في العادة تكون فترة الانتخابات الاسرائيلية مناسبة يحاسب فيها الشعب الاسرائيلي اطراف النظام السياسي على ما قدمه كل طرف وما قصر في تقديمه. ويعرض المرشحون، افرادا وكتلا انتخابية، عبر وسائل الاعلام، ما يحلو لهم من مواقف وافكار. ومن اجل الفوز بمقاعد الكنيست السادسة عشرة المقررة بعد يومين، مارس الجميع اساليب مباحة ديموقراطياً وغير مباحة ايضاً. ومع اقتراب موعد فتح مراكز الاقتراع، بدأ مشهد المناورات والالعاب الحزبية يتكرر على ارض بازار الانتخابات بصورة اكثر اثارة وتشويقا من مشهد الانتخابات السابقة. وتحولت الحملات الانتخابية الى عملية ردح سياسي وتجريح شخصي للمرشحين. وسقطت الروادع الاخلاقية والانسانية والسياسية، وتجاوز المرشحون في دعايتهم الانتخابية الحدود المعقولة وتبادلوا الاتهامات والشتائم السياسية والتنظيمية. وتم الكشف عن تورط "الجد العجوز" شارون ونجليه في قضية فساد ومخالفات جنانية مالية، افقده بعضاً من وزنه المعنوي، وخسر حزب ليكود عددا من مقاعد الكنيست لكنه لم يفقد فرصة كسب المعركة. وتدخل القضاء الاسرائيلي، واثبت متانة استقلاليته، وتعززت مكانته داخلياً وخارجياً. ورسم قضاة المحكمة العليا نموذجا يستحق التقدير، حبذا لو يتم الاقتداء به فلسطينياً وعربياً، حين نقض قضاة المحكمة العليا قرار لجنة الانتخابات المركزية حرمان حزب التجمع الديموقراطي ورئيسه عزمي بشارة، واحمد الطيبي من المشاركة في الانتخابات لاسباب سياسية، وحين مارس القاضي حيشن رئيس لجنة الانتخابات صلاحياته واوقف بث وقائع المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس الوزراء شارون، عندما تجاوز المسموح به وحول المؤتمر الى دعاية انتخابية. والتأمل في مجريات المعركة الانتخابية ومكونات الخريطة السياسية والحزبية، ونتائج استطلاعات الرأي العام الاسرائيلي يبين، لمن يريد ان يرى الحقيقة، عددا من الحقائق المرة والقاسية على الفلسطينيين، وتحمل في طياتها اخطارا كبيرة على العرب وتهدد استقرار المنطقة، ابرزها: ان المجتمع الاسرائيلي يعيش مرحلة من عدم الاستقرار السياسي والحزبي والنفسي، وانه منقسم على نفسه عمودياً وافقياً حول قضايا عديدة ومتنوعة منها، الصراع بين التدين والعلمانية، والموقف من مسألة السلام مع الفلسطينيين والعرب، ومدى التجاوب مع سياسة الولاياتالمتحدة الاميركية ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة. وزادت اطروحة متسناع "لا لحكومة الوحدة الوطنية وإما العمل او ليكود" في حدة الانقسام الداخلي ورفعت حرارة المعركة الانتخابية. وقبل اليمين التحدي واستنفر قواه ونزل بقوة الى ميدان المعركة. وظل قادة وكوادر حزب العمل محبطين وبعضهم يسلم بخسارة المعركة قبل فتح صناديق الاقتراع. وتلقى متسناع طعنات في الظهر وبقي وحيدا في مواجهة اليمين، يكافح من اجل تقليص الفرق في عدد مقاعد الكنيست الجددة، والبقاء في زعامة الحزب بعد الانتخابات، بأمل متابعة معركة تثيبت توجهاته السياسية والحزبية. ثانياً: اظهر المجتمع الاسرائيلي في هذه الانتخابات حساسية خاصة تجاه قضاياه الداخلية وبخاصة الامنية والاقتصادية والمتعلقة بالرشوة والفساد، تفوق اهتمامه بصنع السلام مع الفلسطينيين. وظهر انه غير ناضج للوصول الى سلام حقيقي شامل وشبه عادل مع جيرانه الفلسطينيين، وبناء علاقة طبيعية متوازنة مع العرب. ولم تفلح جهود السلام في اخراجه من صومعته العنصرية المتقوقع فيها، وظلت اغلبية الاسرائيليين اسرى مفاهيم توراتية غيبية. ولم ينجح زعيم حزب العمل وقوى السلام في اقناعهم ان في السلام منافع استراتيجية كبيرة وكثيرة لهم، تفوق المنافع الآنية والمحدودة التي تجنيها اسرائيل من استعمار شعب فلسطين واحتلال ارضة. وبصرف النظر عن النوايا، فإن اخطاء الحزب في عهد باراك وبعده بن اليعازر، شككت الاسرائيليين اليهود، شرقيين وغربيين متدينين وعلمانيين، في امكانية السلام مع الفلسطينيين. وجاءت رياح الحرب على العراق ورياح "الانتفاضة والمقاومة" الفلسطينية وبخاصة "العمليات الانتحارية" ضد المدنيين في قلب المدن الاسرائيلية، وكرست عقدة خوف من العرب التي زرعتها الصهيونية في عقول الاسرائيليين جيلا بعد جيل. ودفعتهم نحو التمسك بالامن بمفهومه الضيق والتخلي عن السلام الذي يجلب الامن الشامل. وواصلوا انحازهم لبرنامج اليمين الداعي الى تدمير العراق في حال تعرض اسرائيل للصورايخ. واخضاع الفلسطينيين بالقوة وعدم التفاوض معهم وتدمير سلطتهم باعتبارهم سلطة ارهابية تسعى الى تدمير اسرائيل.ورغم اتهام شارون وابنائه بالرشوة والفساد، وتدهور الوضع الامن والاقتصادي في عهده، يتجه اغلبية الاسرائيليين لمسامحته وتجديد حقبة حكمه باعتباره القادر على صنع المعجزات وردع العرب وتركيع الفلسطينيين وجلب الامن والسلام مفصلين على مقاسهم وحدهم. ثالثاً: بالرغم من الاخطار الكبيرة التي يجلبها فوز اليمين الاسرائيلي في الانتخابات الجديدة، ظل الفلسطينيون سلطة ومعارضة قاصرين عن التأثير فيها بما يجنبهم هذه الاخطار. وعجزت السلطة عن توجيه رسالة سلام واضحة وصريحة للمجتمع الاسرائيلي، وظل كلام اقطابها عن السلام ودعوة بعضهم الى نبذ العنف والارهاب باهتا وملتبسا. وتعمدت قوى المعارضة الفلسطينية اظهار ضعف عرفات والسلطة الرسمية، وعملت ما بوسعها للتشويش على المواقف والبيانات الفلسطينية الواقعية القليلة التي حاولت دحض تهمة رفض السلام واعتماد الارهاب وسيلة لتحقيق الاهداف. وزود بعضها شارون بالمقومات الضرورية لمواصلة حربه العنصرية ضد الفلسطينيين، وجردوا شعبهم من أدنى اشكال الدعم والاسناد المعنوي الدولي. وبدلا عن تقدير خطورة المرحلة والتخلص من تهمة التطرف والارهاب، اصر انصار "الكفاح المسلح والعمليات الانتحارية" خصوصاً في فتح وحماس والجهاد الاسلامي، على مواقفهم، ومضوا قدماً في بياناتهم النارية و"عملياتهم الانتحارية" واستعراضاتهم العسكرية في شوارع مدن ومخيمات قطاع غزة، وحملوا الشعب الفلسطيني ما يفوق طاقته. وساهموا في اضعاف مواقف متسناع "واليسار الاسرائيلي"، وعززوا مواقف شارون العنصرية المتطرفة في الحقلين الداخلي والدولي. الى ذلك، فشل النظام الرسمي العربي في التأثير المباشر وغير المباشر في الرأي العام الاسرائيلي، ولم تنجح الحكومات والجامعة العربية في ايصال رسالة سلام واضحة للمجتمع الاسرائيلي تدخض ادعاءات اليمين الباطلة، وتبين ان العرب طلاب سلام. وفوتوا فرصة تذكير الشعب الاسرائيلي بأن مشروع ولي العهد السعودي الأمير عبدالله الذي أقرّته قمة بيروت العام الماضي لا يزال على الطاولة، ويعرض على اسرائيل السلام والعلاقات الطبيعية مقابل الانسحاب الى حدود عام 1967. وحتى اللحظة يتردد جميع الرؤساء والملوك العرب في استقبال ميتسناع، والتفسير الوحيد لهذا التردد يكمن في قناعتهم بفوز شارون وحرصهم على تجنب اغضابه. وكأن استرضاء شارون قبل فتح صناديق الاقتراع يجنبهم المصائب والكوارث التي يخبئها لهم. وبجانب هذا القصور الفلسطيني والعربي الرسمي لم يفلح العرب في اسرائيل في توحيد صفوفهم وبدلا من اختزال عدد قوائمهم الانتخابية زادت من ثلاثة الى اربعة، وهذه الزيادة قد تقلص عدد ممثليهم في الكنيست في اعز الاوقات، وعندما اصبحت قيمة كل مقعد كنيست كبيرة. وبعد عرض هذه الحقائق المرة، بديهي القول ان فوز شارون في هذه الانتخابات شبه مؤكد، وان مرحلة ما بعد الانتخابات الاسرائيلية سوف تكون اشد قتامة في حياة اهل المنطقة من الفترة القاسية التي سبقتها، سواء ظل ميتسناع على رأس حزب العمل او غاب عن مسرح الحياة السياسية وشارك الحزب في حكومة وحدة وطنية بزعامة شارون. واذا كان فوز القوى العلمانية وانصار السلام في الانتخابات الاسرائيلية مستبعدا، كما تبين استطلاعات الرأي، فإن التزام حزب العمل، بعد الانتخابات، بمقولة ميتسناع "لا للمشاركة في حكومة يتزعمها شارون" يديم فترة المخاض الصعب الذي يمر فيه المجتمع الاسرائيلي، ويقود الى تشكيل حكومة يمينية اشد تطرفاً من الحكومات السابقة. ولا جدال في ان الحرب على العراق سوف تزيد في عذاب شعوب المنطقة وخصوصاً الشعبين العراقيوالفلسطيني، وتفجر صراعات جديدة يصعب تقدير نتائجها. في كل الاحوال لن يتواني العجوز شارون في فترة حكمه الثانية عن تنفيذ قناعاته العنصرية المتطرفة وتحقيق ما لم يحققه في الفترة الاولى. وسف يحاول انجاز احلامه كاملة وبسرعة قبل ذهابه للتقاعد في مزرعة مع مزروعاته وحيواناته التي يكن لها احتراما يفوق احترامه للانسان العربي. ويعتقد شارون ان حالة الضعف والهوان التي يمر بها العرب يوفر له فرصة تاريخية للخلاص من عرفات وتدمير بقايا السلطة الفلسطينية. والاجهاز على حلم الفلسطينيين في دولة، وحل معضلة امن اسرائيل الاستراتيجية الديموغرافية والعسكرية، عبر مواصلة الاستيطان. وفي معرض رده على سؤال حول المستقبل، قال شارون في محفل انتخابي مغلق: "افكر في جلب نصف مليون مهاجر يهودي خلال 3 - 4 سنوات اخلق بهم واقعاً جديداً في يهودا والسامرة. وبغض النظر عن قدرة شارون على تحقيق بعض او كل احلامه العنصرية، فإن مجرد وجوده مجدداً في رئاسة الوزراء يفرض على العرب وبخاصة الفلسطنيين رفع يقظتهم وعدم التلكؤ في تحضير اوضاعهم لمواجهة اسوء الاحتمالات. ولعل التمسك بخريطة واللجنة الرباعية الدولية وتشجيع المشروع الكندي الداعي الى ارسال قوات دولية يساعد في تقليص الخسائر في بقية حقبة شارون. ويخطئ من يراهن على تدخل بوش، بعد ضرب العراق، للحد من طموحات شارون. * كاتب فلسطيني.