كتب عبدالإله بلقزيز في "الحياة" 15/1/2003 مقالاً عن موقف الاحيائية الاسلامية المعاصرة من "الفكرة العروبية"، مفنداً دعاوى عن جاهلية الفكرة العروبية و"برانيتها". وأنهى مقاله بفقرة كنت اتمنى أن يعمل بها، ولو عمل بها ما نشر مقاله في هذا التوقيت او لضمّنه كتاباً له بدلاً من إثارة الجدل من جديد عن العلاقة بين الاسلام والعروبة. والمفارقات ان الحزب العروبي الحاكم في العراق البعث لم يجد سوى اللجوء الى الحصن الاسلامي من بعد أن خذله العرب الرسميون على الأقل. وفي المقال الفقرة التالية التي اتفق معها تماماً "والأهم من ذلك انها تنسى انها تنتصر على نفسها، بل قل تهزم نفسها، في المكان الاخير، اذ من يجادل اليوم في أن الاسلام لن يتخزى من هزيمة العروبة اذ هما سواء عند خصومهما؟!". وكان من المفترض في الكاتب الذي عاش في المغرب العربي ونشأ فيه وما زال، أن يدرك أن تخومه وعشيرته لم يفرقوا ابداً بين العروبة والاسلام، فكان الدفاع عن عروبة المغرب العربي هو عين الدفاع عن الانتماء الاسلامي، وكان قادة التحرر الوطني في كل بلاد المغرب العربي اسلاميين - بالمعنى الاحيائي الذي يقصده الكاتب - عروبيين حتى النخاع - بالمعنى الذي يقصده الكاتب ايضاً، فارتبط الاسلام عندهم بالعروبة ارتباطاً مصيرياً ولم ينفصما ابداً. كان الانفصام النكد بين العروبة - الجديدة - والاسلام مشرقياً للأسف الشديد، ومر بمراحل كثيرة اختلطت فيها الفكرة العروبية مع الفكرة القومية مع النزعة العلمانية ومع العقيدة الماركسية، حتى تشابهت الامور والمسائل واحتار الناس في تحديد معنى العروبة ومعنى القومية. من حيث المنهج اختار الاخ بلقزيز العمومية والاطلاق، فلم يحدد أي الاتجاهات الاسلامية يقصد او الحركات الاسلامية يعني بقوله "الاحيائية الاسلامية المعاصرة"، وإن كان حدد بداية الاطار الزمني بقوله "منذ الربع الثاني من القرن العشرين"، وهو هنا يشير ضمنياً الى بداية حركة الاخوان المسلمين في مصر والعالم العربي التي اسسها الشهيد حسن البنا العام 1928 في الاسماعيلية ثم انتقلت الى ارجاء العالم العربي ثم الاسلامي ثم الغرب نفسه. أخذ عبدالاله بلقزيز على الخطاب الاسلامي الاحيائي مواقفه السلبية تجاه العروبة والفكرة القومية العربية، وعندما بحث عن جملة الاسباب الفكرية التي تأسس عليها ذلك الموقف وجد طائفة من الاسباب المتداخلة وقال: "يمكن ردها الى سببين رئيسين: جاهلية الفكرة العروبية القائمة على عصبية الدم والجنس التي مجّها الاسلام وانقلب عليها، ثم ارتباط الفكرة القومية العربية المعاصرة بأقليات ليست تدين بالاسلام، وتلازم معناها مع العلمنة كانفصال للزمني عن الديني، السياسي عن الاسلامي". دعني اوضح موقف حركة الاخوان المسلمين من القضية المطروحة، وهي تمثل التيار الوسطي المعتدل والذي يتعاون الآن ضمن تيارات اسلامية اخرى مع التيار القومي العروبي المعتدل أيضاً في اطار "المؤتمر القومي الاسلامي" الذي اتشرف ان اكون احد مؤسسيه. فرّق حسن البنا منذ فجر الدعوة وقبل ازدياد المد القومي وقبل ان يحكم البعثيون في البلاد العربية المشرقية أو عبدالناصر في مصر، بين قومية المجد وقومية الامة بالمعنى الاجتماعي الذي يظن عبدالاله بلقزيز انه اختراع غربي فقط، اي الانتماء الى امة واحدة وحبّذ المعنيين بقوله في رسالة دعوتنا. "كل هذا وأشباهه في معنى القومية جميل معجب لا يأباه الاسلام، وهو مقياسنا، بل ينفسح صدرنا له ونحفي عليه". اي انه قاس على الاسلام ورجع اليه حيث يمكن الرد على من يدعي ان الاسلام يرفض في الاصل هذه المعاني في القومية، وبناء عليه فإن الاخوان لا يكتفون بعدم الاعتراض على المبدأ بل يقبلونه، بل يحضون على ما يلتزمه من عمل وجهد. ورفض البنا في معنى القومية، قومية الجاهلية وقومية العدوان، واعتبر ذلك احياءً لعادات جاهلية كانت الدعوة آنذاك في مصر للفرعونية وفي الشام للفينيقية فدعا البعض الى العربية واعتبر ذلك تحللاً من عقدة الاسلام ورباطه بدعوى القومية، واشار الى الدولة تركيا التي غالت في تحطيم مظاهر الاسلام والعروبة لاحظ دفاعه عن العروبة وربطها بالإسلام مدافعاً عن العرب والعروبة مبيناً خواص وميزات العرب الخلقية والاجتماعية، داعياً العرب ألا يتخذوا ذلك ذريعة الى العدوان، بل كما قال: "عليها ان تتخذ ذلك وسيلة الى تحقيق المهمة... تلك هي النهوض بالانسانية". وأوضح البنا ذلك بكل جلاء في رسالة المؤتمر الخامس بعد عشر سنوات من بداية الدعوة، وحينها كانت الفكرة العربية تتجه الى البلورة اكثر واكثر فيقول في خطابه الجامع لمندوبي الاخوان الالفين القادمين من كل شُعب الدعوة من قرى ونجوع مصر: "إن هذا الاسلام الحنيف نشأ عربياً ووصل الى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين. وقد جاء في الاثر: اذا ذل العرب ذل الاسلام، وقد تحقق هذا المعنى حين دال سلطان العرب السياسي وانتقل الامر من ايديهم الى غيرهم من الاعاجم والديلم ومن اليهم، فالعرب هم عصبة الاسلام وحراسه، واحب هنا أن انبه الى أن الاخوان المسلمين يعتبرون العروبة، كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم في ما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه "ألا أن العربية اللسان ألا أن العربية اللسان"، ومن هنا كانت وحدة العرب امراً لا بد منه لإعادة مجد الاسلام واقامة دولته واعزاز سلطانه. ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها وهذا هو موقف الاخوان المسلمين من الوحدة العربية". رسالة المؤتمر الخامس التي صدرت العام 1938م 1357ه. وكان ذلك هو الموقف الفعلي الذي اتخذه الامام البنا من تأسيس جامعة الدول العربية العام 1945 فكان له اسهام وافر في النصح والبيان والكتابة الى الملوك والرؤساء المجتمعين في مصر، ولعل المرحوم عبدالرحمن عزام باشا اول امين عام للجامعة اقتبس من خطاب الامام البنا الكثير من الفقرات ليضمنها ميثاق الجامعة الصادر آنذاك، كما اشار الى ذلك الصديق والاخ الدكتور ابراهيم البيومي غانم في دراسته للماجستير عن الفكر السياسي عند الامام الشهيد حسن البنا. نعم حدث فصام نكد بعد ذلك بين القومين العرب والناصريين والبعثيين وبين الاخوان المسلمين، وتعرض الاخوان كحركة والفكرة الاسلامية الشاملة كمنهج للدعوة الى محن متتالية وكان للقوميين فيها نصيب السبق بعد ان تعاون الاخوان مع الضباط الاحرار في الانقلاب العام 1952 فكانت السجون والمعتقلات وعلق العشرات على أعواد المشانق في مصر وغيرها. وتعرضت الفكرة الاسلامية خصوصاً في بلاد المشرق، سورية ولبنان والعراق، لهجوم شديد من بعض ثوابت العقيدة نفسها، مما دفع الكثير للرد على هذه الترهات والدفاع عن الاسلام، فكان الهجوم على القومية ودعاة العروبة او بالأحرى مدعيها الذين خلقوا تناقضاً بين الاسلام وبين العروبة وألبسوها ثياباً مستورة من الافكار العلمانية او تلك الماركسية. نحن باختصار شديد نرفض القومية التي تقوم على اساس العنصر والجنس لأن الاسلام دين انساني عالمي، ونرفض القومية بمعنى يناقض العقيدة او الاسلام بمفاهيم ماركسية او تغال في العلمانية، ولنا في تجربة تركيا الاتاتوركية خير مثال. ونحن نقبل القومية التي لا تنفي رباط العقيدة بل تعتمد وتتركز عليه، فنوسع معنى القومية ونحصنها بأن الناس أكفاء متساوون يتفاضلون بالعمل، ولا ننفي خصائص الاقوام، خصوصاً العرب الذين لهم من الفضائل أوفر النصيب، ونرفض من يريد الفصل بين الاسلام وبين العروبة. ولقد دافع الاخوان عن عروبة مصر يوم ان ادعى طه حسين وسلامة موسى أن العرب غزوا مصر وحاولا مع آخرين ربط مصر بحوض المتوسط وفصلها عن عالمها العربي. ونحن نعمل من أجل الوحدة العربية مؤمنين بأن العوامل التي تؤدي اليها متعددة ومنها الوحدة الجغرافية والوحدة الروحية والوحدة اللغوية والوحدة الفكرية الثقافية والاجتماعية ووحدة الآمال والآلام ثم وحدة المصالح العملية المشتركة. يقول البنا: "هذه الروابط جميعاً تربط العرب ومن ثم فإن الوحدة او الجامعة العربية هي الطريق الطبيعي لنهضة العرب"، راجع مجلة "الاخوان المسلمين" الأعوام 43، 44، 1945. * نائب سابق في البرلمان المصري عن "الاخوان المسلمين".