ثمة ثلاثة عناوين تضفي مفارقات على المفهوم الاميركي للعالم، وهي مواصلة البرنامج النووي في كوريا الشمالية، ومواصلة الحشود العسكرية الاميركية ضد العراق، وإعلان الرئيس جورج بوش وهو يطفئ شموع العام المنصرم ان الولاياتالمتحدة بدأت في نشر شبكة ارضية مضادة للصواريخ، الجديد فيها انها في صدد اقامة نظام دفاعي عالمي للقرن ال21. في الاعلان النووي لكوريا الشمالية، تتمركز الحجة الاميركية ذاتها على العراق منذ عقد ونيف. وتميل واشنطن الى اغفال المفارقة على رغم تصعيد بيونغيانغ موقفها بطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتحذيرها واشنطن من "مواجهة حتمية مع الامبرياليين طالما لم يتخلوا عن طبيعتهم العدائية والاستغلالية"، فقابلت ذلك بليونة اميركية، اذ اعتبر وزير الخارجية كولن باول "ان التوتر الحاصل نتيجة المسألة النووية الكورية امر مثير للقلق لكنه لا يشكل أزمة"، وان واشنطن "لا تنوي مهاجمة كوريا الشمالية، وانها مستعدة لافساح المجال امام الديبلوماسية لاقناع بيونغيانغ بالتخلي عن برامجها النووية"، علماً انه سبق لبيونغيانغ ان حققت تجارب ناجحة عام 1998 على الصاروخ الباليستي العابر للقارات. في المشهدين العراقي والكوري الشمالي، تبدو الولاياتالمتحدة مصابة بانفصام الشخصية، فقوة التخويف العالمية في كوريا تفتقد الى الجسارة المعنوية التي تمكنها من الوفاء بما تدعيه من قناعات. وهذا التلون ليس من الصنف الشهير "الكيل بمكيالين"، بقدر ما هو تعاظم آمالها في ان يقتصر الثمن الذي ستدفعه في الحرب على العراق اجمالاً على الاموال فقط، والتي يمكن تعويضها اضعافاً من استغلال ثروات المنطقة، وهو ما لا يوفره اي مخرج ديبلوماسي. فواشنطن هنا مصابة بالمس الاحادي والتركيز المفرط على أمر واحد النفط، على رغم مخاطر مشروعها وتفرعه الى روافد بالغة الضيق والظلمة. وبين هنا وهناك، في شبه الجزيرة الكورية، فإنها تصاب بالإحباط والترهل المعنوي وعدم توافر الارادة في المواجهة. في موضوعة "الدرع الصاروخي"، ظهر أن واشنطن لا تنوي التنسيق مع موسكو او مناقشة ما تقوم به من خطوات في هذا المجال، ولم يكن من قبيل المصادفة ان يعلن مساعد الرئيس الروسي المارشال سيرغييف "ان روسيا لم تتلق ادلة على ان نشر الشبكة المضادة للصواريخ سيؤدي الى النيل من فاعلية القوات النووية الاستراتيجية الروسية"، فيما اكتفت الخارجية الروسية بالتعبير عن "اسفها لمحاولة الولاياتالمتحدة تكثيف جهودها في إقامة نظام دفاعي كوني ضد الصواريخ". وتقود التحليلات لما قام به الجانبان الروسي والاميركي من خطوات على ارض الواقع، الى استنتاج مفاده ان واشنطنوموسكو دشنتا قبل نحو عام مرحلة جديدة من سباق الاسلحة، على رغم انهما كفتا عن تسليط الضوء الاعلامي على المواجهة بينهما. فهما تحاربان "الارهاب" في صورة "مشتركة"، ولكن هذا برز على سبيل المثال من خطط تطوير سلاح الصواريخ الاستراتيجية الذي يضم في روسيا 3115 رأساً مدمرة من اصل 5517 رأساً تملكها، اذ اعلن قائد الصواريخ الاستراتيجية الروسية الجنرال نيقولاي سولوفتسوف أخيراً انه لن يعدم اي صاروخ او رأس مدمرة قبل انتهاء عمره الافتراضي. وتظل الصواريخ الثقيلة المتعددة الرؤوس والتي تسمى في الغرب "الشيطان" في الخدمة، وهي تحمل عشرة رؤوس مدمرة. وبحسب سولوفتسوف "فهي قادرة على اختراق الشبكة الدفاعية التي ستتمكن واشنطن من نشرها في المستقبل البعيد". كما لا يزال امام الولاياتالمتحدة القيام ب12 تجربة على منظومتها، وهي اجرت حتى الآن ثمانية تجارب عزز فشل الاخيرة من بينها مواقع المشككين في جدواها، فالنموذج المضاد اطلق في 11 الشهر الماضي ليلاً ولم ير الهدف. بدأت واشنطن في انشاء المنظومة المضادة منتصف عام 2001، وتعود جذورها الى منظومة "سينتنل" المقترحة عام 1967 والهادفة الى ايجاد غطاء كامل لأراضي الولاياتالمتحدة، ففي آذار مارس 1969 استبدل الرئيس ريتشارد نيكسون هذا البرنامج لأسباب تقنية، بمشروع الدفاع المضاد للصواريخ الهادف الى حماية الاسلحة النووية الاستراتيجية ذات القواعد الارضية، ثم اوقف تنفيذه لاحقاً بسبب نواقصه الفنية، وبسبب ان الصواريخ الباليستية المنصوبة على الغواصات باتت اساس المقدرة النووية الاميركية. ثم جاءت المعاهدة السوفياتية - الاميركية عام 1971 لتضع حداً للجدل والى تحاشي سباق التسلح. وفي آذار مارس 1983 أعلن الرئيس الاميركي رونالد ريغان مبادرته "الدفاعية الاستراتيجية" وضرورة ايجاد "صيغة ردع افضل"، غير انه مع حلول نهاية الثمانينات بات واضحاً ان من غير الممكن نصب منظومة ضخمة مضادة للصواريخ تحتوي على عناصر ارتكاز فضائية، بسبب بروز سلاح الليزر. وعندما حل الرئيس جورج بوش الأب عام 1989 في البيت الابيض، قلص تمويل "حرب النجوم" وأوقف تنفيذه، وجاءت ادارة كلينتون لتتخذ موقفاً حذراً من منظومة الدفاع المضاد للصواريخ، انطلاقاً من التغيرات السياسية الحاصلة في العالم عموماً. وفي كانون الثاني يناير 1999 أقر مجلس الشيوخ والنواب الاميركي قانوناً حول الدفاع المضاد للصواريخ، وقعه الرئيس الاميركي في تموز يوليو من ذلك العام، وقدرت كلفة البرنامج ب300 بليون دولار، وعرّف بأنه لمقاومة ضربات محدودة بالصواريخ الباليستية... وبرأي العديد من المحللين العسكريين الأميركيين ان حلولاً عسكرية تقنية للمشكلات الأمنية لا وجود لها اصلاً، بل ربما من الضروري السير في خفض مستوى التجابه تدريجاً وصولاً الى تصفية كل انواع الأسلحة الاستراتيجية، وأنه سيتبين ان اضافة اسلحة دفاعية معقدة جداً وغالية الى الأسلحة الهجومية الموجودة لن ينفع ولا يعرف مآله. لكن الواضح الوحيد في "الاستراتيجية الأميركية لمكافحة اسلحة الدمار الشامل" بأنها محاولة لترسيخ دورها في الزعامة العالمية، حيث تقول الاستراتيجيا التي وضعها البيت الأبيض، انها استراتيجية للهجوم وليست للدفاع، ويتأكد هذا حين يدور الحديث عن "عقيدة الضربات الوقائية"، وعدم رغبة واشنطن في إلزام نفسها بالتزامات دولية معينة، وهذا الأمر ليس وليد اليوم، حيث تشهد على هذا الاتجاه افعال اميركية كثيرة، تثير ردود فعل في العالم، منها انسحاب واشنطن من بروتوكول كيوتو، ومعاهدة موسكو للدفاع المضادة للصواريخ 1972، والانتهاك الفعلي لاتفاق جنيف في شأن اسرى الحرب، والحال الشوفينية التي تسود اميركا راهناً، وصولاً الى التفتيش الدولي في العراق، واستيائها من سير هذا التفتيش، وكل هذا يؤكد مجدداً ان الأممالمتحدة اصبحت عائقاً امام الولاياتالمتحدة وتمنعها من تنفيذ مخططاتها، ومن هنا ولدت "الاستراتيجية القومية الجديدة". وتذهب الدروس والاستخلاصات لهذا التحقيب الى ابعد من ذلك، فقد بدت عملية التربية والإعلام الأميركية خلال الحرب الباردة على صورة معاكسة لما كان يجب ان تكون عليها بعد توقفها. فكان يجب عليها ان تتخلص من الأسلحة النووية وترساناتها العبثية، بدلاً من تحويلها الى فيروس مهلك ينتشر بالعدوى في ارجاء العالم. اذ سبق لها في التاريخ، ان اشركت ترسانتها الشمولية في الإبادات التي تبنتها في عام 1945، مفتتحة بها تاريخاً سياسياً للإبادة بكل انواعها، بدلاً من تخلي الإنسانية عنها. وجاءت حقبة التسعينات، وأسفرت عنها إعلامياً عناوين "رفض الشمولية وتبني الديموقراطية" ونحو "التخلص من اسلحة التدمير النووي مع غيرها من اسلحة الدمار الشامل". بيد ان الواقع الراهن يشير الى زيف تلك الشعارات، فالقوى النووية عادت الى احتضان ترسانتها النووية عقب انتهاء الحرب الباردة، مفتتحة للعديد غيرها من القوى دخول هذا المضمار، بتحويل الأسلحة النووية الى منقذ بنيوي عميق متعددة الجذور للحياة في القرن ال21، وهي خلاصات اميركا للتاريخ السياسي للقرن العشرين، إذ كيف يستقيم الاعتقاد المروج بأن الأمم الديموقراطية تحملت المجازفة من اجل الإنسانية على بقاء خطر الإبادة قائماً و"تشريع" استخدامه؟ وهو الخطر الذي تتعرض له راهناً الحرية الإنسانية. بل كم رددت بأن شمولية الاتحاد السوفياتي اكبر عقبة امام النزع التام للسلاح؟ فيما يجري، بعد زوال الاتحاد السوفياتي تطوير سلاح الإبادة الشامل، لا نزعه. بيد ان الحقيقة التي توصلت اليها واشنطن هي ان سقوط المعسكر الاشتراكي اطلق إرادتها في هذا المنحى، فكيف يستقيم ايضاً ادعاؤها القديم باختيارها "الموت" على ان تصبح "حمراء". لو سلمنا بهذه المقدمات لتضاءلت المواجهة بين "الشمولية والديموقراطية"، لكن التاريخ يقدم عوامله التفسيرية البسيطة، فهناك صلة نسب بين الحرب الشاملة والشمولية، ومنها التي حولت بها الولاياتالمتحدة خطتها النووية في عام 1945 من ألمانيا الى اليابان، ثم الى الاتحاد السوفياتي، وراهناً في اشد التحولات قسوة وإثارة للصدمة، مع تحويل الهدف من الاتحاد السوفياتي الى "حفنة من الدول المارقة"، وإلى مجرد احتمال ان تصبح روسيا مرة اخرى عدواً للولايات المتحدة! وفي ظل هذه الدهشة يتأكد الشك، بأن واشنطن لم تصنع الأسلحة النووية بالأساس لكي تتصدى لخطر غير عادي، وإنما لأسباب رائجة في مفاهيم "الأمن القومي"، فالأسلحة النووية عامل جوهري في سيادة نموذجها ومدنيتها الليبرالية نفسها، الشر الذي نما وظل ينمو من داخل هذه المدنية بدلاً من دونها، فالحرب العالمية الأولى والثانية جاءت من قلب تلك المدنية الليبرالية... والشمولية بما فيها الإبادة، مرشد فظ ومؤشر لليبرالية التي هي تلميذتها بحق. وهنا من حق المرء ان يتساءل حول الطبيعة المنتصرة نفسها التي قادت معاركها ضد الشمولية في القرن العشرين، كيف تدعو الآن الى تحديد نغمة واحدة واتجاه واحد، في الحياة الدولية وبالسلاح الشمولي؟ وهل من الممكن ان نحمي المدنية من دون خطر وجود الإبادة كأمر لا يمكن تخيله، وعلينا ان نتساءل ايضاً: اي عنصر ملغز في هذه الليبرالية الجديدة يدفعها مرة اخرى، حتى في قمة انتصارها الى هاوية من صنعها! فخطر الإبادة الشاملة خرج من مكوناتها، وهو مكان "طوعي وشرعي" بالنسبة إليها، اشبه بمقبرة يقوم عليها بناء طوابقه الأكثر جمالاً تلك المرتفعة، باسم المدنية والحرية والديموقراطية... * كاتب فلسطيني.