الحب... مثل الورق الاصفر في فصل الخريف... يا لطيف ألطف يا لطيف... لا لم أغرق في الحب من جديد أو أعوم، فقد كانت توبة نصوحاً. والكلام السابق هو للمغني نبيل شُعَيل الذي نقلني بصوته الجميل الى خريف الحب، من دون ان نمر في ربيعه أو صيفه. كنت اعتقد ان الغناء العراقي وحده مأساوي يعكس ما آل اليه الحال في بلاد الرافدين، الا انني كنت في الطائرة البريطانية قبل أيام، واستمعت فيها الى شريط غناء عربي، أقنعني بأن المأساة عامة. وصحيح ان الغناء العربي ليس في حزن الغناء العراقي، الا انه حزين، فربما كان الأمر ان الحزن العربي العام أقل من الحزن المكثف في العراق. لم اجد في الشريط كله سوى اغنية "فرايحي" واحدة، هي "غجرية غجرية"، فكانت الشذوذ الذي يثبت القاعدة، اما البقية فتراوحت بين الحزن والنكد، قياماً وقعوداً، وعلى جنوبهم. سمعت المغنية انغام تغني اغنية ذات لحن لطيف تبدأ بالقول: هذا الحلو قاتلني يا عمة/ ويش وقديش اريد اكلمه... ويبدو ان عمتها "مودرن" حتى تقبل ان تسمع من ابنة اخيها كلمات العشق، الا ان المغنية حذرة فهي تقول "أريد أكلمه" احتراماً لعمتها، في حين ان الارجح انها لو صدقت لقالت "أريد اضمّه". وتتدهور الأغنية بسرعة والمغنية تنوح: هذا الحلو قاتلني واريده، عذب مهجتي والروح بايده.. باليني بلوة، انخطف لوني، انهدم حيلي، قلبي شلون اصبّره، نار العشق قبره... ومن نافلة القول انه اذا قتلها في البداية، فلا بد ان يدفن غرامها في النهاية. وهي بعد هذا كله تقول "يا عمتي ما افتهمت" والكلمة الاخيرة بصيغة عراقية، فلعل هذا مفتاح الاغنية كلها. لم أكد اكفكف الدمع على انغام، حتى عاد البكاء مع أغنية تقول: ودعتو غصباً عني/ والدمعة كرجت مني/ بدها تلاقي دمعتو. وكنت لا أزال أبكي تضامناً مع المغنية، عندما سمعتها تقول "قلبي راح يوقف حد بيته". فقمت معزياً، من دون ان أسأل لماذا اختارت ان يقف قلبها "حد بيته" فتفزع القطط والأطفال. حتى الصديق محمد عبده ركب الموجة، فهو بدأ بداية حسنة وحيّاني مخاطباً احبابه "مساء الخير والاحساس والطيبة..." ورددت التحية بأحسن منها، الا ان علاقة الحب انتكست بسرعة، وتحدث محمد عبده عن حبيبه بكلمات بينها ترهيبه وترغيبه والريبة وأكاذيبه، ما نحتاج معه الى كوفي أنان مصلحاً. وبما ان محمد عبده صديق قديم، فهو عندما قال "ودمعي بلل تيابي" بكيت معه. وأتوقف هنا لأقول ان ما سبق كله، وما بعده، سمعته على شريط واحد الأسبوع الماضي، وانه لو كان متناثراً من هنا وهناك لكان مفهوماً ضمن المجموع العام. كانت هناك اغنية بدأت بداية محايدة هي "هلا باللي شافته عيني..." ولم أفهم كثيراً من كلامها الخليجي، الا انني سمعت المغني يقول بالتأكيد "جاسوس انا روح له"، ثم يقول انه مصاب بجرح، ويطلب من حبيبته الدواء. كانت الأغنية بصوت جميل، الا ان المغني اسمه علي بن محمد، وهذا ليس اسم مغنٍ، بل وزير اشغال عامة. أتوقف هنا لأقول ان جميع المغنين الذكور الذين سمعتهم كانوا يخاطبون الحبيبة بصفة المذكر، وأعرف يقيناً ان ليس بين هؤلاء المغنين واحد مصاب بالشذوذ، ومع ذلك لا افهم سرّ تغليب المذكر، وهل لذلك أصول تعود الى عصر عبّاسي متأخر. بعد ذلك كانت هنا أغنية ظريفة فعلاً من كاتيا حرب فهي قالت: حاجة ملبّك حالك/ زعلان ومهموم/ لا الهنا بيبقالك/ ولا الزعل بيدوم. ثم تكمل: طفّيها بشي ضحكة/ خلي عيونك تحكي/ انت وعابس مش مهضوم. ومع ان الكلام ظريف، الا ان موضوعه شخص "زعلان ومهموم" من دون سبب، لأن كاتيا تكمل فتقول عنه انه: طلّة وشبوبية/ حضور وشخصية/ أصحابك أحبابك أهلك/ كلهم بيحبوك/ تأكد يا حبيبي الصايرلك/ مش صاير لملوك... الخ... الخ. وإذا كان الاستاذ مهموماً رغم هذه المواصفات فماذا أقول والقارئ؟ هو اعطانا سبباً آخر للبكاء. طالما ان الغناء العربي كله من هذا المستوى حزناً ونكداً، فإنني اريد ان اجرّب حظي في كتابة الأغنية العربية، فلعلي انجح في الغناء من حيث فشلت في الصحافة. وبما انني في طائرة على ارتفاع يعادل ضعفي قمة إيفرست، والاوكسجين قليل، فقد طلعت بالتالي: قلبي شريانه مسدود/ مش عم يوصل له حبك حَبَّك بُرص وسبعة خُرس/ ومسمار يطلع في كعبك أو: دائي أعيى المداوي/ وقلبي من الحامض لاوي وأسعار النفط بالأرض/ وانت حبك هواوي وأتوقف هنا رحمة بالقارئ، وأسأل لماذا لا يستطيع كتّاب اغاني الزمان الاخير ان يكتبوا مثل الصديق عبدالرحمن الابنودي، فهو يطلع من جهة بأجمل كلمات الاغاني، وهو من جهة اخرى قادر على الحزن في موضعه. وأقرأ له: يا مايا وانتي بترحي بالرحى... في توب الحزن... لا تهللي فيها، ولا تولولي... قولي فيها اسمه واحد مات... كان صاحبي يا أمه... اقرأ هذا عن "صاحبه" ناجي العلي. وأقرأ له شعراً حزيناً عن نفسه: والله شبت يا عبدالرحمن... عجزت يا واد. وهو شاب الا انه ابقى الحزن في مكانه فكتابه "الاحزان العادية" ديوان للمراثي. غير ان عبدالرحمن الابنودي، مقابل وضع الحزن في موضعه، يجعل كلمات الأغنية ترقص فرحاً عندما يريد. لذلك ألجأ اليه اليوم، فإذا استصدر تعهداً من كتّاب اغاني البؤس ألا يكتبوا مقالات سياسية، فإنني اتعهد لهم في المقابل بعدم كتابة اغانٍ تذرف عبرات، وتفيض حسرات، وتتنهد زفرات، وتتأوه آهات، وتنذرنا بيوم آت.