هالني المشهد في ذلك المساء الخريفي الماطر في الشقة 167 في السكن الجامعي في منوبة التي تعد معقلاً للسؤال والدهشة حيث تتمركز كليات ومعاهد الآداب والفنون في العاصمة التونسية. أسرع معظم الطلاب للالتحاق بالمطعم الجامعي لتناول وجبة العشاء. بعضهم انتبه الى صوت المؤذن معلناً حلول موعد صلاة المغرب، وتسمّر عديدون عند مشارف الشقة 167 بعد ان ضاقت بروادها، وانخرط الجميع في حال من الهيجان الاحتفالي بموسيقى الملك وأطلقوا العنان لأجسامهم لتغادر "انضباطها" الاكاديمي وتعانق الحلول في دنيا الحبور ومملكة الحرية. اتخذ سليم ساكن الشقة كل الحيل التكنولوجية الممكنة لتقوية بث آلة التسجيل و"السي. دي" واحتل عادل زميله في اختصاص علم النفس وسط الحلقة أمام أعين رفاقه المندهشين لتلك الحالة من الامتزاج الكلي ما بين جسد عادل النحيف والإيقاع الموسيقي. جمع برشاقة وخفة ما بين القفز في الدائرة الضيقة ثم العودة الى بطن الأرض والالتواء في شكل الجرح وانفتاح في دائرة الوردة بيديه الطويلتين... لم يستمر تسمرهم طويلاً، كان يكفي ان تعلن الموسيقى ايقاع الأغنية التالية Get Up-Stand Up لينحبس الاحساس بالزمن والجغرافيا وتنساب الجموع في لحظة جنون معلن فرحاً بالموسيقى والحياة وتوقاً للحرية والانعتاق... غادرت "تحفظي" المهني وشاركت الجميع رقصة الحرية. فجأة توقف كل شيء بانقطاع التيار الكهربائي لشدة الضغط عليه من مختلف الآلات الكهربائية في شقق الطلاب، انفضت الجموع بسرعة الا ثلة قليلة تمسكت بالبقاء في شقة الحرية وزعيمها سامي أحد أقاربنا في بلدتنا الصغيرة الذي زرته حاملاً له بعض الأموال من والده لعلها تكفيه مؤونة الى نهاية الفصل الجامعي الأول. قال سامي "الفيلسوف الصغير"، أعشق الملك، لأنه من بلد صغير مثلي، لا أعرف بالتحديد الى يومنا هذا أين تقع جمايكا ولكن بوب بموسيقاه دفعها الى ذاكرة الشباب... أعشق ضفائر شعره الطويل المنسدل بين كتفيه وذلك الخيط السري الذي يربطه بجذوره الافريقية. والأهم من ذلك كان بوب مارلي ملك المسرح وأسس للمشهد الاحتفالي الاستعراضي قبل مايكل ومادونا والسبايس. بل ان حضوره تفوق عليهم جميعهم، بلا أطنان من أعمدة الحديد، والمحسنات الصوتية وبهرة الأضواء وبهرج الشموع والروائح. لم يكن يملك سوى صوته وجسده وقيثارة وقبعة اسطورية، ولكن روحه القلقة والمحبة للحياة وصرخته الصادقة ضد العرقية والعنصرية، أثثت المكان وأضاءت طريقه نحو آلاف الشبيبة... ليضيف سامي بأنفة واعتداد "أشعر بأن بوب قريب منا نحن الفقراء الذين لا نملك أي شيء والمهمشين في زمن الكل المعولم. قريب مني في غنائه وفي موته. هو "جيمس دين" "متاعنا"... في كل عام يحتفلون بذكرى وفاة مارلين وألفيس والفتى الصغير دين... وبوب مات مثلهم صغيراً بعد صراع مرير مع المرض الخبيث السرطان، انه اسطورتنا نحن...". عدت الى الذاكرة فاكتشفت ان بوب غادر دنيا الاحياء بعد احتفاله بعيد ميلاده ال36 في 6 شباط فبراير في كل عام. شعرت بشيء من التأفف في أعين زميله عادل. غادر دائرة الصمت بعد ان جذب نفساً عميقاً من سيجارته الملفوفة يدوياً قائلاً: "كفاك فلسفة يا سامي". الموسيقى لا تعترف بالحدود والجنسيات، انها إحساس عميق بالنشوة والانطلاق والتخلص من أدران المادة والوقائع... وهنا تكمن عظمة بوب الذي تمكن بحسه المرهف وبكلمات بسيطة من ان يختزن الآلام وجراح المكتوين بالعنصرية والفئات المهمشة من النساء ووسط ايقاعه المحلي بأن يرتفع الى آفاق العالمية... ربما اندهشت من اندماجي التام في موسيقى بوب والريتي ولكنني كذلك ألج مرحلة من الحلول في أغنية "سيدي منصور" لصابر الرباعي. لا أحد في مدينتنا صفاقس تمكن من الارتقاء بهذه الأغنية من التراث الشعبي الى خارج ضيق الجغرافيا سوى صابر بالاستعانة بالحنجرة اللبنانية ولكن أوجه الشبه ما بين "سيدي منصور" و"No Woman No Cry" تلك الصرخة المدوية النابعة من الجرح، جرح المرأة والظلم والعبودية والتوق الى عالم أجمل. لا فرق بين صرخة "بوب" وتأوه صابر "يا بابا، سيدي منصور..." وتلك معاني الموسيقى الخالدة... ولذلك لم يمت الملك بعد 21 عاماً من رحيله الى العالم الآخر". لا شك في ان أغنية فري بيبي "بابا فين" تحتل قائمة الأغاني الأكثر مبيعاً في تونس هذه الأيام. ويستعد نادي طاهر الحداد، وسط العاصمة التونسية للاحتفال بشهر الجاز بعد النجاح المثير العام الماضي. هنا الجميع في انتظار تأكيد حضور المطربة الكولومبية، اللبنانية الأصل، شاكيرا، للغناء في احتفالات الشباب والاستقلال في منتصف شهر آذار مارس لعلها تقطع مع أصوات الحرب المطبقة على الأنفاس. وما بين الملك وأصوات الماضي والفاتنة شاكيرا، بدأت نزهة "الهردوز" Herdouss والهارد روك تكتسح فئات عدة من شباب الثانويات وأروقة الجامعات. قال سليم 21 عاماً الطالب في اختصاص الديكور: "لست مهمشاً ولا وسخاً، اخترت "الهارد" لأنه يطفئ غضبي ولقيمته الفنية، الهارد بالنسبة إليّ هروب من مجتمع ما فتئ يبصق في وجهي ويسبني... ثم أؤكد لك انني استعمل الصابون والجال دوش مثل الجميع في غرفة الاستحمام". ليس صعباً ان تتعرف الى "الهردوز" التونسي أو "الهردوزة". سراويل الجينز الممزقة، والقميص الأسود وخواتم عاج في شكل رؤوس الموتى في الاصابع، اما الشابات فيعشقن لباس الجلد الأسود والأحذية في تناغم مع رعاة البقر... تقول نادية 20 عاماً: "الهارد روك مثل مبضع الجراح في حزني ومشاعري الحزينة. عندما استمع الى كلمات الهارد أشعر بالارتياح.