ملف العراق له جذور في "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة" والتي باتت تُعرف بعقيدة بوش، على رغم ملامح الصاقها استعارة بالرئيس جورج دبليو بوش، ووضوح هويات أصحاب هذه العقيدة. فالرئيس دبليو ورث هذه العقيدة من أقطاب إدارة أبيه جورج بوش وقبلها إدارة رونالد ريغان، لكنه متقبل لمثل هذا المنطق، وفي صميمه اندفاع نحو هيمنة القيادة الأم على العالم باسم "الخير" في مقابل "الشر"... انطلاقاً من قناعاته الدينية المتأصلة. ومساوئ هذه العقيدة ليست في إصرار أميركا على التفوق والاحتفاظ بموقع الدولة العظمى الوحيدة في العالم، فهذا من حقها، وهو في مصلحة العالم لو كانت مرتبة العظمة على غير أساس الغطرسة وتحقير الآخرين. افرازات هذه العقيدة ليست خطيرة على النظام الدولي وشعوب الدول المستبعدة من الحظيرة الأميركية فحسب، بل خطيرة أيضاً على شخصية الولاياتالمتحدة ومستقبل نظرة ومعاملة الشعوب الأخرى للمواطنين الأميركيين. لذلك، ليس فقط من مصلحة بقية العالم التدقيق في هذه العقيدة وابراز المعارضة لبعض عناصرها، بل من مصلحة المواطن الأميركي أيضاً أن يتفحص ما فيها، وأن يعارض ما من شأنه أن يجعله منبوذاً ومكروهاً، في زمن غطرسة العظمة. هذه العقيدة تسجل ولادة مبدأ العمليات العسكرية الوقائية، على أنقاض مبدأي الاحتواء والردع اللذين شكلا أساساً سابقاً للاستراتيجية الأميركية. وهي تقوم على ركيزة عدم السماح لأي دولة بأن تنافس الولاياتالمتحدة على العظمة والتفوق، وعدم السماح ببروز أي قوة عسكرية مناوئة. وتؤكد هذه العقيدة الرغبة في تجنيد الدعم الدولي لمواقف واشنطن وسياساتها وقراراتها، لكنها تشدد على أن أميركا لن تتردد في التصرف بمفردها إذا كان ذلك ضرورياً لممارسة "حق الدفاع عن النفس" عبر العمل بطريقة "وقائية". ان تقرر الولاياتالمتحدة أنها لن تسمح لأي دولة بمنافستها على مرتبة الدولة العظمى الوحيدة في العالم، أمر منطقي يجب ألا يثير الاستغراب أو الاحتجاج. بعضهم يريد أن يصف ذلك بالعقيدة "الامبريالية"، لكن في هذا الموقف حسداً وغيرة ونقمة. فمنذ متى تخلت دولة عظمى أو امبراطورية عن تميزها وتفوقها؟ ولماذا يُيستغرب سعي الولاياتالمتحدة إلى الاحتفاظ بمرتبة العظمة بمفردها؟ فهذه ليست المشكلة كمبدأ، بل تكمن المشكلة في طيات تنفيذ القرار، وفي ما يرافقه لجهة زعم الإدارة الأميركية حق واشنطن في عمليات وقائية، وكذلك ما يتضمنه من شطب لمسؤوليات القيادة العالمية في يومنا هذا. وتكمن المشكلة أيضاً في تبني مبدأ الوقائية لدول أخرى أقل عظمة إنما ذات قوة، وأخرى قوية نسبياً أمام منافسها الضعيف، من أجل فرض "أجندا" تلو الأخرى باسم "الدفاع عن النفس"، لتبديد خطر آتٍ، بصرف النظر عما إذا كان حقيقياً أو مصطنعاً. قد يصعب توقع أن تكرس إدارة جورج بوش جهودها لمبدأ "بناء الأمة" والذي يعني تقديم المساعدات بكل أنواعها للدول المنهارة، أو لمبدأ "التدخل الإنساني" حيث يتم التدخل في دول أخرى لانقاذها. فهذان مبدآن سجل بوش رغبته في الابتعاد عنهما، وهما يتطلبان الشراكة الدولية التي يريد الرئيس الأميركي تصنيفها وتقنينها في خانة ماذا تقرر أميركا لا ما يرتأيه العالم. فما تنطوي عليه العقيدة في الصميم هو تدمير النظام العالمي القائم لإعادة بنائه كما ترتأي الإدارة الأميركية. الولاياتالمتحدة تدرس منذ الحرب الباردة ما هو الدور الذي تريده لنفسها بعد انهيار ثنائية القطبين الأساسيين، الاتحاد السوفياتي وأميركا، وهي خاضت أكثر من معركة مع نفسها وضمن صفوفها قبل أن يتبنى جورج دبليو بوش العقيدة التي بدأ في صوغها كل من نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفوويتز ووزير الخارجية كولن باول، وذلك اواخر الثمانينات وأوائل التسعينات وخلالها، في عهدي رونالد ريغان وجورج بوش الأب. مرت فترات في الماضي القريب حين قررت أميركا الانسحاب من الساحة الدولية، والتقوقع في أولوياتها الداخلية، فوقع اللوم عليها تارة، وتارة أخرى توسلت إليها الدول الأخرى كي تلعب دور القيادة لأنها الدولة العظمى الوحيدة في العالم. وللتأكيد، القيادة الأميركية مرغوبة جداً لدى الأكثرية العالمية. فالخلاف ليس على القيادة بل على القيادة بهيمنة وتفرد وبمستوى جديد من الغطرسة والاستهتار وتحقير الآخرين، عندما تقترن القيادة بزعم الحق في اتخاذ القرار الانفرادي بتوجيه ضربات وقائية. والتشديد هنا هو على القرار "الانفرادي"، ففي بعض الظروف تتوافر أرضية لإجماع دولي على عمل وقائي لا سيما ضد المنظمات الإرهابية. وهناك من يدعو إلى مبدأ الوقائية في مواجهة أخطار من نوع آخر، مثل خطر الفقر ووضع استراتيجية تنمية وقائية. وثيقة "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة" تتضمن توصيات في شأن مكافحة الفقر، واعتباره خطراً عالمياً يجب استدراكه. كما تتضمن التشديد على مبادئ الحرية وقيم المجتمع الحر، وتؤكد أن الولاياتالمتحدة التي تمتلك "قوة ونفوذاً في العالم لا مثيل لهما"، عليها استخدامهما لتعزيز "توازن القوة الذي يدعم الحرية". فهذه العقيدة لا ترتكز كلياً إلى معالجة الأخطار الأمنية والعسكرية، لكن ما تحتويه لجهة التصدي لهذه الأخطار والتي تنطلق في الوثيقة من الإرهاب وامتلاك أسلحة الدمار الشامل، هو الذي دق ناقوس الخطر. بادئ الأمر، ان قيادة عالم اليوم يُفترض أن تكون أكثر حرصاً على العمل الجماعي، لكن أميركا تظهر اليوم وكأنها تفرض "باكس - أميركانا" بهيمنة العصور الماضية. وثانياً، في البيت الأبيض رئيس يبسّط الأمور والأفعال والناس من خلال تصنيفها بين "شر" و"خير"، بمنطق ديني لم يحدث أن سيطر على عاطفة أي رئيس أميركي وفكره. وثالثاً، في صفوف الإدارة الأميركية مَن ينتمي إلى عقيدة التطرف، ومن ينطلق من هوس بملفات شغلته لعقود، مثل وولفوويتز المعروف بولائه العميق لإسرائيل، وبغضه الشديد للأنظمة العربية، وعلى رأسها نظام الرئيس صدام حسين. هذه الأمور مجتمعة هي التي تدب الرعب في العمق العربي، لكنها أيضاً تدب الرعب في العمق الدولي، لأنها تنطوي على مبدأ ونمط، وتضع القرار في أيدي أصحاب هوس بملف أو بعقيدة. وفي غياب التشاور الدولي والشراكة الحضارية، يخيّم شبح الاملاء بغطرسة، من دون شفافية أو محاسبة، وبخطورة. ثم أن الوقائية، في مثل هذه الظروف والأذهان، قد يُساء توظيفها لأهداف لا علاقة لها بالخطر المزعوم، تدخل في حسابات سياسية لأحزاب أو أفراد.، وهذا لا يقتصر على الساحة الأميركية، إذ أن الصين وروسيا قد تختارانها، كل لغاية في نفس يعقوب. وإسرائيل أو باكستان قد تراها في مصلحة "أجندا" ضيقة، إذ سبق لعديد من الدول، بينها إسرائيل وتركيا وإيران، أن أخذت على عاتقها مسؤولية نسف خطر قبل حدوثه، وبررت عبورها الحدود إلى دولة مجاورة باسم الوقائية. ولأن عقيدة بوش المستعارة تتطلب التدقيق في فكر وعاطفة الرجال الذين وضعوا أسسها، لن تتسع هذه الزاوية لذلك البحث الضروري. لكن التمييز بين مساهمة باول في صنعها وبين فكر وأسباب تبني تشيني ورامسفيلد ووولفوويتز لها في محله. باول انطلق من ضرورة تفرّد أميركا بالعظمة، وتقوية المؤسسة العسكرية فيها، وإن تطلب ذلك الظهور بمظهر "الولد الشقي في الحي". رامسفيلد انطلق من اقتناع بأن أميركا يجب أن تحكم، وأنها هي المؤهلة لحكم العالم. تشيني المحور والكاتب الرئيسي عبر السنوات لهذه العقيدة بحسب ديفيد ارمسترونغ في مجلة "هاربر"، انطلق من ضرورة الحفاظ على تفوق أميركا وحمايتها من المنافسة، ومن ضرورة املائها "الأجندا" الدولية والعالمية، النفطية والعسكرية والاقتصادية. أما وولفوويتز فانطلق من عدم الثقة بأي شيء آخر، والكراهية للأنظمة العربية، والهوس بإسرائيل، واقتناعه بسبب اصراره وصبره بأنه صاحب نظريات لا مصير لها سوى أن تصبح سياسة... وهي أصبحت كذلك بالفعل. أصبحت سياسة أميركا وعقيدتها من دون استشارة الأميركيين، ومن دون نقاش ضروري بينهم ليقرروا هل هذا خيارهم. أميركا الشعبية اعتدات على وضع أمور السياسة الخارجية في أيدي الحكومة والسياسيين، إما بخيار شعبي وإما بتدريب مؤسساتي لهذا الشعب على ألا يبالي بهذه الأمور. كان ذلك شبه معقول قبل تفعيل عقيدة أولئك الرجال، لتصبح استراتيجية الولاياتالمتحدة. أما الآن، فإن العبء على الأميركي المواطن والتحدي له ليخرج من قوقعته أو اعتزاله السياسة الخارجية، كي يساهم في صنع القرارات. فهذا حقه بموجب الدستور واعتناقه الديموقراطية، وهذه مسؤوليته لأن الحروب التي تسوّقها تلك العقيدة ستكلفه غالياً، بدماء تهدر في المعارك، وبنكسة جذرية للشخصية الأميركية ولتعامل العالم معها. حتى الآن، الاحتجاج العالمي على أميركا ليس بسبب الشخصية أو الثقافة أو الحضارة الأميركية، بل هو غضب واحتجاج وكراهية للسياسات الأميركية في بعض الأحيان. وحتى إذا كانت هناك تيارات أو مجموعات تطرّف، تكره الرفاهية الأميركية أو الحرية الأميركية أو الثقافة الأميركية التي تعتبرها "فاجرة"، فإن الأكثرية في العالم تحتج على سياسة أميركا لا على شخصيتها. أما إذا أخذت عقيدة بوش مجراها لتصبح سياسة الولاياتالمتحدة، فالغضب والكراهية قد يتحولان إلى الفرد الأميركي. هذا الفرد الذي اعتُبر "جاهلاً" أو "صاخباً"، اعتبر في الوقت ذاته "لطيفاً" و"مدهشاً". فإذا أصبح مواطن في الدولة المهيمنة، المتغطرسة المترفعة عن التشاور، العازمة على تقنين العظمة في الفكر العسكري المتطرف، والتي تزدري الآخرين، قد تكون ردود الفعل نحوه أسوأ استثمار لهذه العقيدة. فهي ستجلب له الكراهية في العمق، وكراهية للشخصية الأميركية. والخوف ليس فقط من زج الفرد الأميركي في حصن وعزلة، بل أيضاً من صد أبواب العالم في وجهه، بعدما كان ضيفاً مرحباً به. وبقية العالم ستخسر كثيراً أيضاً نتيجة قطع الوصال مع "الأميركي". فالأميركيون ليسوا فقط السياح الذين تريد كل دولة أن تكون محطة لهم. إنهم شعب منظّم، مدرّب، متعلم، متخصص، ومتفوق في كثير من المجالات العلمية. وفي نهاية المطاف، شعب حصيلة الشعوب. فلديه من الكفاءات ما يُدهش ومن الاطمئنان ما يريح. والاختلاط مع الأميركي، إذا اقترن بالرغبة في التعرف إلى الشخصية الأميركية مفيد جداً في تجربة بقية العالم، لا سيما ذلك الجزء منه القابع تحت سوط السلطوية والارتهان. لذلك، تلك العقيدة تسلب الأميركي والراغب في التعرف إليه لذة التجربة. تسلبهما حاجتهما الأساسية وهي الرغبة في تعايش سلمي والعيش اللذيذ. أما ضحايا النزعة الانتقامية التي تأخذ شكل الضربات الوقائية، فقد يصبحون أولياء تطرّف الغد. ففي صميم العقيدة طيات من الجهل أو التجاهل لرغبة الأكثرية العالمية في الاعتدال والعيش في مسرّة. وبين افرازات هذه العقيدة وعواقبها نسف تلك الرغبة وإثارة الاحباط وقوداً للتطرف العميق.