Raja Shehadeh. Strangers in the House. أغراب في البيت. Profile Books. 238 pages. لم تكن أوسلو معاهدة سلام، بل كانت اتفاقاً على مواصلة التفاوض. ورغم ان موقّعيها كانوا سياسيين فهي في جوهرها وثيقة قانونية. وكان المحامي في مجال حقوق الانسان رجاء شحادة، الفلسطيني من الضفة الغربية، مستشارا للوفد التفاوضي الفلسطيني لمدة سنة، قبل ان يستقيل في 1992. واعتبر ان قيادة منظمة التحرير من موقعها خارج الأراضي المحتلة لم تقدّر مدى تأثير المستوطنات اليهودية، وان ذلك، مع جهلها بالقانون والجغرافيا، فشّل أوسلو. ويقدم كتاب "أغراب في البيت"، رغم اسلوبه الشعري في السرد وتوقفه عند أواخر الثمانينات، خلفية بالغة الأهمية لهذا الفشل. فالمتوقع في أدبيات الاحتلال ان تلقي باللوم على الغير. لكن كتاب شحادة يبين كيف أن الفلسطينيين أنفسهم شاركوا في صنع مأساتهم. في 1948 غادرت اسرة شحادة يافا، حيث كان والده عزيز محاميا بارزا، وامتلكت جدته فندقا. وذهبت الأسرة الى رام الله، حيث منزل الجدة الصيفي، معتبرة ان القتال سينتهي خلال اسبوعين تعود بعدها الى يافا. لكن أفراد الأسرة قضوا بقية حياتهم في رام الله. وفي تلك الليالي كانوا يرون من مرتفعاتها أضواء يافا تتلألأ على الساحل، في مشهد يثير لديهم أشد الحزن. وعندما طلب عزيز من صديق يهودي اصطحابه الى هناك، فوجيء بأنها كانت أضواء تل أبيب، فيما صارت يافا بمثابة نصب تذكاري يتداعى في الظلام، وكأنها رمز لنفسية الفلسطينيين. ففي الوقت الذي كان الفلسطينيون ينعون حياتهم السابقة، كان الاسرائيليون ينشطون لبناء حياة جديدة مشرقة لأنفسهم. تدرب عزيز، والد رجاء، على المحاماة أثناءالانتداب البريطاني، ووجد نفسه في رام الله يعمل ضمن نظام القضاء الأردني الأبسط بكثير. وولد نجله رجاء في 1951، وكان طفلا ضعيف الجسم محكوما بأمه المتوترة الأعصاب. ويصف رجاء مشهدا آخر رآه والده من تلال رام الله وهو يبرع في توظيف المشاهد الطبيعية لفلسطين أثناء حرب 1967. فقد لاحظ عزيز أن النيران تأتي من جانب واحد، هو الاسرائيلي، أي أن الدول العربية تعود الى سياسة التخلي عن الفلسطينيين. وكان رد فعله الفوري اطلاق دعوة تنطوي على الكثير من الخطر، اذ أصبح أول المنادين بحل يتمثل في اقامة "دولتين"، وهو الاقتراح الذي تجاهله الكنيست. وحين كان رجاء طالبا في جامعة بيرزيت كان يسمع يوميا التهديدات توجّه الى حياة أبيه من اذاعة منظمة التحرير في دمشق. وفي مرحلة لاحقة، عندما درس في جامعة بيروت الأميركية، كتب الى عزيز رسائل مؤثرة محاولا فتح حوار معه. وأحزنه ان ردود عزيز اقتصرت على ملاحظات عاجلة كان يمليها على سكرتيرته. ويحتل هذا الفشل في اقامة علاقة عميقة مع الأب، اضافة الى عدم تمكن رجاء من متابعة المهنة التي كان يريد، قلب كتابه. وكان وقتها أغرم بأعمال الروائي الايرلندي جيمس جويس، وتطلع الى التأليف الروائي بل أكمل بالفعل رواية أولى. لكن ضغوطا عائلية حولته الى دراسة القانون في لندن ثم العودة الى العمل في مكتب والده في رام الله. لكن تفاهما في العمق مع الأب بقي بعيد المنال. موضوع القانون، أو بالأحرى افتقار الفلسطينيين الى ثقافة قانونية متطورة، وهو ما كان له نتائج مدمرة في مفاوضات أوسلو أو طابا، ينتظم كتاب "أغراب في البيت" ويعطيه قوته. وكان الاضراب الذي التزمته نقابة المحامين الفلسطينيين اثر حرب الأيام الستة واستمر 30 سنة، ترك الفلسطينيين تحت رحمة القضاة الذين عيّنهم الاسرائيليون أو الأوامر العسكرية الاسرائيلية. وكان أمام المحامين الحديثي التخرج خيار: الاضراب، وبالتالي التوقف عن العمل، أو مزاولة المهنة خارج النقابة، مثلما كان وضع والد شحادة المطرود لمدى الحياة من النقابة. وعندما بدأ ولده رجاء، بالاشتراك مع جوناثان كتّاب وشارل شماس، مشروع "القانون في خدمة الانسان"، وهو أول مركز مهني يختص بالقضايا السياسية، وتطور لاحقا الى منظمة "الحق"، شعر الوالد بخطر مضاعف. فهو يتعرض أصلا لعداء منظمة التحرير، وهاهم الاسرائيليون يلاحقونه الآن بسبب نشاط ولده العنيد. وأصبح رجاء شحادة واحدا من تلك القلة من المحامين الفلسطينيين الذين يترافعون أمام المحاكم العسكرية الاسرائيلية دفاعا عن السجناء المتعرضين للتعذيب. كما قام بتنظيم أول فهرس للأوامر العسكرية في الأراضي المحتلة. واعتمدت تلك الأوامر على خليط معقد من قوانين الانتداب البريطاني والأردن والدولة العثمانية، بهدف واحد هو سرقة أكثر ما يمكن من أراضي الفلسطينيين في شكل "شرعي". وجاءت الهزة الأكبر له عندما أدرك ان 93 في المئة من أراضي اسرائيل تعود الى الملكية العامة. وعند بداية الاحتلال كان ثلث أراضي الضفة الغربية مملوكا رسميا من قبل الفلسطينيين، الا ان سلطات الاحتلال، ثم السلطة المدنية بعد كامب ديفيد، استولت على كل الأراضي المهملة أو غير المستعملة، فيما أصبح الفلسطينيون بمثابة مقيمين غير شرعيين. فلا عجب، إذاً، في التشرذم الذي تبينه الخرائط الحالية لغزة والضفة الغربية. والمفارقة أن "الأغراب" في بيت شحادة لم يكونوا فقط من اليهود. فقد قُتل عزيز، والد رجاء، في 1985. وبعد تحقيقات طويلة وعقيمة قامت بها الشرطة الاسرائيلية قال محام يهودي لرجاء أن القتلة كانوا مجموعة من الفلسطينيين المشتبكين في قضية خلاف على أراض، وانهم معتقلون في قضية قتل أخرى. وعندما حاول رجاء التحقق من هذه المعلومات أكد له الضابط المسؤول عن السجن انهم لم يعترفوا بقتل والده. ولم يُسمح له أبدا بمقابلتهم لأنهم كانوا في سجن مخصص لحماية المتعاونين مع اسرائيل. والواضح ان معرفة الذات في ظروف كهذه لا تعطي الكثير من العزاء. في "أغراب في البيت" يصل المحامي شحادة الى مرحلة النضج كمؤلف مكّنته مقدرته أن يتجنب، من جهة، الانغلاق الذاتي الذي يتسم به الأدب الحداثي، ومن الثانية ذلك التخلي عن العواطف في كتابة تقريرية عن تحدٍ وجهه اليه زمنه. من هنا جاء نصه الذي ينتمي الى صنف المذكرات والذي لم يُستخدم كفاية في الأدب الفلسطيني. واذا كانت مذكرات ادوارد سعيد "خارج المكان" أبلغ صياغةً، فان رحلة سعيد تأخذه الى خارج الشرق الأوسط، فيما نقطة القوة عند شحادة تصميمه واسرته على البقاء مكانهم.