محمد فريد أبو سعدة واحد من شعراء الجيل الذي يسمّيه هواة التصنيفات "العشرية" "جيل السبعينات" في مصر. وقد صدر له أخيراً ديوان جديد بعنوان "جليس لمحتضر" عن هيئة قصور الثقافة المصرية. عن هذا الديوان، ومجمل تجربة فريد أبو سعدة الشعرية هذا المقال: لخص معظم المتابعين حركة شعر السبعينات المصرية في الجماعتين المعروفتين "إضاءة 77" و"أصوات". وقد ضمّت الجماعة الأولى الشعراء: حسن طلب وجمال القصاص ورفعت سلام وكاتب هذه السطور ومحمود نسيم وماجد يوسف وأمجد ريان. وضمت الجماعة الثانية الشعراء: أحمد طه وعبدالمنعم رمضان ومحمد سليمان وعبدالمقصود عبدالكريم ومحمد عيد إبراهيم. وكان من نتائج هذا التحول في دائرتين مغلقتين - أو شبه مغلقتين - أن ظل شعراء حقيقيون مبدعون خارج الدائرتين، لا يكاد النقاد يحسبونهم ضمن الحركة الفاعلة لشعراء السبعينات في مصر. من هؤلاء الشعراء، محمد صالح وفاروق خلف وعبدالعظيم ناجي وصلاح اللقاني ومحمد فريد أبو سعدة. على رغم أن الأخيرين انضما الى جماعة "إضاءة" في عودتها الثانية عام 1997، قبل أن تتوقف نهائياً. ولكن أولئك الشعراء قاوموا العزل خارج الدائرتين، بل كوّنوا دوائرهم الإبداعية التي فرضت نفسها في الساحة الشعرية، بجهدهم المتواصل وبتنوع عطائهم الشعري وتجدده، في الوقت الذي لم تمنح خيمتا الدائرتين شرعية شعرية لبعض الشعراء المتوسطين الذين انضووا تحت عباءة الجماعات الشعرية المسلحة. يمكن تقسيم تجربة فريد أبو سعدة إلى ثلاث مراحل واضحة: الأولى تضم دواوينه: وردة للطواسين، السفر إلى منابت الأنهار، الغزالة تقفز في النار، وردة القيظ. والثانية تضم ديواني: ذاكرة الوعل، طائر الكحول. والثالثة تضم ديواني: مُعلقة بشص، جليس لمحتضر. اتسمت المرحلة الأولى بطابع غنائي جلي، وبلمسة صوفية بادية، وبحضور بعض روائح تجربة شعر الستينات المصرية، وبرومانتيكية الالتحام بعناصر الطبيعة، في وزن تفعيلي نابض ما يتضح من عناوين الدواوين. واتسمت المرحلة الثانية بطابع تجريدي ظاهر يؤكده عنوانا الديوانين: ذاكرة الوعل، طائر الكحول، وبكثافة الإحالات الثقافية والمرجعيات المعرفية، وبطغيان النزع المجازي الذهني، في مزيج بين الوزن والنثر. واتسمت المرحلة الثالثة بالتوجه الكامل إلى قصيدة النثر، بما ينطوي عليه ذلك التوجه من ابتعاد عن البلاغة التقليدية والغنائية العلنية، ومن تركيز على اليومي والصغير والمسكوت عنه والعادي. وعلى رغم التقسيم السابق، فإن الفواصل بين المراحل الثلاث ليست فواصل قاطعة. فالواقع أن كل مرحلة فيها لمحة من سابقتها ومن لاحقتها. الأمر الذي يشي بأن الانتقالات بين المراحل الفنية لدى الشاعر هي انتقالات طبيعية لتطور شعري صحي. ظل الطابع الصوفي الذي وسم المرحلة الأولى ملاصقاً للمرحلة الثانية، مع تغير في حجمه وفي طبيعته، إذ غدا خفياً وخفيفاً من ناحية، وصار ثقافياً - لا وجدانياً كما كان - من ناحية ثانية. وأصبح ذا مسحة واقعية حداثية من ناحية ثالثة. كل ذلك يعني أن علاقة الشاعر بالصوفية مرت بلحظتين أساسيتين: الأولى هي التقمص والتماهي والذوبان في التجربة الصوفية نفسياً وعاطفياً وروحياً، والثانية هي الاستقلال والتفاصيل مع تسخير القدرات اللغوية والاسلوبية والذوقية الصوفية في إنتاج نصوص شعرية معاصرة، في ما يمكن أن نسميه "صوفية حديثة". وقد تجلّت هذه العلاقة المركبة المتطورة نفسها - في الانتاج الأخير للشاعر - عبر حالين: الأولى هي مسرحية شعرية بعنوان "ليلة السهروردي الأخيرة" تدور حول المتصوف العربي المعروف ومأساته مع الدولة الأيوبية، في سياق فني وفكري يعمد إلى "تحديث" الموقف الصوفي والجمالي، وإلى "عصرنة" الصراع الاجتماعي بين الجمود والتحرر، بما يجعل النص المسرحي مساهمة راهنة في معركة راهنة. والثانية هي إفراده قطعة من قطع "جليس لمحتضر" للسهروردي، باعتباره أحد جلساء المحتضر أو أحد محتضري الجليس. تتجسد في "جليس لمحتضر" جملة من الخصائص الجمالية والفكرية ومنها: أ - السرد، حيث يتيح القناع الذي اقترحه الشاعر المحتضر المتكلم إلى جليسه مساحة كبيرة ومنتظرة للحكي والتداعي والتحدث بطريقة منسابة تختلط فيها الوقائع بالذاكرة والحقائق بالتوهمات والحكمة بالهلوسة. ب - رصد وقائع الحياة اليومية الصغيرة، التي تنطوي على معانٍ غير صغيرة، كأن الشاعر يقدم مصداقاً لمقولة النقد العربي القديم "إن البلاغة هي تعظيم الأشياء الحقيرة، أو تحقير الأشياء العظيمة". في مثل هذا الرصد يبتعد الشاعر عن الكلام الكبير والصور الفخمة والتراجيديا الثقيلة والعاطفية المفرطة. ج - الاعتماد على المفارقة المتهكمة، كوسيلة بارزة من وسائل تحقيق صبغة درامية للنص الشعري، لا سيما أن النص الشعري النثري ترك وراءه - من البدء - عناصر عدة، ما يوفر الطاقة الدرامية التقليدية، كالوزن والصور المجازية، والتصاعد الوصفي التراتبي. ومن ثم فإن المفارقة - هنا - تقوم بدور موسيقي بديل، يوازي الدور الذي يؤديه التحكم في نزع الميلودراما عن التجربة. د - الميل إلى تصوير المهمشين في الحياة لا الأساسيين فيها. ولذا فإن "جليس لمحتضر" هو شعر تنعقد البطولة فيه للمنسيين لا للمذكورين، وللعاديين لا المميزين، وللكومبارس لا للفتى الأول. وهو ما يتبدى جلياً حين نجده يقول: "أنا الكومبارس العتيد/ الذي عاش أكثر من حياته/ والتقى بكل الشخصيات/ حتى التي لم توجد قط/ .../ لن أسمح بهذا العبث أبداً/ إذ كيف أتمدد كجثة طوال العرض/ حتى لو كان كل شيء/ كما يقول المؤلف/ ليس إلا أخيلة تمر برأسي/ .../ لن تجوز عليّ حيلة كهذه/ فما الذي يحدث/ لو أنني فاجأت الجميع/ بالدخول في النص/ سعيداً بارتباك الابطال أمامي/ وبالشتائم التي تأتي من خلف الكواليس". والمهمشون لا يقتصرون على الكومبارس، بل يشملون كذلك المعوقين والبهاليل وأصحاب العاهات والمنحرفين. هؤلاء هم "نجوم" النص عند أبي سعدة، الأمر الذي يعني اضمحلال شعر "الفضلاء". ه - معالجة القضايا الكبرى والقيم الاجتماعية الرفيعة ما كان يسمى في عقود سابقة بمفهوم الالتزام معالجات بسيطة من خلال مداخل جديدة غير مكرورة، مع تخلص من التقريرية الزاعقة، وتناول يغادر "الثقل" إلى "الخفة"، عبر مسحة من السخرية الجارحة. إن مثل هذه القطعة تقبل، بلا ريب، تأويلنا إياها على أنها مرثية جيل كامل، على رغم الطابع الذاتي الفردي الذي تنطلق منه. فهي تنعى تبدد أحلامه وتعثر قيمه، وتنعى خسارة المراهنات التي شرع بها من قبل. وهذا نعي يذكرنا بقصيدة حجازي الشهيرة "مرثية للعمر الجميل" وقد جسد فيها محنة جيله الذي سلم للزعيم الحلم والمستقبل، فضاع الحلم والمستقبل والزعيم جميعاً. وهنا يضفي أبو سعدة بعض السخرية على مأساته ومأساة جيله، حين يصف تلك المراهنات بأنها كانت نوعاً من "الخيانة" المضحكة. يقدم شعر "جليس لمحتضر" والديوان السابق: "مُعلقة بشص"، إجابات صحية عن بعض الأسئلة التى تثار حالياً في الحوار الدائر حول قصيدة النثر. من هذه الإجابات أن قصيدة النثر ليست هي فقط النص الذي يخلو من الوزن، بل هي أوسع وأعمق من ذلك المفهوم الضيق. ومنها أن قصيدة النثر تحقق موسيقاها من "توتر" الزمن، لا من "تواتره". ومنها أن الكتابة الشعرية الجديدة لا تهجر "المجاز" هجراً مطلقاً، وإنما هي تهجر المجاز التقليدي البلاغي اللغوي القديم. ومنها أن النصوص الراهنة، في نماذجها الطيبة، لا تزدري اللغة السليمة كما يفعل بعض الشباب، ولا تقدسها كما يفعل بعض الكهول، إنما هي تعرف اللغة معرفة حسنة لكي تستطيع أن تتجاوزها، وأن تفتتها شذرات معاصرة. ومنها أن الشعر لا يمكنه أن "يطلّق" القضايا الكبرى طلاقاً بائناً، وإنما يمكنه أن يعدل المدخل إليها أو المنظور الذي يرصدها أو يفككها إلى قضايا صغيرة وثانوية أو عابرة، على نحو ما يتجلى في مقطع بائع الفخاخ العجوز الذي تنهد حزيناً لأن أحداً لم يعد يشتري الفخاخ، على رغم أن جده استطاع بها أن يمسك في ليلة واحدة بثلاثة من العفاريت وتركها تبكي معلقة على بابه كالخفافيش. وهو المقطع الذي أرى فيه - ضمن ما أرى - تصويراً لفعل آلة الزمن، وللمأساة التي يحملها تغير العصور وتطور الحياة لبعض الفئات التي تعتاش على ثبات الماضي وديمومة أساطيره المظلمة. كل شعر جميل لا يخلو من ثغرات طفيفة. ولذلك فإنني ألاحظ ثلاثة مزالق وقع فيها ديوان "جليس لمحتضر": الأول: هو تسرب بعض النثرية والثرثرة في ثنايا بعض النصوص. وإذا كان المحتضر معذوراً في أن يثرثر، فالشاعر ليس معذوراً. ليس على المحتضر حرج، بينما على المبدع كل الحرج. الثاني: هو تلكؤ بعض مفردات الحسم والقطع من مثل: قط، فقط، أيضاً، جداً، بالتأكيد، تماماً... في كتابة شعرية هي بطبيعتها ضد الحسم والقطع، الأمر الذي ينطوي على تناقض داخلي مبين، يحمل - ضمن ما يحمل - معنى انعدام ثقة الشاعر في أن جُملته واصلة مشبعة مكتملة، من دون هذه المفردات التأكيدية الجازمة الزائدة، فضلاً عن معنى انعدام الثقة في إدراك القارئ للدلالة من دون التأكيدات المتوالية. الثالث: هو غرام الشاعر - وكثيرين من شعراء الكتابة الجديدة - "ببعثرة" جمل النص على الصفحة البيضاء في سطور تضم كلمة واحدة أو حرف جر أو حرف عطف. وهي طريقة - في ظني - تسيء إلى النصوص نفسها، لأنها تقطع أوصال الجملة أو المعنى أو الصورة، وتهشم الاتصال والتواصل بين الكلمات وبعضها وبين الكلمات والقارئ. وفوق ذلك، فإنها تدل على فهم خارجي غير عميق لمبدأ تحقيق "التوتر"، أو لمبدأ تحقيق "التشظي"، فالتوتر والتشظي يتحصلان من قلب بنية النص وصُلبه، لا من الالتجاء إلى مثل هذه "الرسوم التوضيحية".