كان لإدوارد سعيد من مأثرة، فهي انه في ممارسته كان دائماً متماسكاً حد التطابق بين مواقفه العملية السياسية والأخلاقية وبين منهجه وافكاره ونظرياته. وكأني به "تمثيلاً" لما قاله الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "ان صوتاً شجاعاً وحيداً أكثرية". كان هذا فعلاً منهج سعيد في الحياة كما كان منهجه في النقد الأدبي عندما اصر على ان ثمة عالماً حقيقياً وراء النص وان للناقد علاقة وثيقة بالعالم. وبهذا نأى بنفسه عن تركة المدرسة البنيوية التي كانت تفصل النص عن واقعه المادي. ثمة ملاحظة اخرى لا بد من التنويه اليها في معرض الحديث عن سعيد، فهو عبر افكاره ومواقفه في "مقاومة" الخطاب الامبريالي المهيمن، اعطى مثالاً ونموذجاً لسبل التعاطي مع تحديات العولمة ومعضلة الحفاظ على الهوية. ففي مسألة "المقاومة"، رفض سعيد قولا وممارسة سياسة "الملامة" التي وصفها بأنها رجعية وهزيمة نفسية، داعيا شعوب "ما بعد الكولونيالية" الى المقاومة عبر اختراق الثقافة المهيمنة والارتحال فيها ومقارعتها، لكن من دون رفضها. هكذا كانت مسيرة سعيد المعرفية في الثقافة الغربية وهكذا تعاطى مع تحدياته الخاصة بتعدد الهوية لديه وإحساسه المتواصل بالمنفى، وهي تحديات صنعته وأوصلته الى ما هو عليه. أعود الى المناسبة الثانية التي مهدت للقائي بسعيد، وكنت حينها في لندن احضر لشهادة الماجستير في الاعلام. خلال الدراسة، لاحظت الحضور الكبير الذي يتمتع به سعيد في العلم الاكاديمي الغربي، ان كان في علم النفس او الاجتماع او الانثروبولوجيا او اللغويات او الدراسات الثقافية، ومنها دراسات ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية. في تلك الفترة، علمت ان سعيد سيلقي محاضرة في جامعة "إكستر" البريطانية في مناسبة افتتاح مركز للشرق الاوسط في الجامعة، ومنحه والدكتور محمد اركون الدكتوراه الفخرية من الجامعة. حضرت التكريم، وتقدمت من سعيد وهنأته، فقال لي: "انا اعرفك". ادهشتني ذاكرته، اذ كنا التقينا فعلا قبل اشهر في لقاء عائلي. لاحظت كم هو رقيق ومنصت وهو يستمع الي وأنا أتحدث عن "الاستشراق"، وعن الترجمة العربية للكتاب وعن الدراسة التي اعددتها عنه، وتحديداً في تطبيق منهجه في الاستشراق على فيلم "قطار منتصف الليل". الأهم انني رأيت في هذا المحفل ما يمثله سعيد بالنسبة الى العالم الأكاديمي الغربي، وكيف ان الجامعات "تتشرف" بمنحه الدكتوراه وكأنها تأخذ من مجرد حضوره شرعية "الاكدمة" ان جاز التعبير. وطبعاً هذا لا يعني ابدا اغفال الحملة الشعواء التي استهدفته، وهي حملة لم تقلل من قيمته الفكرية بقدر ما ثبتته في المشهد الأكاديمي الغربي على مر العقود الأربعة الماضية والى سنوات عدة مقبلة. ولا يكتمل الحديث عن سعيد من دون الحديث عن موهبته الموسيقية، فقد كان عازفا بارعا على البيانو حتى انه كاد يتخصص في الموسيقى. ولن ينسى له الفلسطينيون انه ابرز الوجه الانساني لهذا الشعب عندما اسس بمساعدة الموسيقي اليهودي دانييل بارنبويم الأوركسترا الفلسطينية، فأظهر جانباً مضيئاً لهذا الشعب: "شعب يحب الحياة اذا ما استطاع اليها سبيلاً". وقد يتساءل المرء عن سر سعيد الذي تجتمع فيه الاضداد: صلابة السياسي وفي الوقت نفسه حس الموسيقي المرهف. الجواب في اعتقادي يكمن في الموسيقى نفسها، وتحديدا في مفهوم "الطباقية"، الذي يعني تكامل الشيء وضده في الآن نفسه، وهو مفهوم وظفه سعيد في منهجه كناقد أدبي، وربما شكل احد أوجه تكوينه النفسي. في لقائي البروفيسور سعيد في جامعة "اكستر" وكان برفقة زوجته مريم، قلت له اني شبهته ببطل فيلم "الابدية ويوم" الذي اخرجه العبقري اليوناني ثيو انغلوبولوس، خصوصاً في الجزء المتعلق بصراعه مع المرض الخبيث ومعاني الحياة. والفيلم يحكي قصة شاعر يصارع السرطان ويتحداه في آخر يوم من حياته الافتراضية من خلال الاصرار على القيام بعمل يعزز الحياة ويؤكد جمالها وحلاوتها، فيقوم باعادة صبي متسلل عبر الحدود من ألبانيا لكي يحميه من عصابات استخدام الأطفال الاوروبية. أبتسم سعيد بعينين تريان ما لا نرى، وربما تذكّر شريطا من افراح واتراح، وقال ان مخرج الفيلم مفكر عظيم، "كما كانت الموسيقى عظيمة، موسيقى ايليني كاراندورا ... استاذة في تاريخ الموسيقى، لقد جمعت في موسيقاها روحاً انسانية تحيل الالم املا". هكذا هي الموسيقى الجميلة ... بوصلة الى كل المبدعين. واليوم وانا استمع الى موسيقى فيلم "الابدية ويوم"، احس بالحزن والكآبة. واذ استمع الى المقطوعة التاسعة "الى صديق ميت"، فإنني أهديها الى سعيد عنواناً لحزننا وخسارتنا واستدراجاً للأمل. هذا هو ادوارد سعيد، المفكر الموسوعي والموسيقي والناقد الادبي والمثقف الملتزم والناشط السياسي وصوت القضية الفلسطينية. واذ يغادرنا، فهو يخلف وراءه شعوراً كبيراً بالفقد لا يفاقمه شيء اكثر من التغييب القسري لمفكر من هذا المستوى عن حياتنا الأكاديمية و"نفيه" من مناهجنا الجامعية وتركه "خارج المكان"، هو الذي اوغل في قلب الفكرة، في قلب العالم ... وفي "الأبدية". * صحافية فلسطينية من أسرة "الحياة".