كتبت غير مرة منتقداً الدكتور جوناثان ساكس، كبير حاخامات بريطانيا، لأنه لا يكتفي بالسكوت عن جرائم الحكومة الاسرائىلية، بل يدافع عنها، مع انه رجل دين يفترض فيه ان يغلّب الجانب الانساني على الولاء العرقي او المذهبي. لذلك فوجئت بعد ان عدت الى لندن من سفر ان اجد الدكتور ساكس متهماً بمهاجمة اسرائىل، وهناك في اوساط اليمين من يطالب برأسه. القصة بدأت في جريدة "الغارديان" في 27 من الشهر الماضي، ولا تزال تتفاعل حتى اليوم، فالصحافي جوناثان فريدلاند اجرى مقابلة مع كبير الحاخامات اطلقت الضجة التالية. قرأت المقابلة الطويلة سطراً سطراً، وعدت اليها، ثم قرأت مقالاً كتبه كبير الحاخامات، ووجدت انتقاداً محدوداً جداً لاسرائىل لا يستحق اي ضجة. الحاخام ساكس عاد في سؤال عن الاحتلال الى التوراة وقولها: "لا تسئ معاملة غريب اي غير اسرائىلي وتضطهده لأنك كنت غريباً في ارض مصر". ويضيف انه لا يستطيع تجاهل امر ورد 36 مرة في الكتب الموسوية هو "انت نفيت لتعرف شعور المنفي". فريدلاند يقول ان هذه العبارة ستغير بعض اليهود والاسرائىليين، من دون ان يشرح سبب الثورة المنتظرة طالما ان الدكتور ساكس يستشهد بالدين اليهودي. ويحاول الصحافي استدراج كبير الحاخامات الا ان هذا يرفض المضي في الكلام، ويختار ان يتحدث عن معسكر السلام الاسرائىلي الذي يقوم بخطوة الى الأمام فيعطلها الفلسطينيون بقتل مزيد من المدنيين. ولكن ما رأي الرجل في قتل الجيش الاسرائىلي 14 مدنياً فلسطينياً، نصفهم من الاطفال في اسبوع؟ المقابلة أُجريت قبل الجرائم الاخيرة، والدكتور ساكس يقول ان حكومة باراك قدمت "قفزة نوعية" لم يتجاوب معها الفلسطينيون بخطوة مقابلة. ارجو ان يكون الدكتور ساكس مخطئاً او مضللاً، فهو رجل دين لن يكذب نيابة عن اسرائىل، والواقع ان ما قدم باراك جيد الا انه اقل كثيراً من الانسحاب المطلوب من الاراضي المحتلة بما فيها القدسالشرقية. والدليل القاطع على ذلك ان الرئىس كلينتون قدم للفلسطينيين في نهاية السنة نفسها عرضاً افضل، ما يعني انهم كانوا مصيبين برفض العرض السابق. الدكتور ساكس يقول بعد ذلك بأن تصرف اسرائىل "سبب له الألم". ويضيف: "حدثت اشياء على اساس يومي تجعلني غير مرتاح كيهودي". وقد صدمه ان يتصور جنود اسرائىليون حول جثة قتيل فلسطيني، وهم يبتسمون. ويزيد كبير الحاخامات: "بالتأكيد ان هذا النزاع الطويل الامد، مع غياب الامل، يخلق عداوات، ويبلد الاحساس، وهو في المدى الطويل يفسد اخلاقياً...". ما سبق انتقاد الا انه دون حجم جرائم حكومة شارون، والدكتور ساكس في النهاية يدافع عن يهوديته اكثر مما ينتقد اسرائىل، فما يقول هو ان اليهود يرفضون هذا النوع من الممارسات التي لا يدينها صراحة، وانما يجدها تؤلمه او تحرجه. وعندما يسأل فريدلاند الدكتور ساكس مباشرة عن الاحتلال لا يرد صراحة، وانما يقول انه بعد حرب 1967 كان رأيه ان تنسحب اسرائىل من الاراضي المحتلة، ورأي ابيه ان جيران اسرائىل لن يقبلوا بها ابداً ولو انسحبت. ويزيد: "كنا، الاثنان، مصيبين". ثم يرفض الايضاح على رغم إلحاح فريدلاند. بصراحة وصدق، وبما عندي من موضوعية، لم أجد في كلام الدكتور ساكس شيئاً ذا قيمة، فانتقاده اسرائىل المزعوم محدود جداً، وجرائم حكومة شارون من مستوى نازي، ورئىس وزراء اسرائىل يجب ان يقدم الى محكمة جرائم الحرب في لاهاي، قبل سلوبودان ميلوشيفيتش. على كل حال الدكتور ساكس كان اصدق مع نفسه من انصاره، فهو بعد الضجة التي أثارها كلامه بعث برسالة الى نظيره الاسرائىلي اسرائيل لاو قال فيها انه كان ضحية اثارة صحافية، وأعرب عن أسفه. وزاد: "ان كل من قرأ مقال الغارديان يجد فيه اقوى دفاع عن اسرائىل... اقوى دفاع نشرته هذه الصحيفة". لكن اليمين الاسرائىلي طالب باستقالته من موقع ارتكاب هذا اليمين الجرائم ضد الفلسطينيين واصراره على ان يتستر عليها يهود العالم، وهو ما لن يحدث لأن بعض هؤلاء يؤيد الفلسطينيين وقضيتهم بشجاعة اكبر مما أبدى الدكتور ساكس. مع ذلك، "الغارديان" كتبت افتتاحية عن شجاعة كبير الحاخامات، و"الديلي تلغراف" الصهيونية قالت بالحرف العريض انه يهاجم اسرائىل، و"جيروزاليم بوست" التي تملكها "التلغراف" خصصت صفحة بريد القراء كلها لمهاجمة الدكتور والمطالبة باستقالته. فريدلاند كتب بعد ذلك مقالاً يدعو فيه اليسار اليهودي الى الانتصار لكبير الحاخامات، غير ان موقف اليسار هذا معروف، فقد انتقد باستمرار فشل الدكتور ساكس في إكمال رسالة سلفه ايمانويل جاكوبفيتس الذي دعا الى تنازلات في الارض للفلسطينيين قبل ان يصبح الموضوع "موضة" ومطروحاً على مائدة المفاوضات. ومع تقديري لرجال الدين جميعاً، ومع ادراكي وجوب احترامهم دائماً، فإنني ارى ان الدكتور ساكس لم ينتقد اسرائىل الا ضمن اضيق حدود، وهو لا يزال مقصراً في موقفه العام من اسرائىل. وربما كان سبب الضجة كلها ان كبير الحاخامات يريد الترويج لكتابه الجديد "كرامة الاختلاف: كيف نتجنب صراع الحضارات" وقد قرأت عنه اشياء طيبة الا انني لن اعلق عليه حتى اقرأه بنفسي.