كنت أتوقع، وأنا أتابع "الملتقى الدولي عن الارهاب" الذي عقد أخيراً في الجزائر ان يتناول "الملتقى" اسباب وأبعاد "الظاهرة الافغانية" التي تأسست باشراف "وكالة الاستخبارات الاميركية"، والتي نعيش اليوم في ظل امتداداتها وتفرعاتها. لكن "الملتقى" اكتفى بإدانة عامة للارهاب، وحمّل مسؤوليته في الجزائر الى "الجبهة الاسلامية للانقاذ"، متجاهلاً "الظاهرة الافغانية" التي كانت الجزائر المسرح الأول لسلبياتها. لو كان الاعلام الليبرالي، الذي تمثل بكثافة في "الملتقى الدولي عن الارهاب"، منصفاً لما تجاهل حقيقة ان "جبهة الانقاذ" والنظام، كانا ضحيتي هذا الارهاب فالمعروف انه، قبل عودة "الافغان العرب" الى بلادهم، كان العنف في الجزائر، بعد منع الجيش لجبهة "الانقاذ" من الوصول الى السلطة على رغم نجاحها الساحق في الانتخابات، محدوداً ومحصوراً، لسنوات، بين الجناح العسكري الذي انبثق عن "الجبهة" إثر اعتقال قادتها، وبين قوات النظام. وكان عنفاً مبرّراً بين طرفين يدّعيان الشرعية في حكم البلاد. وفجأة تنفجر سيارة مفخّخة في حي شعبي في قلب العاصمة الجزائرية، فتحصد من القتلى والجرحى بقدر ما حصدت السيارة المفخّخة التي وضعها عملاء "وكالة الاستخبارات الاميركية" في الحي الشعبي في بئر العبد، في بيروت. كان الانفجار هائلاً أربك "الجبهة" بقدر ما أربك "النظام"، وخشية ان يُفضي الارتباك المشترك الى حوار بين الطرفين المتنازعين على السلطة، يُعلن أنور هدّام، احد قياديي "الجبهة"، اللاجئ في اميركا، في بيان بثّه القسم العربي في "هيئة الاذاعة البريطانية"، مسؤولية "جبهة الانقاذ" عن الانفجار. وعبثاً حاولت "الجبهة" نفي المسؤولية وهي محقّة في نفيها، فأية مصلحة لها في التحول عن عنف تراه مبرراً ضد سلطة "مغتصبة"، الى عنف ضد الشعب الذي منحها ثقته لتسلّم السلطة؟ لكن الاتهام ظل في الاعلام، لاصقاً بالجبهة، من دون الاشارة الى مصدره، ربما لكي لا تتحول اصابع الاتهام الى ما وراء الأطلسي. ومذّاك توالت المذابح ضد الأهالي، بأسلوب لم يعرفه الاسلام في كل تاريخه، وليس له شبيه في التاريخ الحديث الا ما كانت تقوم به جماعات عُرفت في اميركا اللاتينية، في زمن الحرب الباردة، باسم "فرق الموت"، التي كانت تموّلها وتوجهها "وكالة الاستخبارات الاميركية"، بحسب قول المفكر الاميركي المعروف نعوم تشومسكي، للتنكيل بأهالي البلدان غير الموالية أنظمتها للسياسة الاميركية. وفي حال كانت ثمة علاقة بين "الوكالة الاميركية" وبعض حلفائها السابقين من "الافغان العرب" العائدين الى بلادهم، بعد الانتصار للاسلام ولأميركا في افغانستان، فإن السياسة الاميركية تكون استفادت من اضعاف النظام في الجزائر، في اطار مطاردة النفوذ الفرنسي في القارة الافريقية، واستفادت اسرائيل من التشهير بالاسلام في اطار المطاردة الصهيونية للمقاومة الاسلامية في فلسطين ولبنان، بتحميلها، لدى الرأي العام العالمي، التبعات المعنوية للجرائم التي تُرتكب باسم الاسلام وبأيد اسلامية، في أماكن أخرى. بين التشجيع والردع قد لا يخطئ من يتهم اميركا بازدواجية العلاقة بالارهاب: التشجيع غير المباشر، والردع المباشر، والاستفادة من الحالين، فيسهل تفسير العديد من العمليات الارهابية، خصوصاً التي انتشرت بعد الاعلان الاميركي عن استهداف العراق، فإذا بهذه العمليات تستهدف القوى التي تحاول عرقلة القرار الاميركي. وإلا كيف نفسّر الرسالة الاخيرة المنسوبة الى أيمن الظواهري، بعد تفجير ناقلة النفط الفرنسية، حيث يقول صراحة ان تنظيم "القاعدة" يستهدف المصالح الفرنسية والألمانية، في حين ان حكومتي البلدين كانتا تسعيان لعرقلة القرار الأميركي. وهل يُعقل ان الظواهري يجهل بأن الهدف من احتلال العراق أبعد مما هو معلن، فيجعل اميركا أقوى مما هي عليه للاستشراس في استباحة العدالة، ويجعل اسرائيل أكثر قدرة على تصفية القضية الفلسطينية. أهذه هي استراتيجية "الجبهة الاسلامية ضد اليهود والصليبيين" التي أسسها الظواهري مع أسامة بن لادن العام 1998؟ ثم كيف نفسّر توقيت العملية التي قامت بها الميليشيا الشيشانية في موسكو، في اليوم التالي لرفض موسكو صيغة القرار الاميركي الهادف الى نيل شرعية الحرب ضد العراق؟ أما كان بالامكان، في اطار حرب انفصالية مزمنة، تأجيل العملية بضعة أيام لحين التصويت على القرار الأميركي في مجلس الأمن؟ أكنّا في حاجة لتصريح الرئيس الروسي يتهم فيه "جهة اجنبية" بأنها وراء العملية، لكي نفهم ان الجهة المعنية تريد ابتزاز الموقف الروسي وإضعافه للقبول بشرعية الحملة الاميركية ضد العراق، خصوصاً وان الفرقة التي قامت بالعملية هي من "الشيشان العرب"، وحملت اسماً عربياً؟ وماذا عن قتل المصلّين في الكنائس، في الباكستان او في الفيليبين، او قتل السواح في اندونيسيا، في حين ان الرأي العام الغربي المسيحي في غالبيته الساحقة، بما في ذلك شريحة كبرى من الاميركيين والبريطانيين، يتظاهر ضد السياسة الاميركية بعامة، وضد الحرب على العراق بخاصة؟ فإذا كانت استراتيجية "القاعدة" وحلفائها تهدف حقاً الى تحقيق العدالة، وليس الى الانتقام والتشفي، فانها تكون اختارت الاسلوب الأسوأ لتحقيق هذا الهدف، الأسلوب الذي ينعكس سلباً على العدالة، وبخاصة عدالة القضية الفلسطينية، التي يُفترض ان يكون لها الأولوية في استراتيجية "القاعدة"، ان لم يكن بدافع وطني او قومي او حتى انساني، ففي الأقل انسجاماً مع الشعار الاسلامي باعتبار ان فلسطين هي للمسلمين أرض اسلامية مقدسة، ومغتصبة، وهي الأَوْلى بالدعم من تغيير النظام في بعض البلدان، او دعم القضايا الانفصالية ضد دول كانت داعمة للقضية الفلسطينية، ما يحرم هذه المقاومة من حلفاء هي في أشد الحاجة الى دعمهم، بل يحرم المقاومة الاسلامية تحديداً من هذا الدعم عندما تتوحد صورتها في الرأي العام العالمي، بصورة تنظيم "القاعدة" الذي يستبيح قتل اي مواطن غربي أينما كان، اذا اخطأت حكومته سياستها. فكيف بامكان هذا المواطن، وبخاصة المتعاطف مع المقاومة الفلسطينية، ان لا يشعر بأنه ضحية محتملة ل"الارهاب الاسلامي"، في حين ان المقاومة الفلسطينية تبرّر عملياتها الاستشهادية، رداً على عمليات الاحتلال الاسرائيلي، بأنه لا يوجد في اسرائيل مدنيون بل جنود عاملون او جنود احتياط او مستوطنون مسلحون، رجالاً ونساء، والكل مغتصب للأرض الفلسطينية، وليست هذه حال المواطنين في الدول الغربية التي بعضها يناهض السياسة الاميركية، وكلنا يذكر موقف فرنسا في "المؤتمر العالمي لمكافحة الارهاب" الذي عقد في شرم الشيخ، العام 1996، بدعوة اميركية وتحريض اسرائيلي، عندما رفضت فرنسا الاقتراح الاميركي بإدراج المقاومة الفلسطينية في خانة الارهاب. وإذا صح ادعاء الظواهري، في حديثه الى قناة "الجزيرة" قبل الحرب على افغانستان، بأن "التنظيم" استفاد من الخبرة الاميركية في مجال التقنية الحديثة، فكان يجب ان يستفيد "التنظيم" أيضاً من التخطيط الاستراتيجي الأميركي. ففي غياب الاستراتيجية، على رغم الادعاء بها، يغيب حساب الاولويات والتحالفات. وهذا ما جعل زعيم "التنظيم" يقع في فخ اعدائه عندما قسّم العالم الى "فسطاطين": واضعاً الاسلام في احدهما، وكل ما عداه في الفسطاط الآخر، بما في ذلك قوى شعبية، من غير المسلمين، لا تقل كراهية للسياسة الاميركية الاسرائيلية عن كراهية غالبية المسلمين لها، فاسحاً هكذا لتقوية "فسطاط" اعدائه على حساب "فسطاطه". وفي اطار هذا المفهوم للصراع الذي وقع بن لادن في فخه يجب ان نفهم تفجير اسرائيل للانتفاضة الفلسطينية عبر المسجد الأقصى. 11 أيلول وانتفاضة الأقصى لم يكن اقتحام آرييل شارون للمسجد الأقصى زيارته مجرد نزوة قام بها صهيوني متعصب معروف بتطرفه، كما اجمعت التحليلات السياسية، متجاوبة مع تصريح مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الاميركية آنذاك، التي حمّلت شارون وحده المسؤولية فلم يكن رئيس حزب "ليكود" يتمتع بصفة تخوّله تنفيذ فكرته من دون موافقة رئيس الحكومة، ايهود باراك، الذي لم يكن معجباً، كما نعلم، بأفكار منافسه على رئاسة الحكومة، ويصعب الظن بأنه كان غافلاً عن النتائج التي ستترتب على تلك "الزيارة"، بعد الاحتجاجات العنيفة من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، بل ومن بعض الاسرائيليين الذين رأوا في تلك "الزيارة" استفزازاً لا مبرر له، وطالبوا رئيس الحكومة بمنعها، فلم يمنعها، بل واكب "الزائر" بثلاثة آلاف جندي لحمايته. فلماذا فعل باراك ذلك، وكان معروفاً بأنه رجل السلام في عهد الرئىس بيل كلينتون؟ قد لا يكون خطأ القول بأن القرار بتفجير الانتفاضة قد اتخذه باراك بالتوافق مع مركز القرار الصهيوني في اميركا، الاكثر اطلاعاً على ما يجري في الكواليس الاميركية، التي "تتوقع" العملية الارهابية التي ستغير مجرى السياسة العالمية، وستعفي اسرائىل من القبول باقتراحات كلينتون في "مفاوضات الحل النهائي"، التي وصفت بأنها "تنازلات اسرائىلية كبرى". ومع ان الاقتراحات لم تكن تنازلات، في اطار "وعد اوسلو"، ومع ان الزعيم الفلسطيني كان تحفظ عليها، الا ان الخشية من ان يعود ياسر عرفات فيقبل بها تحت ضغط الرئيس كلينتون الذي كان مصراً ان لا يخرج من الحكم قبل ان يدخل التاريخ عبر انجاز التسوية المستعصية، التي شغلته طوال سني حكمه، هذه الخشية الاسرائىلية هي التي افسحت لتفجير الانتفاضة، وقطع الطريق على المفاوضات في عهد كلينتون، بانتظار ما هو "متوقع" في عهد خليفته. ولم يكن اختيار "الاقصى" لتفجير الانتفاضة، اختياراً اعتباطياً، فالجو الشعبي الفلسطيني المحموم آنذاك، اليائس من المفاوضات، المتفائل بنجاح المقاومة اللبنانية في طرد الاحتلال الاسرائىلي، كان قابلاً للانفجار لأي سبب، لكن الاستفزاز عبر المسجد الذي ستحمل الانتفاضة اسمه كان مقصوداً، في اطار توقع "الحرب الصليبية"، لتغليب الطابع الاسلامي على الطابع الوطني للانتفاضة، فيسهل ادراج الانتفاضة والمنتفضين في اطار "الارهاب الدولي" الذي وُصف به تنظيم "القاعدة" لدى الاعلان عن "الجبهة الاسلامية العالمية" لذلك فإن آرييل شارون، فور اذاعة نبأ تفجيرات نيويورك وواشنطن، اعلن ان اسرائىل هي المقصودة ايضاً، وان ياسر عرفات هو "بن لادن الفلسطيني"، وعبثاً حاول عرفات، بتبرعه بدمه لضحايا نيويورك، وبدم الطلاب الذين اطلقت شرطته النار عليهم لابتهاجهم بعملية 11 ايلول، ان يغير الصورة التي ترسخت عنه لدى الادارة الاميركية، فأطلقت يد شارون، لتصفية الانتفاضة، ليس لمئة يوم، بل لألف يوم ويوم، وحتى تصفية "جذور الارهاب". فإذا كانت الكواليس الاميركية على علم بما كان يحضّر بن لادن لأميركا، وتالياً الكواليس الصهيونية، يصبح سهلاً تفسير موقف الحكومة الاسرائىلية من السماح لشارون باقتحام المسجد الاقصى، كما يصبح سهلاً فهم موقف رئىس الحكومة من عدم السماح لشمعون بيريز، زميله في "حزب العمل"، بالترشح لرئاسة الحكومة بديلاً منه، على رغم ان استطلاعات الرأي، وهي دقيقة في اسرائىل، رجحت فوز بيريز على شارون بفارق ضئيل، وهزيمة باراك امام شارون بفارق كبير، فأصر باراك على الاستمرار، مع علمه بهزيمته، لكي يفسح الطريق امام شارون لتسلم السلطة، كحصان رهان القرار الصهيوني للمرحلة التي ستلي العملية الارهابية "المنتظرة"، حيث يفترض حسم الالتباس في موضوع "اتفاق اوسلو"، من وجهة النظر الاسرائىلية. "سلام الحرب" كنت اطلقت على "اتفاق اوسلو"، لدى توقيعه مصطلح "الوعد المستحيل"، وكنت بين قلة نادرة، في الاعلام الليبرالي، وجدت الاتفاق مستحيلاً، معتبراً ان التاريخ لم يعرف مشروعاً عنصرياً تراجع عنه اصحابه إلا بالقوة، ولم يكن ميزان القوة مختلاً لمصلحة الفلسطينيين والعرب، بحيث يجبر اصحاب المشروع الصهيوني على السماح بدولة فلسطينية مستقلة على ارض يعلنون انها لا تتسع لدولتين، الا اذا كان المقصود بالدولة الثانية مجرد محمية فلسطينية، باشراف الدولة الاسرائىلية، وفي هذا التصور لا يختلف "حزب العمل" عن "حزب الليكود" إلا بالاسلوب، بحسب تعبير تشومسكي: "النفاق لدى الاول، والصراحة الفظة لدى الثاني". وليس ادل على ذلك من اول اشتباك بعد "اتفاق اوسلو"، لدى البدء بمشروع مستوطنة جبل ابو غنيم، في ضاحية القدسالشرقية، عندما اتهمت السلطة الفلسطينية حكومة "الليكود"، التي خلفت حكومة "العمل"، بعرقلة مشروع السلام، فرد بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة آنذاك، بأنه لا يفعل سوى تنفيذ المشروع الذي كانت اقرته حكومة شمعون بيريز وفي الموعد المحدد لتنفيذه. واعترف بيريز، لكنه قال بأنه كان سينفذ المشروع بأسلوب آخر. والمعروف ان بناء المستوطنات في ارض الدويلة الفلسطينية الموعودة لم يتوقف بعد "اتفاق اوسلو"، الذي لم ينخدع به الا الذين تمنوا ان ينخدعوا، وبينهم الزعيم الفلسطيني الذي كان يقامر بآخر رصيد له في الخارج، آملاً، كأي مقامر، ان يسعفه الحظ فيربح "الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف"، كما اعلن لشعبه في "حديقة البيت الابيض"، في حفلة التوقيع على الاتفاق، وفي الحفل نفسه كان اسحق رابين يؤكد ان القدس "هي العاصمة الابدية للدولة العبرية". كان الاتفاق منذ البداية استمراراً للحرب بطرق اخرى، وكل طرف يراهن على الوقت لحسم الموقف. وكان الطرف الصهيوني اكثر كفاية في استغلاله الا في حال الانخداع الفلسطيني بالضمانة الاميركية. فهل أكون مبالغاً اذا قلت بأن هذه الحرب على الارهاب هي صناعة العقل الصهيوني، والعضلات الاميركية، والضعف والتخلف في العالمين العربي والاسلامي؟ وقد يصح في الختام ان نلاحظ بأن العقل النخبوي الغربي - الصهيوني المتهم بالتقدم هانتنغتون كان ينظّر، في عصر العولمة، لصراع الحضارات والمقصود الاديان، حين كان العقل النخبوي الشرقي - الاسلامي، المتهم بالتخلف محمد خاتمي يدعو الى حوار الحضارات. ومع ان السيد محمد خاتمي، لدى الوصول الى رئاسة الجمهورية الاسلامية في ايران، استطاع ان ينتزع من الامين العام للأمم المتحدة قراراً بجعل السنة الاولى من الألفية الثالثة "سنة حوار الحضارات"، إلا ان تلك السنة بالذات هي التي دشنت صراع الحضارات، عبر عملية 11 ايلول التي كانت، بقدرة قادر، استجابة "لنبوءة" هانتنغتون ضد دعوة خاتمي. * كاتب لبناني. والنص سبق أن ألقاه كمحاضرة في "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي" - بيروت في 3/12/2002.