كانت الساعة قاربت الثالثة بعد الظهر، في مكتب البريد. دخل العامل في البنك الأهلي يحمل حقيبة يد سوداء، لونها باهت، ملأى بالخطابات المرسلة للعملاء وغيرهم. عاجلته احدى الموظفات بمكتب البريد: "أهلاً؟ أنت فين؟ كلما أسأل عنك، يقولو واخد اجازة علشان ابن بنتك، بتحبه خالص! هو كان عنده ايه"؟ لم يكن مصغياً اليها تماماً. ولكنه سمع ما قالته وأوجعه؟ كان مشغولاً بختم الخطابات بخاتم البريد، مساعدة منه لموظفة البريد. فقال وقد اعتراه شعور مؤلم بالذكرى الحزينة: "كان عنده شوية سخونية، دخل المستشفى الساعة الخامسة صباحاً، وكانت حرارته 40 درجة". وسكت. فقالت الموظفة اللجوجة: "ان شاء الله صحته عال دلوقت؟ فقال في حزن بالغ، وقد جفت الدموع في عينيه: الله يرحمه! بقى... كان زي القمر... عيون ايه! شعر إيه! حلاوة ايه! الله يرحمه! ما كملش تسعة أشهر". فقالت الموظفة وقد أدركت انها قد نكأت جرحاً عميقاً في نفسه: - البقية في حياتك! الله يصبر قلب أمه! قال الجد الحزين، وهو يضع الختامة جانباً، ويرص الخطابات التي ختمها بحسب تسلسلها الرقمي أمام الموظفة التي يقف أمامها: - "بنتي الله يصبرها، ويعوض عليها! كان نفسها يكون له صورة، لكن مالوش ولا صورة". ساد الصمت فوق الرؤوس وبعد برهة، خرج الرجل من مكتب البريد يحمل حقيبته الباهت لونها خالية من الرسائل التي تخلص منها. كان قلبه يرتعش في صدره كلما تذكر حفيده، ملامحه، صورته في خياله. كان يحس كأن ثقلاً ثقيلاً كالحجر، كالجبل، يربض على قلبه. قال في نفسه: "ليتك يا ابنتي قمت بتصويره ولو صورة واحدة"! المحلة الكبرى مصر - عبدالمنعم حسن صالح