لو طفقنا نبحث في تضاعيف الخطاب الإسلامي الإحيائي عن جملة الأسباب الفكرية التي أسس - ويؤسس - عليها مواقفه السلبية من العروبة والفكرة القومية العربية، لوجدنا طائفة من الأسباب المتداخلة يمكن ردُّها الى سببين رئيسين: "جاهلية" الفكرة العروبية - في لغته - القائمة على عصبية الدم والجنس التي مَجَّها الإسلام وانقلب عليها" ثم ارتباطُ الفكرة القومية العربية المعاصرة بأقليات ليست تدين بالإسلام وتلازمُ معناها مع العلمنة كانفصال للزمني عن الديني، السياسي عن الإسلامي: في المسألة الأولى، لم يتوقف الخطاب الإحيائي - منذ الربع الثاني من القرن العشرين - عن وصم العروبة بتهمة الاغتصاب "الجاهلي" للنسب والرباط الدمويين على مثال ما كان عليه أمر العرب قبل دعوة الإسلام، أو إبان دولة بني أمية، حين بلوغ الغرائز القبلية أوج حالات انفجارها. العروبة - في لسان الإحياء الإسلامي المعاصر - ليست أكثر من "عبية" ولوثة تدعو المسلمين الى محو تاريخ تحررهم منها بواسطة الإسلام، والى العودِ بالنفس والجماعة الى التفاخر بالأنساب والاعتضاد بذوي القرابة وتمتين روابط الدم وإتلاف نسيج الوحدة الإيمانية العليا التي صنعت جماعة متماسكة معتصمة بحبل الله. ان النخب القومية العربية الحديثة المتشبهة بمصطفى كمال وأضرابه في انصرافه عن الدين وإقدامه على العلمانية - تقول المقالة الإحيائية بعبارات مختلفة - لا تجد ملجأ لنفسها إلاَّ عصبية الجنس بعد أن فككت عرى عصبية الدين. إنها، بمعنى ما، تستعيض عن اسلامها ب"الجاهلية"، وتعثُر فيها على ما يجيب عن حاجتها الى رباط لا تكون العقيدة وثاقه. في طبعات مختلفة، تكررت المقالة الإحيائية الإسلامية حول "جاهلية" الفكرة العروبية ومجافاتها لروح اسلام مجَّ الأنساب والاعتصاب لغير الدين مجّاً، لتتكرر معها عقيدة الاعتراض على فكرة الأمة بمعناها العصري: الأمة الاجتماعية لا "الأمة الروحية" العابرة للأقوام للقوميات كما يفترضها خطاب الإحياء. أما في المسألة الثانية، فيجد خطاب الإحيائية الإسلامية خصمه السهل: المسيحيون العرب. هنا فقط يمكنه أن يأخذ الفكرة القومية العربية بالجرم المشهود. إنها متهمة بالعصيان على مقول الشرع وأحكامه، وعلى سنن الأقدمين وما جرت عليه أحوال تاريخ الأمة" بل إن فِعْل عصيانها مما ضُبِط في حال تلبُّس" وهل أكثر من أن يدافع غيرُ المسلمين عن العروبة والقومية العربية دليلٌ على بطلان الدعوى - من جهة الشرع - والشك في طويتها ومراميها؟ مرة أخرى، يستعيد خطاب الإحيائية غرائر الشعور بالتغاير الديني - ولا نقول مجرد التمايز الديني - فلا يرى في شركاء الوطن والأمة، من غير المنتمين الى الملّة، إلا طابوراً خامساً يتهدد جماعة المسلمين ويتربّص بهم وتكيد لهم "مستغلاً" عيشه بين ظهرانيهم عملاً بالوصية الصريحة القرآنية والنبوية بحسن معاملة "أهل الكتاب"، أو عملاً بمبدأ حماية "أهل الذمة"، أو حتى استمراراً في الوفاء بأحكام "نظام الملل"، أو ما شاكل ذلك! إن هؤلاء المسيحيين العرب - تقول الإحيائية بألسنةٍ مختلفة - هم مُبتدعة الفكرة القومية وسدنتها الجدد، وليس يحق لهم الإحداث والابتداع في ما قطع فيه الشرع بحكمٍ صريح. وعلى ذلك، فإن الأمة التي إليها يدعون - وبها يُبشرون - إن هي إلا عصبية النسب "الجاهلية" حين كانت العرب تفاخر بدمها غير آبهةٍ بما يعتورها من شقاقٍ روحي بين من هادوا منها وتنصَّروا وأشركوا أو كانوا أحنافاً. ان القومية العربية بدعةٌ مسيحية أخذها مسيحيو البلاد العربية عن النصرانية الغربية ووريثتها اللائيكية - تقول الإحيائية الإسلامية - ودسُّوها في "دار الإسلام"" وليست لها أنصبةٌ من الشرعية لأنها محدثة، و"شرُّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار"، كما يقول المأثور الديني. تلك تعلات فكرية يسوقها الخطاب "الصحوي" الإسلامي على سبيل بيان أسباب انكاره فكرة الأمة والقومية العربية ومعالنتها الاعتراض. وهي في ما نغال وندَّعي تعلات غير ذات حجيةٍ أو وجاهة لأكثر من سبب، لعلنا نكتفي منها - على مقاس التعلتين وعددهما - بسببين رئيسين هما - من وجهٍ - وقائع تاريخ ليست تقوى أزعومة الإحيائية على إهدار معطياته وحقائقه" ثم انهما - من وجهٍ ثانٍ - مساجلة فكرية مع فرضيات المقالة "الصحوية" في معنى العروبة والأمة والقومية، وفي مساهمة "غير المشاركين لنا في المِلّة" المسيحيين العرب في صناعة حضارة العرب والمسلمين. يتعلق الأمر، إذن، بدحض أزعومتين ايديولوجيتين احيائيتين: أزعومة الارتباط الماهوي لمعنى العروبة والقومية العربية بمعنى العصبية القبلية والدموية" وأزعومة "الكَيْد" المسيحي العربي للمسلمين ولحضارة الإسلام. من بداهات الأمور أن يقال ان فكرة الأمة العربية ليست تنتهل أصلاً أو مبدأً أو شرعيةً من فكرة العصبية القبلية التقليدية التي اعتنقتها العرب أو قامت عليها دولة الأمويين" وأن التبشير بها ما كان - ولن يكون - عوداً نوستالجياً الى ماضي العرب "الجاهلي" حيث التنابز بالألقاب والأنساب عملةٌ دارجة في الارتقاء الاجتماعي، وانما هي فكرة حديثة حمل عليها تطور مجتمعات العصر وجنوحها الى الاستواء على قوام قومي. لا يهين العروبة أن تكون ايديولوجيا حديثة مستمدة من ثقافةٍ أصغت الى حقائق العصر ودروسه" المُعيب فيها أن تكون ارتكاساً وانكفاء الى ماضيها "الشعوبي" حيث عنصرية القبيل والدم واللسان قوامٌ لها. لكن المشكلة مع الإحيائيين قائمة في الحالين: فحين تكون العروبة استعادة ل"العبية" ورابطة النسب والدين، تنتهك أمر الإسلام القاضي باستواء الأجناس أمام معيار "التقوى" الذي يؤسِّس سلَّم الأفضلية بين الأنام. وحين تكون هذه - أو شيئاً بهذه المثابة - لأفكار سياسية حديثة حول المجتمعات والأمم، تستحيل بدعةً - مجرَّد بدعة - حمل عليها التقليد الرث لغالب في المنافسة الحضارية بين المسلمين و"الأغيار"! مع ذلك، يهون على الفكرة القومية أن يقال في حقها - ولو زوراً - إنها من نسل فكرٍ حديث "برّاني" على أن يقال عنها إنها حنين الى "الجاهلية". نعم، أخذت النخب القومية العربية الحديثة فكرة الأمة من ثقافات وأيديولوجيات حديثة" وكان ذلك منها ثمرة إصغاء عميق لحقائق عصر جديد هو عصر القوميات والأمم، مثلما كان جواباً تاريخياً عن معضلة الكيانية العربية التي تفاقم أمرها مع نجاح الجراحة الاستعمارية في تمزيق أوصال الوطن العربي وتجزئته الى دويلات صغيرة على مقاس الطوائف والعشائر والمناطق. والعروبة، كما فهمتها هذه النخب القومية، ليست رابطة دموية واعتصاباً للنسب كما يخال ذلك الإحيائيون، وإنما هي رابطة حضارية انصهرت فيها أقوام عدة - مختلفة الأصول الثقافية والدينية - وحصيلة تاريخية لذلك الانصهار التاريخي الطويل المدى. لم تكن عصبية عرب الجاهلية أو بني أميّة عصبية قومية، لأن القوميات في حينه لم تكن قد نشأت تاريخيّاً، كانت - بالأحرى - عصبية قبلية. والقارئ في أشعارهم وخطبهم يقف على ذلك بوضوح. أما عصبية عرب اليوم فقومية بالمعنى الحديث. وليس أمرُها كذلك عند النخب فحسب، بل ولدى الجمهور أيضاً. ومن لديه شك في ذلك، فليسائل نفسه لماذا يخرج الناس بالملايين في تظاهرات حاشدة تضامناً مع فلسطينوالعراق من المغرب الى البحرين؟ أمّا إذا أصرِّ على ألاّ يرى في التظاهر إلا علامة على قوة حسّ التضامن مع إخوة مسلمين، فإنّا نسأله: ولماذا لم تخرج هذه الحشود الملايينية تضامناً مع مسلمي أفغانستان والبوسنة وكوسوفو والشيشان...، وقد نُكبوا بمثل ما نُكِب به عرب العراقوفلسطين؟ إن حجَّة الإحيائية الإسلامية على القومية العربية بتعلةِ استوائها على عصبية الجنس حجة مردودة. وهي إذا لم تكن قصدت عمداً تزوير الفكرة القومية للإساءة اليها، فإنها - في أحسن أحوال الظن بها - تعاني نقصاً حاداً في ادراك المعنى العصري للأمم والقوميات" وهو النقص الذي عليها أن تتداركه. أما الأزعومة الثانية عن "كيد" غير المسلمين من العرب للمسلمين ودسِّ فكرة الأمة الحديثة في وعيهم، ودفعهم - من خلال الاعتصام بها - الى الانصراف عن رابطة الدين الى رابطة الجنس، فشبيهة في بهتانها وتهافتها بالأزعومة الأولى. إذ ليس صحيحاً أن رواد الفكرة العروبية والفكرة القومية مسيحيون في معظمهم. كان في جملتهم مسلمون كثر، ومنهم من كان - قبْلاً - وفيّاً للرابطة العثمانية، وعمل في اطار، أو في جوار، "حزب اللامركزية الإدارية العثماني" قبل أن ينقلب عليه حين صعود "حزب الاتحاد والترقي" الى السلطة في تركيا، وانطلاق النزعة الطورانية وسياسة التتريك من كل عِقال، ثم تبيُّن استحالة الرهان على الرابطة العربية - التركية في الإطار العثماني. الأهم من ذلك كله ان المسيحيين العرب يتقاسمون الحق مع المسملين العرب في الاعتناء برابطتهم العربية وبلسان أمتهم وثقافتها، وأن لا عيب في ذلك ولا فيه مدعاة لوم" خصوصاً الذي يجمعهم بالعرب غير المسيحيين هو رباط الانتماء القومي لا الملي. وإذا كان من الصحيح تاريخياً أنهم كانوا الأكثر حماسة للفكرة العروبية وإن لم يكونوا الأبكر في ذلك كان عبدالرحمن الكواكبي ومحمد رشيد رضا مثلاً - وهما مسلمان - في جملة الأبكر، فلأنهم كانوا الأكثر ابتلاءً بالتتريك الذي كان "في وُسْع" المسلمين العرب السكوت عنه بدعوى مشاركة الترك للعرب في الملّة! أما أن المسيحيين العرب يكيدون للإسلام ويتربصون بحضارته، فتلك تهمة خطيرة لا يقوم عليها دليل، بل ان التاريخ يفندها ويدحضها. إذا كان مجرى الحديث إسلامُ العصر الوسيط، فالكل يعرف أفضال المسيحيين العرب على ثقافة العرب والمسلمين من يوحنا البطريق الى أبي تمام. وهل كان في وسع المسلمين أن ينفتحوا على ثقافات الأمم الأخرى ومعارفها - التي أَغنت حضارتهم - أو أن يحوّلوا "بيت الحكمة" الى معمل علمي حقيقي يترجم عن "الأقدمين" نصوصهم الكبرى ويأخذُ عنها في مظانِّها لولا ذلك الجيش العرمرم من التراجمة العرب المسيحيين؟ وقُل ذلك في الأندلس أيضاً وفي سواها من حواضر الإسلام الكبرى. أما إذا كان مجرى الحديث هو الإسلام في حقبتيه الحديثة والمعاصرة، فلا يختلف اثنان - إلا كانا جاحدين - على أن أمر العناية باللغة العربية - لغة الوحي - إنما كان للمسيحيين العرب قبل سواهم لئلاّ نقول دون سواهم، وان القرآن الكريم تحوَّل الى كتاب شعبي في مطابعهم، وأنهم نقلوا الى المسلمين نصوص فقههم وفلسفتهم التي قرأوا عن أصولها والمتون في الشروح والمختصرات" وليس إلا لناكر الجميل أن يجحد مساهمات أحمد فارس الشدياق، وآل البستاني، وآل اليازجي، "ومدرسة المهجر"، وكتابات جرجي زيدان، وسواهم، في إدخال الثقافة العربية الى معترك المنافسة العصرية وفي ضخ الروح في ماضيها وفي جمالية لغتها. هؤلاء هُم المسيحيون العرب الفعليون لا المفترضون في خطاب الإحيائية الإسلامية... وبعد، حجَّةُ المناوئين من الصحويين للعروبة مردودة من كل الوجوه. وهي - في أفضل أحوالها - مادة مبتذلة لمساجلة لفظانية لا تتبيَّن الفروق بين التاريخ والايديولوجيا، الواقعيّ والمتخيل. تستطيع أن تصيب حظّاً من النجاح في كسب الأنصار والمحازبين، وفي فرض الانكفاء على خصومها، لكنها - في كل حال - تحارب بأسلحةٍ غير مشروعة، والأهم من ذلك تنسى أنها تنتصر على نفسها، بل قُلْ تهزم نفسها، في المطاف الأخير! إذْ من يجادل اليوم في أن الإسلام لن يتغذى من هزيمة العروبة إذ هُمَا سواء عند خصومهما؟! * كاتب مغربي.