انطوى مشروع الحداثة الاجتماعية، وهو لا ينفصل عن عصر التنوير، على مقولات كثيرة، من بينها مقولة متميزة هي: النخبة الثقافية، التي حظيت بتأويلات متعددة. فهي، في المقام الأول، الحيّز الرفيع الذي يتحرك فيه "قادة الفكر"، بلغة طه حسين، الذين ينهضون ب"العامة"، ويعلمونها القراءة والكتابة والنقد والحسبان الصحيح. وهي، في تأويل آخر، فئة قليلة تمتلك المعرفة واللغة الصعبة ونزوعاً الى الهيمنة والسلطان، تميل الى السلطة، أو تميل السلطة اليها، محتفظة، في الحالين، بمسافة متجددة عن "العامة". وقد رأى البعض فيها شراً خالصاً، ونسب اليها استبداد السلطة وآثامها، لأنها المرجع الفكري الأعلى، الذي استولد "حداثات سياسية" مستبدة. وجاء زمن "ما بعد الحداثة" وحل المسألة، ملغياً "النخبة" ومستبقياً نقيضاً غريباً يدعى: "الجمهور". وواقع الأمر ان مفهوم "النخبة الثقافية"، في معناه العميق، لا يرد الى السلطة، بصيغة الجمع أو المفرد، ولا يحيل الى احتكار المعرفة ولغة الاختصاص، ذلك انه يرد الى مرجع معين قديم يدعى ب"اليوتوبيا"، أو المدينة الفاضلة، التي يضطرب فيها بشر لا فروق بينهم. انه تلك العلاقة الأخلاقية الغامضة بين الحلم والمعرفة، إذ الإنسان في أرض سعيدة غير مسبوقة، وإذ المعرفة مهندس خلاق، يستصلح الأرض ويملؤها وروداً. ولعل هذا الحلم، الذي يفصح عن شغف بإصلاح العالم، هو الذي قال بإلغاء المسافة بين العمل اليدوي والعمل الذهني، وبثقافة جديدة يصوغها "المثقفون الكبار" وينقحها بسطاء البشر، واقتنع بأن جميع البشر فلاسفة وأن جميع الناس حكماء. وكان على المثقف، المسكون بوحدة السياسة والثقافة، أن يعثر على مجازة الطوباوي، الذي يحول الأفكار الى وقائع سعيدة والوقائع الى أفكار صحيحة. وعن هذا المجاز، الذي اجتهد فيه كثيرون، صدرت هالة الجامعة وفتنة القومية وحقيقة الطبقة العاملة، وصدرت أيضاً صورة العلم المجردة، حيث العلم يحوّل العالم تحويلاً متواصلاً، ويوزع الخيرات المتوالدة على الجميع، من دون تمييز ولا فروق. وعلى رغم انتساب النخبة الثقافية الى اليوتوبيا، أي الى لا مكان بالمعنى الحرفي للكلمة، فقد انتسبت الى النخبة سلطات متعددة، بأشكال مختلفة ولأغراض متعددة. كأن تبحث عن الشرعية أو الهيبة، مكتفية بالشكلاني الفج ومبتعدة عن الجوهري. ولم يكن غريباً، في حال السلطات المستبدة، أن يتحول النص الأخلاقي الكبير الى كاريكاتير رخيص، أو أن يتم الانتماء الى فكر والغاء مؤسسيه، كما لو كانت "النظرية" ذريعة موقتة، تستقدمها السلطة وتطردها حين تشاء. وواقع الأمر ان استعمال الأفكار وطردها سؤال سلطوي بامتياز، لا علاقة له ب"يوتوبيا المثقفين"، التي تستمر في الأزمنة جميعاً، ما قبل الحداثة وما بعدها في آن. يوتوبيا ضرورية، قديمة متناتجة، وإن كان زمن "ما بعد الحداثة" يكشف عن جماليتها المتعبة، وعن حلم الإنسان الأسيان، الذي يولد ويحبو ثم يأكله الحريق. في مقابل ثقافة اليوتوبيا جاء زمن ما بعد الحداثة ب: ثقافة الإعلان. وإذا كانت الثقافة الأولى تبدأ بالإنسان وتنتهي به، وترى فيه طاقة مبدعة تروض ما شاءت ترويضه، فإن الثقافة الجديدة، وهي صناعة هائلة قوامها الوسائل السمعية - البصرية، تلغي الإنسان قبل أن تعترف به... وفي الفضائيات المتكاثرة وقنواتها ما يشرح منهج هذه الثقافة وأدواتها وأهدافها المنتظرة. ونقطة البداية، في شكلها الأكثر بساطة، هو: مبدأ التكرار، الذي يجعل من قول المذيع الأنيق حقيقة، ومن المذيع حقيقة أنيقة، كما لو كان التكرار مبتدأ الحقيقة، ومن ينطق به حقيقة أولى لا تقبل النكران. ولعل صورة المذيع، الذي احتكر الحقيقة في صندوقه الجميل، هي التي تستولد من "مثقف الإعلان" مذيعاً آخر، يحاكيه في الحركات وصياغة القول، كأن الثقافة إعلان و"المثقف" معلن وإعلان في آن. والى جانب مبدأ التكرار، الذي يحول التلفزيون الى كتاب صادق كبير، يأتي اقصاء الموضوع والاحتفاظ باسمه، طالما ان ماهية الموضوع تساوي اعلانه، وتعادل طبقات اللون والصوت التي خلقته. ولهذا يغدو "مفكر الإعلان"، كما الأديب والفنان والفيلسوف، هو المفكر الحقيقي، الذي برهن عن حقيقته بدور "المذيع" الذي قام به... وعندها لن يحتاج المبدع، كي يحقق ذاته، الى النقد والحوار ومقابلة الجمهور، بل يحتاج الى الإعلان ومحاكاة المنهج الإعلاني. فكما أن الإعلان المتكرر عن سلعة معينة يزيد من اقبال المستهلكين عليها، فإن ظهور المثقف المتكرر في وسائل الإعلان، يزيده شهرة ويؤكد قيمته الإبداعية، ويجعله إعلاناً ناجحاً بين الإعلانات الأخرى. هكذا، يتعين الإعلان معياراً للحقيقة، و"المبدع الإعلاني" مبدعاً كبيراً، تأتي الصورة وتذهب، وتقول ما أرادت ان تقوله، مخلِّفة في ذاكرة الجمهور "اسماً كبيراً"، شهد الإعلان على أهميته، من دون ان يقرأ أحد ما كتب، ومن دون ان يعرف الجمهور من أين جاء. إنه اعلان مخلوق آخر، يستمد أهميته من التكرار والصورة ومقدم البرنامج وزمن البث ومدته، أي من جملة من العناصر مستقلة عنه ولا علاقة لها به. ان صنمية الإعلان هي التي همشت جملة من "الممارسات الحداثية"، وفرضت مكانها ممارسات مغايرة تلوذ بتعبير أنيق هو: ما بعد الحداثة. لذا يكون طبيعياً أن ينحسر الحوار الثقافي الجاد وأن يتهمش النقد والثقافة الجادة، وأن تتراءى "ثقافة النخبة" إرثاً قديماً، لا يعرفه البعض، وينظر اليه ما تبقى بإشفاق كبير، لأن زمنه قضى وانقضى واندثر في الأزمنة المنقضية. تحيل ثقافة اليوتوبيا وثقافة الإعلان الى زمنين مختلفين، والى فروق أخرى كثيرة. فبعد ان كانت الثقافة الأولى ترد الى السلطة، أو تشير السلطة اليها، أصبحت الثقافة الثانية سليطة بامتياز. فهي لا تحتاج الى الثقافة، لأنها وحدها تنتج وتوزع وتسلّع الثقافة. إنها الثقافة الطاغية بامتياز. وهي لا تحتاج الى المثقفين، فهي تصنعهم، وتذيع أسماءهم حتى لو كانت هامشية. انها كبير المثقفين، الذي ينتظر الملايين قوله، ويرون في قوله حقيقة. مثقف عجيب، تسنده القوة والسلطة والشهرة، تحرر من عبء القراءة وثقل النظريات واكتفى بسحر الألوان وهالة الضوء وسطوة التكرار. اليوتوبيا هي اللامكان، وثقافة اليوتوبيا هي الرحيل عن المكان القديم المألوف، بأمراضه التي لا تنتهي، الى مكان مجهول، يقصده الحلم ويمضي اليه الأمل وترى اليه الرغبات المقهورة. أما ثقافة الإعلان فشيء آخر، إنها تلك الثقافة البسيطة السهلة التي لا تعقيد فيها ولا رحيل، لأن مدينتها الفاضلة قائمة في الإعلان الجميل، الذي يصل الى "الجمهور" يومياً، من دون ان يغادر مكانه.