لا تزال شبه الجزيرة الكورية تعيش في أجواء مشحونة منذ انقسامها الى شطرين منذ نصف قرن إثر حرب أهلية بين الشيوعيين والجمهوريين. وشهدت المنطقة خلال السنتين اللتين تلتا انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي تطورات عدة كان آخرها المواجهة البحرية بين الكوريتين قبل بضعة اشهر التي أدت الى غرق زورق حربي تابع لكوريا الشمالية. ويأتي هذا في وقت لم تحقق المفاوضات بين الكوريتين بمشاركة الولاياتالمتحدة وأطراف اخرى مثل الصينواليابان أي تقدم يذكر، خصوصاً على صعيد تحسين العلاقات بين شطري كوريا ونزع فتيل احتمال وقوع مواجهة عسكرية شاملة في أية لحظة. والعامل العسكري الذي يقلق واشنطن هذه المرة ليس تدخل الصين كما حصل في الخمسينات، بل احتمال وجود أسلحة دمار شامل لدى كوريا الشمالية، وخصوصاً رؤوساً نووية. وينتشر أكثر من 36000 جندي اميركي بصورة دائمة على خط وقف اطلاق النار بين الكوريتين. كما ان تطوير كوريا الشمالية لصواريخ باليستية بعيدة المدى وأسلحة الدمار الشامل دفعت بعدد من دول المنطقة وخصوصاً اليابان الى اعادة النظر بسياستها الدفاعية. وتعتبر كوريا الشمالية الى كوبا، الدولة الوحيدة التي لم تغير انظمتها الاقتصادية والاجتماعية على غرار ما فعلت أنظمة شيوعية أخرى في أوروبا الشرقيةوالصين، واستطاعت البقاء حتى اليوم. ويشير المحلل المختص في الشؤون الكورية أبرام شولسكي، الى ان القيادة الكورية الشمالية عمدت الى اجراء تغييرات جذرية في البنية السياسية من أجل حماية النظام والمحافظة عليه. ويقول "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" ان الرئيس الكوري الشمالي كيم تشونغ ايل ألغى منصب رئيس الدولة الذي كان والده كيم ايل سونغ أنشأه وأعاد تشكيل مجلس الدفاع الأعلى وأعطاه صلاحيات مطلقة بإدارة البلاد وجعل نفسه رئيساً لهذا المجلس. وأعطى كيم تشونغ ايل كبار القادة العسكريين حصة الأسد من المقاعد في هذا المجلس من أجل ضمان ولاء المؤسسة العسكرية له. إلا ان هذا لم يساعد النظام على مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تواجه البلاد وخصوصاً منذ ان أدت الفيضانات والأمطار الغزيرة الى تلف أكثر من نصف محصول كوريا الشمالية من القمح والرز. ولم تفلح جهود مؤسسة نظام الغذاء العالمية التابعة للامم المتحدة في تلبية حاجات كوريا الشمالية ما أدى الى انتشار المجاعة وموت أكثر من مليوني شخص منذ منتصف التسعينات، حسب تقديرات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. ويذكر ان بيونغ يانغ كانت تعتمد على حليفتيها، الصين والاتحاد السوفياتي، لسد حاجاتها الاقتصادية والعسكرية، لكن هذه المساعدات توقفت إثر انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات وتدهور الوضع الاقتصادي في روسيا واتجاه الصين نحو تحسين العلاقات التجارية مع غريمتها، كوريا الجنوبية. القوة العسكرية أما من الناحية العسكرية، أثر هبوط معدل النمو والناتج المحلي ونقص الدخل القومي على وضع القوات المسلحة لكوريا الشمالية. وأظهرت الموازنة العامة لسنة 1998 تراجعاً في الانفاق العسكري، اذ قلصت الموازنة العسكرية بنسبة 10 في المئة. وأدى هذا، حسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، الى شح في مخزون الوحدات العسكرية من غذاء وقطع غيار وأسلحة حديثة، وتراجع كبير في جهوزية قواتها المسلحة التي يزيد عددها عن مليون شخص. ولم تعد ترسانة الأسلحة التقليدية للجيش الكوري الشمالي تشكل خطراً كبيراً على قوات كوريا الجنوبية المجهزة بأحدث الأسلحة الاميركية من طائرات اف 16 وصواريخ جو - جو أمرام وجو - أرض هارم وغيرها من الأسلحة التي أحدثت ثورة في التقنية العسكرية. فلا تزال قوات كوريا الشمالية البرية تعتمد في تجهيزها وتدريبها على عقيدة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ القائمة على نظرية حشد القوى البشرية وشن حرب الاستنزاف الطويلة الأمد. وهي مجهزة بدبابات يعود أجددها الى حقبة الستينات مثل تي-62 الروسية. كما ان المقاتلات الروسية القديمة مثل ميغ - 17 وميغ - 19 تشكل أكثر من ثلث قواتها الجوية المؤلفة من 600 طائرة حربية. وأحدث ما تملكه كوريا الشمالية من مقاتلات هي 30 طائرة طراز ميغ -25 و35 طائرة من طراز سوخوي - 25 روسية الصنع. لكن كوريا الشمالية تملك اسطولاً بحرياً كبيراً يقدر عدد قطعه بحوالى 500 سفينة متنوعة من فرقاطات وزوارق صاروخية وكاسحات ألغام وخافرات وسفن انزال ودعم وصيانة، ويشمل هذا العدد 26 غواصة روسية وصينية الصنع. إلا ان غالبية قطع هذا الاسطول قديمة ولم تعد أسلحتها ذات فعالية أمام الأسلحة والسفن الحربية الحديثة. ودفع هذا التراجع في جهوزية القوات الكورية الشمالية بيونغ يانغ الى التركيز على بناء ترسانة من الأسلحة غير التقليدية، مع التركيز على الصواريخ الباليستية والقنبلة النووية. ويقول شولسكي ان اجهزة الاستخبارات الغربية تعتقد بأن كوريا الشمالية استطاعت حتى الآن بناء قنبلة أو قنبلتين نوويتين على الأقل. ويضيف بأنها تريد تكوين ترسانة نووية كبيرة تمكنها من ابتزاز واشنطن والعالم في مفاوضات تستطيع عبرها الحصول على مساعدات مالية واقتصادية مقابل تنازلات لا تصل الى حد التخلي عن الخيار النووي. وهذه استراتيجية شاهدها العالم بوضوح في محادثات واشنطن مع بيونغ يانغ في السنوات القليلة الماضية حين حاول الكوريون مقايضة المساعدات الاميركية مقابل السماح لمفتشين دوليين بزيارة مفاعلاتها النووية ومراكز أبحاث يعتقد انها جزء من برنامجها النووي. الا ان بيونغ يانغ لم تسمح للمفتشين حتى الآن بزيارة أي من هذه المراكز. هذا الغموض في مدى تقدم البرنامج النووي الكوري يزيد الامور تعقيداً للمسؤولين الاميركيين ويقوي الموقع التفاوضي للكوريين الشماليين. ويؤكد شولسكي هذا الأمر ويضيف بأن الغرب يجهل ايضاً "بواطن الأمور في النظام". ويقول اوليغ كالوغين، أحد أشهر الجواسيس السوفيات ويعمل اليوم محاضراً وخبيراً في الولاياتالمتحدة، ان الغرب لا يعلم كثيراً عن القيادة في كوريا الشمالية. وخير دليل على ذلك، يضيف كولغين، ان وكالة الاستخبارات المركزية لم تكتشف حتى عام 93 بأن لدى الرئيس الكوري كيم تشونغ ايل ولدين، وهو أمر مهم في نظام مبني على حكم الأسرة الواحدة. باختصار، يعتبر شولسكي، أن كوريا الشمالية تستفيد كثيراً من الغموض الذي تحيط به برنامجها النووي وحال نظامها. ويضيف بأن استمرار بيونغ يانغ بتطوير صواريخها الباليستية واجراء تجارب اطلاق هذه الصواريخ من وقت الى آخر يعزز عامل الردع لديها ويساهم في ابتزاز واشنطنوسيول على طاولة المفاوضات، كما انه يحمي النظام داخلياً من أي محاولة خارجية لإسقاطه خشية احتمال انتشار رؤوسها النووية على دول المنطقة. ويشير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بأنه لدى كوريا ترسانة كبيرة من الأسلحة الكيماوية وانها دربت قوات خاصة في جيشها على خوض معارك تستخدم هذه الاسلحة. كوريا الجنوبية كوريا الجنوبية بدورها شهدت تغييرات جذرية في السنوات الماضية كان أهمها وصول كيم داي جونغ الى سدة الرئاسة العام الماضي، وأحضر معه أجندة اقتصادية وسياسية مغايرة للزعماء المحافظين الذين سبقوه. ووصف "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" خطوات كيم بالليبيرالية والانفتاحية وبأنها ساعدت على نهوض الاقتصاد بعد الانهيار الكبير الذي تعرض له اثر تدهور الأسواق قبل عامين. ولدى كيم رؤية مختلفة عن أسلافه في التعامل مع بيونغ يانغ ومسألة الوحدة مع الشطر الشمالي. فهو من ناحية يحبذ اعتماد المفاوضات من أجل تحسين العلاقات وتطوير التبادل التجاري والاقتصادي بين الطرفين، ويرفض من ناحية اخرى توحيد الكوريتين طالما ان اقتصاد كوريا الشمالية لا يزال في عجز كبير. فهو لا يريد ان يحمل كوريا الجنوبية أعباء بناء اقتصاد الشطر الآخر. لذلك، يضيف المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ان كيم يتحدث اليوم عن "التعايش السلمي والتعاون" مع كوريا الشمالية عوضاً عن اعادة توحيد الشطرين. ويفيد المعهد بأن كيم استطاع تسجيل نجاح محدود عن طريق تشجيع برنامج سياحي من الشطر الجنوبي الى الشمالي بالإضافة الى بعض الصفقات التجارية بين رجال الاعمال في كوريا الجنوبية وبيونغ يانغ. ويعتقد بعض المراقبين ان استراتيجية كيم مبنية على يقينه بأن النظام في كوريا الشمالية لن يستطيع الصمود طويلاً أمام المصاعب الاقتصادية وسينهار مع الوقت. ويضيف المراقبون، لم يوقف كيم مساعيه لمتابعة المفاوضات الصعبة مع كوريا الشمالية وحثه رجال الاعمال في سيول على فتح قنوات مع بيونغ يانغ على رغم المناوشات المسلحة بين الطرفين. وكما يقول المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية انه يريد تهيئة الجو اقتصادياً داخل كوريا الشمالية من أجل مرحلة انتقالية تسبق إعادة توحيد الشطرين في المستقبل. لتجنب اشتعال حرب شاملة بين الكوريتين. الأبعاد الاستراتيجية اكثر الدول تأثراً بما يجري في شبه الجزيرة الكورية هي اليابان. ويعتقد المحللون ان طوكيو تشعر أنها في خطر اذا ما استمرت بيونغ يانغ في تطوير أسلحتها الباليستية وبرنامجها النووي كما انها تشعر بخطر اذا ما تحقق ما يبدو مستحيلاً اليوم وهو: إعادة توحيد الكوريتين. ويقول شولسكي ان اليابان، اذا ما توحدت كوريا، ستجد نفسها أمام قوة صناعية وعسكرية من 70 مليون نسمة. وستشكل كوريا حينها قوة اقليمية تستطيع منافسة كل من الصينوروسيا في المنطقة. لذلك يتوقع المراقبون ان تعيد اليابان حساباتها وسياساتها الدفاعية وقد تلجأ الى خيار بناء قوة نووية خاصة بها لتشكل رادعاً للكوريين والصينيين، وكلاهما عانى كثيراً من الاحتلال الياباني في مطلع القرن الجاري. ويبدو ان واشنطن مدركة لهذا الأمر لذلك أعلنت عن نيتها نشر شبكة دفاع مضادة للصواريخ الباليستية لحماية حلفائها الرئيسيين في المنطقة مثل اليابانوكوريا الجنوبية وتايوان. ولعل هذه الشبكة الدفاعية قد تطمئن المسؤولين في اليابان والمنطقة، إلا أنها لن تساعد في حل معضلة كوريا الشمالية. فعلى ما يبدو ان واشنطن غير مدركة تماماً كيفية التعامل مع بيونغ يانغ لجهلها أموراً عدة عن النظام وتوجهاته، وتجد نفسها مضطرة لمجاراته في مفاوضات طويلة وشائكة ومجهولة النتائج آملة بأن يكون الوقت في صالحها في زيادة الضغوط والاقتصادية والاجتماعية على النظام. لكن النظام يستفيد من الوقت ايضاً في بناء ترسانة نووية ستزيد الوضع تعقيداً في المستقبل. وامتلاك أسلحة نووية وصواريخ عابرة للقارات تشجع كيم تشونغ ايل على الدخول في مغامرات عسكرية محدودة بهدف ابتزاز واشنطن والعالم والحصول على مساعدات مالية واقتصادية أفضل مما يحصل عليه اليوم.