حين كنا صغاراً كانت "صغيرة". ولما كبرنا ظلت "صغيرة". وعندما كبرت تركتنا نتصاغر واعتزلت. هكذا، اعتزلت نجاة. نعم، بصمت. بدفء كما هي اعتادت ان تغني وتتنفس وتنظر وتخجل حين يصفق لها الجمهور فتقطع غناءها وتحني رأسها وتعيد مغمضة العينين. قالت نجاة: "يكفي، آن الاوان كي الملم فساتيني التي اهملتها". في خزانة السنين الطوال، سيكون لديها متسع من الوقت كي توضّب ما تبعثر في اروقة ليالي الفن العجقة طوال نصف قرن. وسيكون لنا ان نقفل ادراجنا على مجموعة اغان كثيرة فرحين بأننا لم ولن نجبر يوماً على تضمينها اسطوانة "عجوزاً". كنا لنفعل ذلك لو انها فعلت. كنا لنرضى، لكنها لم ترض. استراحت. هدأت القيثارة بعد عزف متواصل بدأته وهي بعد في الخامسة. حينها كانت فعلاً "اصغر" من ان تشدو فتهتز ضفائرها كما قلوب السامعين في وقت واحد. وفرح بها الجميع: ابوها محمد افندي الخطاط الذي يعشق العود، فيسري عشق النغم والفن في شرايين اطفاله ونعرف من بينهم حرّيف قانون وعازف كمان وآخر للعود، وتنطنط زوزو في ايامنا ترقص وتغني وتمثل كربيع لا يفنى. وتصدح نجاة. على شرفة بيتها في الزمالك، سيكون لها بعد اليوم متسع من الوقت كي ترتشف شايها بسكينة وترتشف معه الذكريات: الامكنة، التواريخ، الاحداث... والشخوص الكثر: "الاستاذ"، عبدالوهاب الذي تبناها طفلة. كان المعلم والمدرب والمرجع والملجأ والنجاح. كان موسيقار الاجيال بالنسبة الى نجاة الاب الروحي الذي تلقي به الاقدار في دروب كثر منا فنتعلق به ونخترعه قدوة ونؤلفه حنيناً واشتياقاً. خصّها بالجميل الشجي، ب"أيظن" و"شكل تاني" و"لا تكذبي" و"أسألك الرحيلا" والكثير الكثير. وصدحت هي بأغانيه كما لم يفعل مغن آخر: "يا مسافر وحدك"، "محلاها عيشة الفلاح"، "ما كانش ع البال"... وفي تلك البروفة، حين جلس مع عوده يلقنها "أيظن" مازحته مرة بالقول: "ايه ده يا استاذ. ازاي تقول حتى فساتيني التي اهملتها. انت تقول حتى كرافاتاتي، حتى بنطلوناتي...". ونزار، لعلها افتتحت معه عهد غناء القصيدة الشعرية المعاصرة فلمعت ولمع هو معها. ظلت القصيدة لنجاة عشقاً خاصاً ومزاجاً، كما مسؤولية وجهداً ورقيّاً. غنت منها الكثير ودوبت قلوب عشاق ذلك الزمن ولا تزال تفعل. وحين ارتاحت، ارادت ان تكون المحطة الاخيرة قصيدة ايضا للشاعرة الكويتية سعاد الصباح بعنوان "لا تنتقد خجلي" لحنها رفيق الدرب الموسيقار الكبير كمال الطويل. له غنت "ساكن قصادي وبحبو" وأيضاً "استناني استناني هيّ دقيقة كتير علشاني" "واسهر وانشغل" وغيرها. ومعه لها قصة عمر طريفة: كان الطويل في بداياته حين لحن أغنية "ليه خلتني أحبك" وغنتها الرقيقة ليلى مراد وسجلتها للاذاعة. ولكن البعض اعترض على كلمة في الاغنية وطلب تغييرها، ورفضت ليلى ان تعيد التسجيل، وحاول الطويل معها كثيراً لإنقاذ الاغنية، وأخيراً اضطر لإعادة تسجيلها بصوت مطربة ناشئة، وتذاع الاغنية فتصبح أغنية الموسم وتصبح شهادة الميلاد الفنية لمطربة اسمها... نجاة الصغيرة. ولا ننسى ولا تنسى هي بليغ حمدي الذي ربما تكون زوادته الاغزر بين حقائبها الفنية، وايضاً محمد الموجي الذي غنت له ما صار نشيدا للحب والمحبين: "عيون القلب سهرانة ما بتنمشي.. وانا رمشي ما داق النوم...". ماذا عن الشاعر كامل الشناوي، الذي قيل انه كتب اجمل قصائده هياماً بها "لا تكذبي... انا صنعتك من هواي ومن جنوني وقد بُرئت من الهوى ومن الجنون"، كتبها لها كما يقال وغنتها له كما لم تغنّ قصيدة من قبل. ربما تحتفظ نجاة بكثير من الاسرار عن علاقتها بالشاعر الذي كان يعشق عشق المرأة اكثر من المرأة. لكنها لم تفصح ولا مرة. الارجح انها لن تفعل ولا مرة. لكنها ستظل بالتأكيد وفية. ونجاة تتعبد ايضاً... بصمت ولا تسيّر ردود فعلها مع ما يتطلبه العوام. اولئك الذين عابوا عليها ان تغني وهي لم تكد تخلع عنها اسود الحداد على الموت الملغوز لاختها سعاد حسني. في تلك الحفلة تحديداً كانت نجاة تصلّي لروح زوزو. تغنّجها، تهدهدها، تراها، تغني لها ومعها كما كانتا تفعلان طفلتين. ولم يعرف احد. لم يسمع احد. وحدها كانت تعرف. "لنفترق أحبابا.. فالطير في كل موسم، تفارق الهضابا... والشمس يا حبيبي، تكون احلى عندما تحاول الغيابا". لم "نسألها الرحيلا" ولا مرة. لم نكن لنتجرأ. لكن نجاة قررت. ارادات ان تظل الشمس التي تكون في غيابها احلى. ارادت ان تتوارى واصداء هتافات الآلاف على مدرجات قرطاج لم تزل الى العام الماضي تتردد في اذنيها... بصخب. ارادت ان يظل حبنا لها باقياً "على شعرنا، على اناملنا". ارادت ونظل مريديها وعشاقها، ويظل صبي صغير يشغله عن طلوع الفجر صوت شجي توصله لأذنيه سماعة تحجب الصوت عن اخوته النائمين... يظل يغني مع الصوت وتدمع له عينان مراهقتان: "نسي والله نسي، عنواني ومكاني ودق على باب تاني. يا خسارة نسي، والله نسي"!