على امل القضاء على "السرطان الفلسطيني" والحاق اسرائيل هزيمة عسكرية ومعنوية ساحقة بالفلسطينيين حسب تعبير رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد موشي يعالون، طورت المؤسسة السياسية الأمنية الإسرائيلية في الايام الاخيرة مواقفها واعمالها العدوانية في الضفة والقطاع وزادت في تدخلها في شؤون السلطة. ورفع الجيش وتيرة عمليات قتل المدنيين وابعادهم ونسف بيوتهم وباتت ظاهرة يومية، وارتفع معدل الشهداء من 2 - 3 في اليوم الواحد الى الضعف تقريبا. وقامت وحدات "المستعربين" والاستخبارات بأعمال مداهمة واعتقال واغتيال واسعة. كل ذلك جرى ويجري في ظل تفاهمات "غزة بيت لحم أولاً"، وحرص رئيس حزب العمل بن اليعيزر الزائف على تهدئة الاوضاع. ولم يسمع الفلسطينيون موقفا ولو باهتا يندد بهذه الاعمال، ولم يلمسوا موقفاً عربياً او دولياً يبعث الامل بوقف ما يجري ضدهم. وتجمع القوى الوطنية والاسلامية الفلسطينية - سلطة ومعارضة - على ان هذه الحال مرشحة للاستمرار طالما ظل اليمين الاسرائيلي بزعامة شارون يمسك بزمام الحكم في اسرائيل، وادارة بوش صامتة على الممارسات الاسرائيلية وتعتبر كافة اشكال النضال الفلسطيني المشروع ارهابا. وظلت مواقف دول الاتحاد الاوروبي وروسيا من النزاع ملحقة بالموقف الاميركي. وبقي النظام الرسمي العربي عاجزاً عن الحركة وعن رفع الصوت وليس السوط في وجه شارون، مغلباً مصالحه القطرية على المصالح القومية المشتركة. وعلى رغم اجماع القوى الوطنية والاسلامية الفلسطينية - سلطة ومعارضة - حول ذلك كله، واقرارها بأن السفينة الفلسطينية تقف مشلولة في بحر هائج وتواجه مأزقاً هو الأخطر منذ سنين، نرى قادة هذه القوى واركان السلطة يتخبطون في مواقفهم وبياناتهم اليومية. بعضهم يدعو الى وقف "العنف الفلسطيني" بما في ذلك استخدام الحجارة، وآخرون يعتبرون العمليات "الانتحارية" سلاحاً استراتيجياً. واركان في السلطة يرون في اتفاق "غزة بيت لحم أولاً" وتكثيف اللقاءات بالاسرائيليين، خشبة خلاص تمكن القيادة من الامساك بطرف حبل يحمي السفينة الفلسطينية من الغرق. وآخرون يدعون الى وقف هذه الاتصالات ويعتبرون اتفاق "غزة بيت لحم" خطأ جسيماً أفاد بن اليعيزر في معركته الانتخابية حول زعامة الحزب واضر بالفلسطينيين، وخلق انطباعا زائفاً بأن عملية السلام عادت الى مجراها والعلاقات في طريقها الى ما يرام. وهم لا يسألون أنفسهم ماذا بعد وقفها؟ ولم يحددوا شروط استئنافها، وأخشى ان يدفعهم الاحباط الى الدعوة لمقاطعة اميركا والدول الدائرة في فلكها. وخارج السلطة وليس بعيداً عنها، تخوض "القوى الوطنية والاسلامية" في غزة غمار حوار وطني شامل منذ اكثر من ثلاثة شهور...! بأمل الوصول الى "رؤية فلسطينية موحدة" توحد الطاقات وتخرج النظام السياسي الفلسطيني من المأزق الخانق الذي يقف فيه. والتدقيق في مجريات هذا الحوار ونتائجه يبين ان قادة هذه القوى غارقون في "نقاش بيزنطي" حول قضايا سياسية وحزبية "استراتيجية كبيرة"، لها ابعاد ايديولوجية ولا علاقة لها بما يجري على الارض ولا علاقة للناس في الضفة والقطاع بها من قريب او بعيد، وتأجيل الاتفاق حولها لا يؤخر ولا يقدم في عملية التحرير. وحالهم اشبه باميرال بحر فاشل طرح على بقايا قوته تسخين مياه المحيط للقضاء على غواصات معادية دمرت سفن اسطوله، وعند سؤاله كيف نسخن المحيط؟ قال هذه مهمة تفصيلية عليكم حلها. صحيح ان حوار غزة بحث قضايا مباشرة تهم الناس وتمس الوضع الراهن، وطرحت في اطاره افكار واقتراحات مفيدة تساعد على الخروج من المأزق، الا انها تبخرت بفعل سخونة البحث والتركيز على القضايا الاستراتيجية الكبيرة. واذا كان الحديث عن "رؤية" موحدة او مشتركة، يعني في علم السياسية تخلي او تجميد جميع الاطراف، بصورة مؤقتة، بعض مواقفها وتوجهاتها الفكرية والسياسية والنضالية لصالح برنامج مرحلي مشترك، فإن اصرار بعض القوى الوطنية والاسلامية على بلورة رؤية استراتيجية شاملة كاملة تنص على: "تحرير فلسطين من النهر الى البحر"، و"لا جدوى من المفاوضات"، و"الامبريالية الاميركية ليست راعيا نزيها بل طرفا متواطئاً مع العدو"، و"العمليات الانتحارية خيار استراتيجي ثابت لكنس الاحتلال"... الخ، من الشعارات الكبيرة الواردة في برامج ومواثيق هذه القوى، يجعل الرؤية الواقعية المفيدة هدفا بعيد المنال. ويشير الى أحد أمرين أو الى كليهما معاً، الاول ان هذه القوى لا تريد الالتزام في اطار واحد يجمعها مع احزاب السلطة. وتتصرف بعقلية ثارية انتقامية وتعتقد ان السلطة تعيش آخر ايامها بعد الضربات القوية التي تلقتها على يد شارون، وتتصور نفسها البديل الوحيد للسلطة وخير لها البقاء على البر من ركوب مركب يترنح. والثاني، انها اسيرة جمود عقائدي وتعيش في عالم آخر خيالي لا علاقة له بالاوضاع الجارية على الارض الفلسطينية، ولا بالظروف الدولية والاقليمية المحيطة بالفلسطينيين وقضيتهم. وبديهي القول ان "رؤية" تقوم على أسس ايديولوجية وتضفي صفة التطرف على الموقف الفلسطيني تضر ولا تفيد، ولن تكون صالحة لاستقطاب الرأي العام الفلسطيني وقد تزيد في احباطه، ولا يمكن ترويجها في الشارع الاسرائيلي وفي ميدان العمل السياسي الدولي والاقليمي، وقد تعقد وتعرقل الحركة السياسية الفلسطينية، وتقدم لمن يريد دليلاً مادياً على التطرف الفلسطيني والرغبة بتدمير اسرائيل. لا شك في ان المصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض على القوى الوطنية والاسلامية - سلطة ومعارضة - التوصل اليوم قبل غد الى "رؤية" واقعية. وبصرف النظر عن النوايا فإن التأخر في انجاز هذه المهمة المركزية زاد في حجم خسائر الفلسطينيين المادية والمعنوية ولا احد بريء من المسؤولية. ومواقف بعض قوى المعارضة داخل غرف الحوار وسلوكها على الارض لا يتناسب مع مقتضيات الاقرار بهذه الحاجة الوطنية الملحة. واصرارها على بلورة "رؤية استراتيجية" شاملة متكاملة يشير إلى ان الدوافع والاسباب التي حالت دون اتفاق السلطة والمعارضة على استراتيجية موحدة منذ توقيع اتفاق اوسلو عام 1993 وبعد انطلاق الانتفاضة لا تزال قائمة، ولا افق لتوصل الحوار الوطني الجاري الى رؤية واقعية مفيدة في هذه المرحلة. وان الوضع الداخلي سيبقى مرتبكا اذا استمر العمل وفق قاعدة التوافق والتراضي، وصيغة "اللعم" التي انتهجتها منظمة التحرير الفلسطنيية على مدى ثلاثة عقود من القرن الماضي في مخاطبة المجتمع الاسرائيلي والرأي العام الدولي. واخشى ان تستمر حال القهر والمعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وان يتدهور الوضع اكثر، خصوصاً اذا ظلت مواقف قوى النظام السياسي الفلسطيني - سلطة ومعارضة - على الارض وفي ميدان السياسة الدولية اسيرة قراءة غير واقعية لطبيعة المرحلة الجديدة التي انتقل اليها النضال الوطني بعد تولي اليمين الاسرائيلي بقيادة شارون سدة الحكم في اسرائيل في شباط فبراير 2001، وبعد احداث 11 ايلول سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك. واظن ان وقف الاتصالات واللقاءات مع الاسرائيليين لا يعالج المشكل والشيء ذاته ينطبق على بناء اوهام كبيرة عليها. لا جدال في ان الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة بحاجة ماسة في هذه المرحلة الى "رؤية" تتعاطى بواقعية مع هذه المتغيرات، والى خطة عملية تقلص حجم الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية التي تلحق بهم يوميا، ولا تتطلع الى جني ارباح ومراكمة امجاد وطنية او حزبية وشخصية، اذ لا افق في هذه المرحلة القاسية والمعقدة لتحقيق مكاسب خاصة او عامة طالما ظل اليمين الاسرائيلي ممسكاً بزمام الحكم في اسرائيل. والمطلوب من القوى الوطنية والاسلامية ليس التأكيد على عروبة فلسطين وتحرير النقب والمثلث والجليل، بل الامساك بالحلقة الرئيسية في سلسلة المهام الوطنية الكثيرة المطلوبة لاخراج الاحتلال من المدن والقرى والمخيمات ووقف عمليات التدمير الجارية لمقومات الدولة المستقلة. وثانيا، تحديد المهمة المركزية في عملية تصحيح واصلاح الوضع الداخلي الفلسطيني. وفي هذا السياق ارى ان اجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وبلدية يشارك فيها الجميع هي المهمة المركزية التي يجب ان يسعى الفلسطينيون لانتزاعها من الاحتلال، وقيمتها كبيرة لا تخفى على القوى الوطنية والاسلامية، بدءاً من تكريس الديموقراطية كناظم للعلاقات الوطنية وانتهاء بحشد الطاقات في مواجهة الاحتلال وانتزاع الاستقلال الكامل، وان فك التحالف القائم بين حزبي العمل وليكود هو الحلقة المركزية التي يجب الامساك بها عند صياغة الرؤية الفلسطينية، وتستحق تركيز الجهود وتسخير الطاقات الفلسطينية والعربية لانجازها. ولا مبالغة في القول ان سر استمرار شارون المتطرف في الحكم، وارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين من دون رقيب او حسيب، يكمن في نجاحه في تسخير طاقات وشبكة علاقات حزب العمل في تضليل الشارع الاسرائيلي واسكاته على الخراب الاقتصادي الامني الذي يلحق بالاسرائيليين، وايضاً التأثير في السياسة الاميركية والاوروبية. تدرك القوى الوطنية والاسلامية ان بقاء حزب العمل في حكومة شارون يعني توحد غالبية الشارع الاسرائيلي خلف هذه الحكومة ويعني غياب معارضة اسرائيلية قوية تتولى مهمة فضح مواقفه وممارساته. ويعني ايضاً توحد اللوبي الاسرائيلي في الكونغرس وفي المؤسسات الاميركية الاخرى، وشد البيت الابيض واركان الحكومة الاميركية والدول الاوروبية في اتجاه اسرائيلي واحد. وفك تحالف "العمل" مع ليكود يؤدي الى عكس ذلك كله، ويوفر للادارة الاميركية ودول الاتحاد الاوروبي وزعماء دول المنطقة، قاعدة شعبية وحزبية في اسرائيل تستند اليها في معارضة سياسة اليمين المتطرف بزعامة شارون. ووقائع الصراع في عهد نتانياهو شاهد حي على ذلك. وبديهي القول ان وقف العمليات الانتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين، وسحب ذريعة توفير الأمن للمواطنين يعجلان في تحقيق هذه المهمة، ويسقطان المبررات التي يسوقها بيريز وبن اليعيزر للاستمرار في حكومة المجازر التي يقودها شارون. كاتب فلسطيني.