أدى الاسلوب الذي انتهى اليه "المؤتمر الوطني للحريات" الذي عقد بدعوة من نقابتي الصحافة والمحررين اول من امس في دار نقابة الصحافة، الى انكشاف الازمة السياسية التي نجمت عن إقفال السلطة محطة "ام تي في" التلفزيونية المعارضة، بدلاً من ان تؤدي الى تحجيمها. ويرى قطب سياسي فاعل انه مع نجاح أركان السلطة، والموالين لها من النواب والوزراء الذين حضروا المؤتمر في تحقيق الغلبة فيه فإن عوامل الازمة بقيت قائمة في شكل ينتظر أن يتفاعل في المرحلة المقبلة بوضوح اكثر، خصوصاً ان بعض جوانبها لا بد من ان ينعكس على مؤسسات السلطة نفسها، او في الحياة السياسية، سواء لدى الموالين أم لدى المعارضين، اضافة الى الوضع الاعلامي. ويشير القطب السياسي الى ان السلطة والموالين "حققوا نقطة لمصلحتهم من دون شك، بتعطيلهم مقدرة المعارضة على تجييش المؤتمر لاستصدار موقف احتجاجي على خطوة اقفال المحطة، فاستطاعوا تأمين اجماع على التراجع عن اي خطوات اعتراضية، عبر حصر التحرك بالمراجعات القضائية التي تتولاها نقابتا الصحافة والمحررين ومسؤولو الاعلام المرئي والمسموع، من دون اللجوء الى تحركات ضاغطة". الا ان القطب نفسه يعتقد ان "السعي الى عدم تسييس القضية - وهو ما ركّز عليه الموالون والسلطة - لم يمنع ظهور مدى "سياسية" المشكلة الناجمة عن اقفال "ام تي في" والتراكمات التي سبقتها، في العلاقة بين المعارضة والسلطة. بل ان الشجار الذي حصل بين نقيب المحامين ريمون شديد والنائب ناصر قنديل، والصراخ المفتعل الذي تلاه من الموالين المتسلحين بالأكثرية التي كانت الى جانبهم، كان دليلاً الى عمق التأزم السياسي الذي بدلاً من ان يتفجر في الشارع، تفجر في نقابة الصحافة". ويعتقد القطب السياسي الفاعل ان الجهد الذي بذلته السلطة لكبت الازمة لم يتطلب الكثير من العناء، في ما يخص مؤتمر الحريات، اذ سبقته مظاهر عدة من هذا القبيل، اهمها امتناع مجلس الوزراء غداة قرار الاقفال عن بحث الامر وغياب رئىس المجلس النيابي نبيه بري الكامل عن التعليق على الامر والارتباك الذي اصاب رئىس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط في التعليق على الاقفال بين ترك امر معالجته للقضاء وبين الموافقة على استنكاف وزرائه عن حضور جلسة مجلس الوزراء وبين اعتباره ان الحكومة والمعني هنا السلطة السياسية "لا تستطيع ان تتراجع" عن الاقفال وانكفاء المعارضة عن المشاركة في مؤتمر الحريات وتبرير "اللقاء الوطني الاسلامي" بقيادة مفتي طرابلس الشيخ طه الصابونجي دعوته الى التظاهر في وجه التظاهرة التي كانت قوى عدة دعت اليها امس الثلثاء، بالموقف السياسي ل"لقاء قرنة شهوان". ويرى القطب ان كل هذه المظاهر الهادفة الى كبت الازمة تحمل في طياتها عوامل الازمة نفسها. وما يجمع بين هذه المظاهر وغيرها خيط واحد هو سعي الافرقاء المعنيين الى تفادي الخلاف مع رئىس الجمهورية اميل لحود. وتعدد اوساط سياسية موالية ومعارضة عوامل الازمة كالآتي: 1- ان البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير الذي قال في عظته الاحد الماضي ان خلافاً بين اخوين يقصد ميشال المر الموالي وغبريال المر صاحب "ام تي في" ابدى استياءه مما يحصل، وقال امام زواره ان "كل التفاعلات التي تشهدها البلاد تحتاج الى لملمة عبر العودة عن قرار اقفال ام تي في". ونقل الزوار عن صفير قوله: "هل هذا وقت قرار من هذا النوع فيما جميعنا يتحدث عن المخاطر الاقليمية التي تحدق بنا؟" وسأل البطريرك: "اذا كانت مصادفة ان يعلن قرار اقفال "ام تي في" في اليوم نفسه لصدور بيان مجلس المطارنة الموارنة؟". صفير واللملمة كما خرج زوار البطريرك بانطباع انه يدعو الى العقلانية من الجميع وان المطلوب لملمة الوضع الداخلي بدل اخذه نحو التصعيد السياسي، خصوصاً ان بيان مجلس المطارنة صيغ بهذه الذهنية يذكر ان البيان انتقد تسخير القضاء لأهداف سياسية وغياب المحاسبة السياسية. وأكد على الموقف من السيادة والاستقلال وتصحيح العلاقة مع سورية من دون استخدام كلمة الانسحاب السوري. ويرتب موقف البطريرك هذا على السلطة والموالين ان يتعاطى معه انطلاقاً من مدى الاستعداد لفتح الخطوط معه، ما دام يدعو الى لملمة الوضع. فهل سيعامل من السلطة مثل "لقاء قرنة شهوان" الذي اعتبر الحوار مع رئىس الجمهورية بلا جدوى ام يستفاد من الهامش الذي تمثله دعوته هذه الى اعادة وصل ما قطع؟ فالخطوات التصعيدية الاحتجاجية التي كان المعارضون قرروا القيام بها وأجلت تنتظر معرفة مدى استعداد السلطة لملاقاة المعترضين، من جهة، ومدى مقدرة الموالين والمسلمين على التحرك للمساعدة على ايجاد مخرج من الوضع الحالي. 2- ان ملف الاعلام، وخصوصاً المرئي والمسموع، مطروح على طاولة مجلس الوزراء منذ اشهر، وهناك استحقاق يقضي بمناقشة تقرير طلبه المجلس من وزير الاعلام غازي العريضي، استناداً الى قرار اتخذه في الحادي عشر من تموز يوليو الماضي، يقضي بالبدء في تطبيق القانون على الاعلام المرئي والمسموع، بعد ان كانت الحماية السياسية لبعض وسائله، حالت دون ذلك في السابق، وبتعديل - بعض المواد في القانون من اجل خفض الرسوم على المؤسسات المرخصة... الخ. وفي تلك الجلسة اتفق على البدء بمحاسبة هذه المؤسسات من دون انتقائية او استنساب. وهو ما تسبب بالخلاف بين العريضي وبعض السلطة حين أحيلت "ام تي في" على القضاء بحجة مخالفتها المادة 68 المتعلقة بالاعلان الانتخابي في قانون الانتخابات في حزيران يونيو اثناء انتخابات المتن، والذي اتخذ قرار اقفالها استناداً اليها الاربعاء الماضي. وفي وقت تبذل الجهود لابقاء قضيتي "ام تي في" و"ال بي سي" محصورتين بالقضاء، فإن استحقاق الخامس عشر من ايلول سبتمبر الجاري لن يجنب السلطة التنفيذية ان تبحث الموضوع في سياق بحثها الملف الاعلامي ككل. فقد تجنب مجلس الوزراء الامر الاسبوع الماضي. كما ان لقاء اول من امس بين الرئىس لحود ورئىس الحكومة رفيق الحريري لم يأت على ذكره اطلاقاً، على رغم التفاعلات السياسية التي تركها على صعيد مؤتمر الحريات وما شهده. فضلاً عن غياب اي مناقشة للمعالجة الممكنة لموضوع "ام تي في" مع اي من المعنيين من القوى السياسية، حتى التي راعت موقف السلطة. وترى مصادر وزارية ان تفادي المواجهة في مجلس الوزراء حول الملف الاعلامي لن يعفي كبار المسؤولين من التطرق اليه عاجلاً ام آجلاً، خصوصاً ان احد الاستحقاقات المتصلة بهذا الملف مطروح بالمعنى القانوني على مجلس الوزراء وهو تعيين اعضاء جدد للمجلس الوطني للاعلام الذين انتهت مدتهم قبل اسابيع... 3- يتصل بملف الاعلام هذا، الموقف من حضور، او عدم حضور، وزراء جنبلاط جلسة مجلس الوزراء المقررة غداً، ومن ضمنهم وزير الاعلام، المعني بهذا الملف. ولهذه القضية تشعبات عدة، في ظل عدم وضوح قرار جنبلاط نفسه، اذ ان كتلته النيابية التي اجتمعت امس لم تبحث الموقف من العودة عن الاستنكاف الذي مارسه الوزراء الثلاثة استنكاراً لاقفال "ام تي في". وفي وقت لا تستبعد اوساط سياسية عدة ان يتخذ جنبلاط قراراً بالحضور في اطار سياسته مهادنة السلطة، مع امكان استثناء العريضي من هذا الحضور، فإن عودة هؤلاء الى جلسات الحكومة سيكون محرجاً، اذا لم يتناول البحث موضوع الاعلام و"ام تي في" والتفاعلات السياسية التي خلّفها وأسباب الاستنكاف. مرجعية الإعلام وتقول مصادر واسعة الاطلاع ان استنكاف الوزراء الاسبوع الماضي كاد يؤدي الى ازمة، حين اعتبر بعض المحيطين بالحكم انه يفترض اعتبارهم مستقيلين، الا ان الرغبة في عدم اضافة ازمة وزارية الى الأزمة الاعلامية - السياسية ادت الى صرف النظر عن هذا الموقف. وعليه فإذا عاد الوزيران مروان حمادة وفؤاد السعد، ضمن تسوية ما، فإن عودة العريضي معهما يفترض ان تتم بعد الاجابة عن اسئلة كثيرة منها: بعد ان اعتبر العريضي اقفال "ام تي في" قراراً سياسياً، هل سيبقى على هذا الموقف داخل مجلس الوزراء؟ وأحد أسباب ما حصل كان نتيجة صراع خافت بين توجهين، الاول يحصر مرجعية التعاطي مع الاعلام بالوزير، والثاني يصر على ان تتعاطى معه المراجع الامنية، فانتصر الثاني باقفال "ام تي في"، فهل ان جنبلاط وبالتالي العريضي سيسلّم بهذه المرجعية، وماذا سيكون دور الوزير في الحكومة ومبرر وجوده فيها، اذا حصل هذا التسليم؟ 4- يغلب الحديث وسط عامة الناس عن ان اقفال "ام تي في" حصل نتيجة خلاف الاخوين المر، فيما تؤكد اوساط سياسية مختلفة الاتجاهات ومصادر رسمية متعددة، ان طعن ميشال المر بالوكالة عن ابنته ميرنا بنيابة شقيقه غبريال سيؤدي الى فسخ نيابة الاخير وانه في احسن الاحوال فإن الانتخابات الفرعية ستجرى في ظل استمرار اقفال المحطة، بينما تنشط الاتصالات التمهيدية لايجاد تسوية في هذه الانتخابات، في وقت ينسب الكثيرون تشدد "لقاء قرنة شهوان" تجاه الاقفال الى اهداف عدة بينها استنفار الجمهور المعارض من اجل خوض هذه الانتخابات منذ الآن. ويتردد انها قد تجرى بعد القمة الفرنكوفونية المنتظرة منتصف الشهر المقبل. وهذا يجعل الاعصاب مشدودة الى حينها. ولا يقف القطب السياسي الفاعل في تعداد عوامل التأزم السياسي المتصلة بقضية "ام تي في" عند هذا الحد، فلا يغفل حال الاستقطاب السياسي الطائفي التي ترافق التحركات المختلفة بين قوى متعارضة، وحال الانقسام الكامنة داخل كل فريق، نتيجة تضارب المصالح والمشارب، والوضع المحرج لنقابتي الصحافة والمحررين اللتين كانتا اول من امس مسرحاً لهذا الاستقطاب في اول سابقة من نوعها، في وقت تسعيان الى مخرج يؤمن عودة البث للمحطة...