في أجمل حديقة بمدينة روما فيلا بوركيزا وعلى ربوة تواجه معهد الفنون الجميلة الشهير بيللا دي آرتا فوجئت وأنا أتجوّل، في أول زيارة لي للمدينة، بتمثال أحمد شوقي، على قاعدة مرتفعة وبحجم كبير، بين شعراء وكتّاب أوروبا المشهورين: فولتير، آنغاريتي، والانكليزي بوب وآخرون. فما الذي جاء بشوقي الى هذه العريشة الكبيرة من المبدعين؟ إنها القيمة الثقافية التي يمثلها في عصره قبل أي شيء آخر. ومفاجأة العثور على أحمد شوقي هناك يبعث الإحساس بالارتياح، ويمثل، بالنسبة لي، أنا غير المصري، اعتزازاً باللغة العربية التي صاغ فيها أجمل قصائده، وبمعان كانت، إضافة الى ما خطّه جبران خليل جبران وابراهيم ناجي، أول معاني حديثة تخرج على المعاني التقليدية في الشعر الأدبي القديم. أخيراً، ماذا وراء هذا الكلام؟ ماذا وراء اكتشاف التمثال الذي حدث قبل عشرين عاماً، والأحاسيس التي رافقته؟ إنها فكرة تخليد الأعلام العرب، التي طرحها الإعلامي أحمد منجونة في برنامج يقدمه من محطة تلفزيون الأندلس التي تبث بالعربية والإسبانية، حيث اشتركت فيه من طريق الهاتف مع الصديق الشاعر والكاتب محمد علي فرحات. لقد أصدرت الحكومة اللبنانية، طابعاً لخبران خليل جبران يثمّن شخصه وإبداعه، ولبنان دائماً صاحب مبادرات وأفكار متقدمة في مجال تكريم شخصياته الوطنية والأدبية والعلمية، وكان سؤال البرنامج التلفزيوني عن أفضل الأساليب لتخليد الأعلام العرب، وكيف يتحقق ذلك على غرار ما يفعله الأوروبيون من إطلاق أسماء أعلامهم على الشوارع، الى إقامة النصب، أو تحويل البيوت التي قطنوا فيها الى أماكن مفتوحة لزيارة السيّاح والدارسين والمهتمين. إن فكرة تثبيت أسماء الشخصيات المهمة في الذاكرة العامة، عبر الدراسات المتجددة وإقامة النصب وإطلاق الأسماء على الشوارع، تمثل جزءاً من تراث الأوروبيين في تعاملهم مع ماضيهم ورجالاته المبدعين في كل مجالات الخلق، لذلك تطورت إساليب التخليد مع الزمن، وشملت، الى جانب الأسماء المحلية، الشخصيات من الدول الاخرى التي أغنت التراث الانساني كما الحال مع وجود تمثال أحمد شوقي في روما، بينما ظل تداول الأعلام في المنطقة العربية شفاهياً، وفي بعض الكتب المدرسية وفي الكتب التي ألفوها، وغالباً ما تتعرّض هذه الكتب الى المنع، وقديماً الى الحرق، وحديثاً الى الإهمال، ذلك ان المشرّعين الدينيين أصرّوا لفترة طويلة على تحريم التخليد، بينما رفع مشرّعو الكنيسة الأوروبية أسماء الفنانين والعلماء الى مرتبة التكريم باحتضان لوحاتهم واقامة المتاحف الصغيرة للآلات التي اخترعوها وطورها من جاء بعدهم. وفي معرض كلامه عن التسامح الذي أظهرته الكنيسة تجاه الرسم، يقول المؤرخ الأميركي ويل ديورانت في كتابه الضخم موجز تاريخ العالم ان رجال الدين كانوا يشيحون نظرهم الى الجهة الاخرى عندما يمرون على لوحة أو جدارية تظهر فيها احدى النساء غير مغطاة في شكل كامل. واذا استعرضنا المؤسسات التي رفعت شعار تبني الابداع والمبدعين العرب، بنشر أعمالهم من دون تمييز أو طبع موسوعات تثبت القيمة التي يستحقونها فعلاً، نجد ان جميع هذه المؤسسات، وقد أنفقت عليها ملايين الدولارات، انتهت بروح اقليمية ضيقة، ثم غرقت في التقويمات الشخصية! وأخيراً ضاق عليها النفق فأصبحت تفكر بطريقة الشلل والجماعات التي لا ترى غير ذاتها. ومن جانبها ظلت الحكومات العربية، على رغم شعاراتها الوطنية أو القومية الرنانة، تعمل بمبدأ تدمير كل ما سبق للانفراد بتخليد حاضرها الخاص، وهي تعلم ان التدمير سيلحق بها وبأعمالها مع ظهور حاكم جديد! يمكننا التطرق ايضاً، من دون ان نظلم احداً، ان التحيّز الاقليمي أو الإيديولوجي الذي يغلب على الكثير من المنشورات الثقافية التي تصدر حالياً، على رغم الألسن الطويلة التي يتميز بها أصحابها، أو المشرفون عليها، لدى حديثهم عن احتضان الإبداع العربي. اذاً، كيف الهرب من هذا البازار المضطرب، في نداءاته وبضاعته كما في توجهاته، للتفكير بتخليد موتانا من المبدعين في الذاكرة العامة؟ وهو السؤال الذي دار عنه النقاش في برنامج تلفزيون الأندلس في الليلة قبل الاخيرة من عام 2002؟ إن تشكيل هيئة من المثقفين الأحياء ممن تتميز حياتهم وشخصياتهم بالحياد والصفاء الذهني ليس بالأمر الصعب، كما ان تبني جامعة الدول العربية، التي تعاني المرارة من اخفاقها في توحيد الصف السياسي العربي، لمشروع مهمته تكريم الأعلام العرب بطريقة غير اقليمية، وبدعم من منظمة اليونيسكو التي تهتم بتراث الشعوب، عبر اختيار عدد من أسماء المبدعين العرب في كل المجالات، والطلب من الحكومات العربية تسمية بعض الشوارع والساحات والأماكن بأسمائهم، وإن في المدن الصغيرة، هي الفكرة التي توصل اليها البرنامج في نهاية النقاش، وتعهد المشاركون فيه مواصلة العمل، كل بطريقته، لحث الجامعة العربية على تبنيه، لتكريم الأسماء القديمة أو المعاصرة. كاتب عراقي مقيم في لندن.