يعود التسريب الاعلامي الى تقاليده الأميركية البالية، على رغم ان البنتاغون يخطط لحرب غير تقليدية، لا عسكرياً ولا سياسياً. ولعل طابعها هذا هو ما يثير الهواجس والاعتراضات عليها. من ذلك، مثلاً، ان "الخلية الاعلامية السرية" في البنتاغون تعتقد ان هناك حاجة الى حملة لجعل الرئيس العراقي مكروهاً في سياق تبرير الحرب المقبلة. وإذا كان الهدف هو الرأي العام الاميركي، فإن الحملة من قبيل لزوم ما لا يلزم لأن هذا الرأي العام لا يزال يؤيد حرباً لإطاحة صدام حسين، لكنه يشترط تعاوناً دولياً في هذه المهمة. وإذا كانت الحملة تستهدف الرأي العام الأوسع، فهنا ايضاً لا حاجة الى تسريبات من هذا النوع لأن أحداً لا يعارض الحرب انطلاقاً من دفاعه عن "السجل الديموقراطي" للنظام العراقي، بل ان المرفوض في هذه الحرب هو أهداف الولاياتالمتحدة - الأهداف الحقيقية لا المعلنة - ما يستتبع ان هناك حاجة ملحة الى حملة معاكسة لجعل الرئيس الاميركي محبوباً وموثوقاً به. يستعد الرئيس جورج بوش ل"تحدي" الأممالمتحدة، بمعنى انه سيقول للعالم انه ذاهب الى الحرب، "شاء من شاء وأبى من أبى"، و"اما معي أو مع صدام حسين". مرة اخرى، هذا طرح خاطئ، لكن أحداً لا يجرؤ على تعيير الوحش الكاسر بأن أنيابه مسوسة. فلا تأييد عالمياً للرئيس العراقي على "انجازاته" وممارساته ضد شعبه وجيرانه، لكن يتعذر ايضاً تأييد الرئيس الأميركي في انزلاقه الى ما تخططه "خلية الشر" المحيطة به. هذه هي الإشكالية التي يواجهها المجتمع الدولي من دون ان يكون قادراً فعلاً على حلها. فالحرب المزمعة لا تبدو ملتزمة أهدافها "الاخلاقية"، بل ان اصحابها يفترضون مسبقاً ان العالم مضطر لاستغباء ذاته فلا يدرك ان ابتلاع العراق ونفطه سيدشن مشروع الهيمنة الأميركية اقليمياً ودولياً. في تصريحاته الى جانب رئيس الوزراء البريطاني قبل يومين، عرض بوش العناوين: الكل يعرف ان لديه صدام أسلحة دمار، الكل يعرف انه سبق ان غزا دولتين مجاورتين، الكل يعرف انه استخدم سلاحاً كيماوياً ضد شعبه، الكل يعرف انه غير متزن... هذه عينة من الذرائع، ولا يمكن رفضها ظاهرياً، لكن بوش يستخدم يقين النسيان فيما هو يطالب المجتمع الدولي بأن يبصم على بياض موافقاً على الأهداف الأميركية المبطنة للحرب. لكن الكل يعرف ايضاً ان اسلحة الدمار توصل اليها النظام العراقي بغض نظر اميركي، والكل يعرف ان الولاياتالمتحدة ساندت صدام في غزو احدى الدولتين المجاورتين ايران، والكل يعرف انه اباد آلاف الأكراد والايرانيين بغاز الخردل بتغطية اميركية "تاريخية"، والكل يوافق على التشكيك باتزان صدام، لكن عندما يتحدث بوش عن الاتزان نصبح في موضوع آخر. المسألة تختصر بما قاله كولن باول، المؤيد "الجديد" للحرب، حين شدد على الحاجة الى نقاش دولي. ولا شك ان رفاق باول في ادارة بوش فكروا جيداً في هذه المسألة وتوصلوا الى ان مثل هذا النقاش سيكشف الأوراق وسيستدعي تفاهمات وصفقات، ولذلك فهو ليس "مصلحة اميركية". فكيف يمكن الولاياتالمتحدة اقناع الدول والحكومات بأنها ذاهبة الى حرب لتحقيق مصالحها على حساب الآخرين، وكيف تتوقع منهم ان يوافقوا؟ ما العمل اذاً؟ لم يبق سوى التكشير عن الأنياب. خطاب بوش في الأممالمتحدة سيكون نسخة عن الوقاحة التي اتسم بها خطابه الأخير عن الشرق الأوسط والمسألة الفلسطينية. سيستخدم "الايجابيات" لكنه سيغرقها في بحر من التحدي والغطرسة، مثلما استخدم "الايجابيات" لتبرير وحشية حليفه ارييل شارون وتغطية الاحتلال الاسرائيلي الجديد للمناطق الفلسطينية. من الواضح ان "صقور" الادارة لم يقوّموا جيداً انعكاسات السياسة الاميركية تجاه الفلسطينيين، ولعلهم يعتقدون ان العالم تقبل ما حصل بدليل انه لم يعرقله. لكن هذه نظرة ضيقة وسطحية الى نتائج ما حدث، تماماً كما هي النظرة الآنية الى مستقبل الهيمنة الاميركية انطلاقاً من العراق. فالكل يتمنى تغييراً في بغداد، وهذا لا يعني ان الكل يبارك العبث الاميركي بنسيج المنطقة.