تدور في أجواء الحرب على الارهاب التي تشنها ادارة الرئيس جورج بوش أفكار شمولية عن استراتيجية أميركية عالمية واعادة تشكيل عالم اليوم ذي القوة العظمى الواحدة. هذه الأفكار في غالبها تدعو الى استعمال احادي واستباقي، وحتى وقائي، للقوة، يمكن ان تسهّله التحالفات مع دول اخرى، لكنه في النهاية لا يعترف بقواعد ومقاييس المجتمع الدولي. وهناك نمط متطرف من هذه الأفكار يشكّل رؤية أمبريالية جديدة تعيّن فيها الولاياتالمتحدة نفسها مصدراً لترسيم القواعد الدولية وتحديد الأخطار المحتملة واستعمال القوة واقامة العدل. لكن ضرورات الحرب على الارهاب في أفغانستان والنقاش حول التدخل في العراق يطمس جذرية هذا التحدي الجيوسياسي. قام الخط الرئيسي في السياسة الخارجية الأميركية منذ أربعينات القرن الماضي على استراتيجيتين كبريين أدتا الى تشكّل النظام الدولي الحديث. الاستراتيجية الأولى كانت واقعية من حيث التوجه، ودارت على الاحتواء والردع وادامة توازن القوى. وكانت الولاياتالمتحدة، بعد 1945 وتزايد الخطر الذي مثّله الاتحاد السوفياتي التوسعي، تقدمت لملء الفراغ الذي تركه اضمحلال الامبراطورية البريطانية وانهيار النظام الأوروبي، وسعت الى موازنة قوة مع ستالين والجيش الأحمر. حجر الأساس في هذه الاستراتيجية كان مبدأ الاحتواء، أي السعي الى حرمان الاتحاد السوفياتي من القدرة على توسيع نفوذه. ثم انتهى عهد الاحتواء وتوازن القوى بانهيار الاتحاد السوفياتي في 1991 . ولم يعد النظام العالمي يعتمد على مبدأ الردع النووي، على رغم أن الأخير لم يختف بل تراجع الى الظل، ليشكل واحداً من عناصر الاستقرار في العلاقات بين الصينوروسيا والغرب. وعندما رشّح جورج بوش نفسه للانتخاب الرئاسي وصف نظرته للسياسة الخارجية بأنها تقوم على "الواقعية الجديدة"، أي أن تحويل أميركا عن التوجه الذي ساد خلال رئاستي بيل كلينتون، المتمثل بالسعي الى "بناء الدول" والاهتمام بمشاكل العالم الاجتماعية والاستعمال العشوائي للقوة، نحو سياسة جديدة تركز على العلاقات مع الدول الكبرى وتقوية القوات المسلحة الأميركية. وكان التعبير الأهم عن هذه الاستراتيجية الواقعية في شكلها الجديد مساعي بوش لدمج روسيا في النظام الأمني الغربي، وأيضاً تخفيف واشنطن من لهجتها الصدامية تجاه الصين. واعتبرت الاستراتيجية أن التزام الدول الرئيسية في أوروبا وآسيا "قواعداللعبة" سيضمن استقرار منظومة الدول الكبرى. يمكن القول من وجهة نظر معينة أن سبب الخلافات الحالية بين الولاياتالمتحدة وأوروبا أن الأخيرة ليست قوة كبرى، أو على الاقل انها لا تريد لعب هذا الدور. الاستراتيجية الكبرى الثانية التي تشكلت خلال الحرب العالمية الثانية كانت ليبرالية التوجه وخططت الولاياتالمتحدة من خلالها اعادة هيكلة الاقتصاد العالمي، وسعت الى اقامة نظام يمأسس العلاقات السياسية بين ديموقراطيات بأسواق حرة مفتوحة على الخارج. هذه الاستراتيجية لم تكن وليدة تطلعات رجال الاعمال والاقتصاديين الأميركيين فحسب، بل كان لها دوماً أهداف جيوسياسة أيضاً. ففيما كان هدف الاستراتيجية الواقعية موازنة قوة الاتحاد السوفياتي، هدفت الاستراتيجية الليبرالية الى تجنب العودة الى ثلاثينات القرن الماضي، التي حفلت بالتكتلات الاقليمية وحروب التجارة والتنافس الاستراتيجي. وتلازمت في هذا المنظور حرية التجارة والديموقراطية والعلاقات التعددية المؤسساتية. وكمن خلف هذه الاستراتيجية المبدأ القائل بأن نظاماً عالمياً يقوم على قواعد عمل واضحة، خصوصاً اذا استثمرت الولايات وزنها السياسي لجعلها مؤاتية لها، سيكون الوسيلة الأفضل لحماية مصالح أميركا وحفظ قوتها وتوسيع نفوذها. واستمرت الولاياتالمتحدة خلال تسعينات القرن الماضي في العمل بهذه الاستراتيجية الليبرالية، وحاول الرئيسان جورج بوش الاب ثم كلينتون ترسيم نظام عالمي لا يعتمد على التهديد الخارجي أو توازنات القوى. وقدمت الاستراتيجية في الحالتين رؤية ايجابية لتحالف وشراكة ترسخهما القيم المشتركة والمصالح المتبادلة وأهمية المحافظة على الاستقرار. وحاولت ادارة كلينتون بدورها اقامة نظام لعالم ما بعد الحرب الباردة على أساس نشر الديموقراطية وحرية التجارة. وكانت الديموقراطية في هذه الرؤية حجر الزاوية للروابط على الصعيدين الاقليمي والدولي، فيما اعتبرت التجارة وحرية تنقل رؤوس الأموال الدافعان الرئيسيان الى الاصلاح السياسي والتكامل. ورغم ان ادارة بوش الابن لا ترغب في اشهار هذه الاستراتيجية الكلينتونية المنظر، فانها تدعو الى أفكارها في عدد من الأشكال. من ذلك ان دعمها دخول الصين الى منظمة التجارة العالمية يقوم على التوقع الليبرالي بأن دمج بكين في النظام الاقتصادي العالمي سينتج ضغوطا نحو الاصلاح السياسي ويقلل احتمال اتخاذها سياسة خارجية عدوانية. كما نتجت مساندة الادار الحالية لجولة التفاوض التجارية التعددية في الدوحة أيضاً عن الاعتقاد بالمزايا الاقتصادية والسياسية لحرية التجارة. بل أن الممثل التجاري للولايات المتحدة روبرت زيليك ربط، بعد 11 أيلول سبتمبر، بين توسيع نطاق التجارة والحرب على الارهاب، أي ان هناك تلازما بين التجارة والنمو والاندماج والاستقرار السياسي. يعود كل من الاستراتيجيتين الواقعية والليبرالية الى تقليدين فكريين مختلفين الى حد التناقض. لكن ذلك لم يمنع ذلك القدر الكبيرمن التماشي بينهما خلال الخمسين سنة الماضية. فقد خلقت الاستراتيجة الواقعية دافعاً سياسياً للدخول في التزامات أمنية رئيسية في انحاء العالم، فيما رسمت الاستراتيجية الليبرالية للقيادة الأميركية أجندة ايجابية. وتمكنت الولاياتالمتحدة من ممارسة قوتها وضمان مصالحها الوطنية، وقامت بذلك في شكل ساعد على تقوية نسيج المجتمع الدولي. أي ان قوة اميركا لم تهدد استقرار النظام العالمي بل ساعدت على خلقه. أما الآن فإن الأفكار الجديدة داخل ادارة بوش - التي بلورتها احداث 11 أيلول والهيمة الأميركية - تشكل خطراً على استقرار النظام العالمي والصفقات السياسية التي تكمن خلفه. وتبرز بالتدريح في واشنطن حالياً، للمرة الأولى منذ بداية الحرب الباردة، ملامح استراتيجية اميركية شمولية جديدة. وهي تُقدم في شكل مباشر كردّ على الارهاب، لكنها في الوقت نفسه تمثّل منظوراً أوسع لكيفية استخدام أميركا لقوتها واقامة نظام عالمي جديد. على أميركا، حسب هذا النموذج، أن تكون أقل تقيداً بشركائها، وبالقواعد والمؤسسات، عندما تتقدم نحو دور احادي واستباقي للهجوم على الخطر الارهابي والتصدي للدول المارقة الساعية الى الحصول على أسلحة الدمار الشامل. وان تستعمل أميركا قوتها التي لا منافس لها لادارة النظام العالمي. تتكون الاستراتيجية الكبرى الجديدة من سبعة عناصر. أولها الالتزام بعمق بادامة عالم احادي القطبية لا منافس فيه للولايات المتحدة، وعدم السماح لأي تحالف بين القوى الكبرى لا يشملها بالتوصل الى الهيمنة. وفي خطابه في كلية وست بوينت العسكرية في حزيران يونيو جعل بوش من ذلك، محور سياسة أميركا الأمنية، وقال: "لدى أميركا قوة عسكرية تتعدى كل التحديات وهي تعتزم الاحتفاظ بها. ان ذلك يلغي سباقات التسلح التي شهدتها مراحل اخرى، ويحصر التنافس في التجارة وغيرها من النشاطات السلمية". العنصر الثاني يتجسد في التحليل الدرامي الجديد للتهديدات على الصعيد العالمي وكيفية مهاجمتها. الحقيقية الكالحة في الوضع الجديد هو أن مجموعات صغيرة من الارهابيين قد تستطيع قريباً - ربما بمساعدة من دول مارقة - الحصول على أسلحة نووية وكيماوية وبيولوجية يمكنها التسبب بكوارث كبرى. وترى الادارة أن ليس من امكان لاسترضاء أو ردع مجموعات كهذه، ولذا لا مفرّ من القضاء عليها. العنصر الثالث في الاستراتيجية الجديدة هو ان الزمن قد تجاوز مبدأ الردع الذي ساد خلال الحرب الباردة. وهناك تلازم واضح بين مبادئ الردع والسيادة وتوازن القوى. وعندما لا يعود الردع اسلوباً ناجعاً فإن ذلك يعني بداية انهيار الاستراتيجية الواقعية السابقة. مصدر الخطر اليوم ليس قوى كبرى اخرى يمكن ردعها عن طريق القدرة على توجيه ضربة نووية جوابية، بل شبكات الارهاب التي "لا يعرف لها عنوان" لأنها تتخطى حدود الدول. من هنا فالخيار الوحيد هو الهجوم. نتيجة لهذا تتمثل بالعنصر الرابع في الاستراتيجية الاخذة بالتشكل: اعادة صياغة مفهوم السيادة. ذلك أن استعصاء المجموعات الارهابية على الردع يحتم على الولاياتالمتحدة التدخل في أي مكان أو وقت لاستباق التهديد وتدمير مصدره. الارهابيون لا يحترمون الحدود، ولهذا لا يمكن للولايات المتحدة احترامها. اضافة الى ذلك فإن الدول التي يوجد فيها الارهابيون، سواء برضاها أو لعدم قدرتها على تطبيق قوانينها في أراضيها، فشلت عملياً في الحفاظ على حقوق السيادة. ويشكل هذا المبدأ رفضاً تاماً للقواعد الدولية في ما يخص الدفاع عن النفس، ومبادئ الأممالمتحدة في الاستخدام المشروع للقوة. العنصر الخامس هو الاستخفاف عموما بأهمية القواعد الدولية والمعاهدات والشراكات الأمنية. وينعكس هذا التوجه في انسحاب ادارة بوش من الكثير من المعاهدات والمؤسسات - من بروتوكول كيوتو حول البيئة الى المحكمة الجنائية الدولية الى ميثاق الاسلحة البيولوجية. سادساً، تقول الاستراتيجية الجديدة بحاجة الولاياتالمتحدة الى الرد المباشر غير المقيد على التهديدات. واذ ليس هناك في ادارة بوش من يقول بتفكيك حلف الأطلسي أو التراجع عن الحلف الأميركي الياباني. فإن هذه التحالفات تعتبر الآن أقل اهمية الولاياتالمتحدة في مواجهتها للاخطار الجديدة. اخيراً، لا تعطي الاستراتيجية الجديدة أهمية كبيرة للاستقرار الدولي. ويسود في صفوف "الأحاديين" الرأي بضرورة التمسك بموقف عملي والغاء تقاليد الماضي. صانعو السياسة الأميركية على اقتناع تام، سواء في ما يخص الانسحاب من معاهدة حظر الصواريخ المضادة أو التوقيع على أي معاهدات اخرى للحد من التسلح، بأن على الولاياتالمتحدة التحرر من الأفكار التي عفا عليها الزمن وانتهت فاعليتها بانتهاء الحرب الباردة. ويؤكد منظرو "الامبريالية الجديدة" ان لا نفع في الاستراتيجيتين الواقعية والليبرالية تجاه عالم اليوم. وان لا ضمان لأمن أميركا من خلال الاستراتيجية الواقعية القائمة على قوة الردع وادامة علاقات مستقرة مع الدول الكبرى، كما كانت ترى الاستراتيجية الواقعية. إلا أن الاستراتيجية الامبريالية الجديدة تنطوي على مخاطر. من بينها ان قوة أميركا التي لا تعرف حدوداً، عندما تتخلى عن اعتبارات الشرعية وتتراجع عن قواعد ومؤسسات النظام الدولي، ستقود الى نظام جديد أشد عدوانية يضاعف من صعوبة تحقيق المصالح الأميركية. فقد كان السر في تاريخ أميركا الطويل والباهر في لعب دور الدولة القائدة للعالم قدرتها ورغبتها في ممارسة نفوذها من خلال التحالفات والأطر الدولية، وهو ما جعل قوتها وأهدافها مقبولة من الحلفاء وغيرهم من الدول الرئيسية في انحاء العالم. وهذا الانجاز هو ما يتعرض للخطر من قبل التفكير الجديد. والمشكلة المباشرة هنا هي أن أسلوب الامبريالية الجديدة غير قابل على الاستمرار. ان التحرك الأحادي قد ينجح في القضاء على صدام حسين، لكن هناك شكاً كبيراً على المدى البعيد في نجاح استراتيجيتها لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل عن طريق التحرك الأحادي للاطاحة بالأنظمة الديكتاتورية الخطرة. لقد افترض منظّرو الاستراتيجية الجديدة أن في امكان أميركا التفرد باستعمال القوة حيثما تريد في العالم من دون أن يؤدي ذلك الى نتائج سلبية. ويعترف هؤلاء بأن ذلك قد يضر بالعلاقات مع الدول الصديقة والحليفة، لكنهم يرون أن ذلك ثمن لا مفر منه للقيام بدور القيادة. بالمقابل يرينا التاريخ أن دولاً كبرى أوصلت نفسها الى حال من العزلة والحصار نتيجة مبالغتها في تقدير قوتها. ولا شك ان الحروب تقود الى تغيرات في السياسة الدولية، وهذا ما ستفعله حرب أميركا على الارهاب. ان طريقة خوض الحرب من قبل الدول الكبرى، وتحديدها لمصالحها في تلك الحرب، وكيفية احلالها للسلام بعدها - كل هذه تساهم في صنع النظام الدولي بعدما تسكت المدافع. الا أن الرئيس بوش لم يوضح بعد رؤيته للنظام الدولي بعد الحرب، عدا التأكيد بأن الحرب تمثل صراعاً بين الحرية من جهة وقوى الشر من الثانية. ان العالم يرى واشنطن وهي تتخذ خطواتها الحازمة للقتال ضد الارهاب، لكنه لم يسمع منها حتى الآن تصوراً لنظام عالمي بعد الحرب يكون أكثر انسانية. ويوضح هذا النقص سبب التلاشي السريع لموجة التعاطف وحسن النية تجاه أميركا بعد 11 أيلول، وان صحفاً اعلنت "كلنا أميركيون!" وقتها تعبّر الآن عن شكوكها في نيات أميركا وسياساتها. الرأي السائد هو ان الولاياتالمتحدة تبدو مستعدة لاستعمال قوتها لملاحقة الارهابيين والأنظمة الشريرة، لكن ليس للمساعدة على بناء نظام عالمي أكثر استقراراً وسلاماً. ان على الولاياتالمتحدة، بدل اختراع استراتيجية شاملة جديدة محاولة تنشيط استراتيجيتها الأصليتين، اللتين لا تعتبران الشراكات الأمنية مجرد وسائل للانتفاع بل من المكونات الأساسية لنظام سياسي عالمي جدير بالمحافظة عليه تقوده أميركا، وأن تلك الشراكات تزيد من نفوذها وتقوي من شرعيته ومن ارتياح الآخرين له. المفكرون الامبرياليون الجدد يؤرقهم شبح الكوارث الارهابية، ويسعون الى اعادة صياغة جذرية لدور أميركا في العالم. انه الاغراء بلعب دور امبريالي، وهو يتغذي من جهة من قوة اميركا وكونها الدولة العظمى الوحيدة في العالم، ومن الثانية بالتهديد المخيف الذي توجهه قوى الارهاب. لكن أخذ هذه الرؤية الى مداها الأقصى سيجعل العالم مكاناً أشد خطراً وأعمق انقساماً، ويجعل الولايات أقل أمناً. بروفسور كرسي بيتر كروغ للدراسات الجيوسياسية والعدالة العالمية في جامعة جورجتاون في الولاياتالمتحدة. من خدمة "نيويورك تايمز"