التغييرات العراقية المرتقبة والمحتملة في الفترة المقبلة ستكون نوعية بالنسبة الى المسألة الكردية عموماً، التي اخذت ترتدي ابعاداً اقليمية ودولية مؤثرة. ولن يكون اقلها واقع الفيديرالية المحتملة في العراق، والقائمة بالفعل من طرف واحد. والبعد الآخر يتمثل في الفهم الجديد الذي شرعت السياسة التركية تعلنه، بعد الاصلاحات المزعومة في شأن رفع الحظر عن اللغة الكردية وثقافتها. ومعلوم ان "دولة صدام" كانت قد انجزت، منذ زمن ليس بقريب نسبياً، ما هو اعمق من ذلك بكثير، وحققته في خانة الاعتراف الدستوري بالقومية الكردية كثاني قومية في العراق، وفي الاعتراف بنوع من الحكم الذاتي الشكلي. والاصلاحات التي تفاخر بها دولة اتاتورك الجديدة تبدو ضئىلة بالقياس الى ما سبق، ولا معنى لها اذا اخذنا في الحسبان الابعاد السكانية الواسعة للمسألة الكردستانية في تركيا. وتركيا ما بعد اجاويد تعد نفسها بحماسة للدخول الى الوحدة الاوروبية، وتُمني نفسها متوهمة ان ما حققته للأكراد لم يأت بمثله اي نظام سياسي آخر، وتصر على ان نجاحها، على هذا الصعيد، يؤهلها لا لتكون وصية على تركمانها الاعزاء في العراق فحسب وإنما على اقليم كردستان العراق بكامله كذلك. ويعزز هذا الرأي تصريحات وزير الدفاع التركي صلاح الدين جقماق اوغلو - من الحزب القومي المتطرف في 21/8، اذ اعاد التأكيد على الاطماع التركية في كامل كردستان العراق او ولاية الموصل، مذكراً بالميثاق الوطني التركي عام 1920، الذي نسفته الدول المنتصرة وقتئذ. وهذا الميثاق الذي يكرس المصالح التركية في شمال العراق، ويقر بوصايتها على ولاية الموصل. وزعم جقماق اوغلو، ان تركيا حريصة على حماية الكرد والتركمان معاً من اي اعتداء، وان شمال العراق امانة في عنق تركيا. ولا شك في ان وراء هذا الفهم جيلاً من الساسة الاتراك رفعوا شعار "طريق تركيا الى اوروبا يمر بديار بكر". لقد قامت فكرتهم عن مستقبل تركيا الجديدة وأوروبا الموحدة على اساس الربط بين نجاحهم الاوروبي وموقفهم من المسألة الكردية. وأدركوا انهم لو اصروا على تقاليد السياسة الطورانية في تركيا، فلا يمكن لهم ان يأملوا في الانخراط في اوروبا الموحدة. وهذه خيبة عميقة لهم ولمصالحهم. والرُّهاب المستديم الذي لازم السياسة التركية حدث في نتيجة الكبت التاريخي الذي مارسه القوميون الطورانيون مع بدايات تأسيس الدولة في حق القوميات التي كانت في تركة الرجل المريض، لا سيما الكرد والارمن، انطلاقاً من تجربة نشأة الدولة القاسية، بعدما استباحت الدول المنتصرة تركة الرجل المريض. وورثت الدولة التركية الحديثة هذا الشعور في ممارساتها السياسية. وتُرجم هذا الخوف ممارسات عنيفة، وردود فعل كان من اعراضها التدمير الشامل والتهجير القسري، والمجازر في حق الارمن والكرد، خصوصاً في العشرينات والثلاثينات والثمانينات من القرن المنصرم. والرد الكردي كان سريعاً ومباشراً. فهدد الحزب الديموقراطي الكردستاني، في 21/8، بتحويل كردستان "الى مقبرة جديدة" في حال اقدم الجيش التركي على غزوه بهدف اقتطاعه. والحس السياسي المسؤول الذي تتحلى به قيادة الحزب الديموقراطي الكردستاني، كان على الدوام حزام امان لوحدة اراضي العراق. وأي تقسيم للعراق، من هذا القبيل، ينبغي رفضه، ليس من منطلق المداهنات الاخلاقية المجردة وإنما من واقع المصلحة القومية للكرد ومستقبل قضيتهم. وهذا ما تدركه جيداً القيادة الكردية. إن عراقاً قوياً يتكافأ فيه الكرد والعرب والبقية سواء بسواء، في الحقوق والواجبات والادوار، هو افضل بما لا يقارن من كردستان ضعيفة في الوقت الراهن، تتهددها على الدوام الرغبات غير الطيبة للدول المجاورة، ومعرضة للاغتصاب في كل آن. ان عراقاً عادلاً وديموقراطياً - فيديرالياً يتعزز فيه دور الكرد سياسياً واجتماعياً ويترسخ، يحتمل ان يكون في المستقبل القريب قاعدة صلبة للحركة القومية الكردستانية. وهذا ما ترقبه تركيا بوجل وتخشاه وتحاول قدر طاقتها ان تنسف امكانات تحققه. فحال الخوف المستمر والمزمن الذي يعتري سياساتها ازاء المتغيرات التي تهدد حياتها بالخطر، كما تتوهم تركيا، يدفعها الى سلوكيات قهرية، ليست إلا وسائل ذاتية تصدرها الذات خارجاً عنها وتسقطها على الآخر. انه رد فعل يعكس فشلها الداخلي المزمن في حل القضية القومية للكرد في تركيا واقعياً. فهل من المنطقي ان تجد حلها خارجاً بالجنوح الى مغامرة ما؟ هذا هو المخرج الذي يتسلط على عقول الساسة الاتراك في الوقت الراهن. سورية - سربست نبي كاتب كردي