يبدأ القرار العراقي من أعلى السلم من الموت كأعلى عقاب في جداول الجزاء حلاً للصراع الشخصي على السلطة وجواباً جاهزاً على خروج تظاهرة إحتجاج، أو تأديباً سهلاً لصبيان ورثوا عن آبائهم طريقة الكتابة السياسية على الجدران. والحرب كالموت، آخر قرار سياسي تلجأ إليه الدول، لكنه أول قرار تستعين به السياسة العراقية. وحيث تتشكل بحيرة الدم تتقدم أمام صاحب القرار فرص الحديث عن الحل الدبلوماسي. إن الموت والحرب أوسع تعبيراته: نظرية عمل في السياسة العراقية الراهنة، يعالج بها المحتجين على المجاعة، والمجتمعين على الموت، والمتحدثين في سراديب المعارضة والمتناقشين تحت قبة القصر الجمهوري كما يعالج بالحرب خلافات الحدود: ومشكلات التسويق! ولعل الرئيس العراقي الحالي لم يعجب بحلٍ مثل إعجابه بالموت، وإذا لم يكن رائد هذه النظرية فإنه بلا شك واحد من البنائين القلائل لعمارة الموت وموسّع بواباتها لإتاحة الفرص أمام البشرية العربية للمرور من خلالها. ولعله نجح في مرحلة من مراحل مشروعه، ففي سنوات الحرب العراقية - الإيرانية تحول الإصغاء العربي إلى نداءات يومية وقصائد ومؤتمرات سياسية ترى في النظرية العراقية نموذجاً حياً قابلاً للاستنساخ. ويُرجع كتّاب السياسة العمل بنظرية الموت إلى أصول عربية في تجربة الحجاج بن يوسف الثقفي، لكن الحجاج على رغم إجتهاداته في تعميم العمل بنظرية الموت، وعلى رغم أنه كان يشتهي قطف رؤوس البشر كما يشتهي البشر قطف الزهور! فإنه لم يكن حراً في التنكر للقيم السائدة. لقد ظهر الحكم العراقي في إلتزامه بنظرية الموت أكثر حرصاً من دول عربية إحتلها العثمانيون على ترسم خطى التجربة المملوكية، فأمام مشكلات بسيطة تواجه الدولة لم تستطع نظرية السلطة العراقية ان تسعف القائد السياسي بمقترحات وحلول لمعالجة مسائل كالتعدد القومي والمذهبي والمطالب الإجتماعية للناس وإشكالات الجوار الجغرافي. إن حلاً دائماً ووحيداً يتقدم إلى غرفة القيادة العراقية كما كان يتقدم إلى سراي الوالي وقصر السلطان محمولاً على كتف جندرمة أو في جيب القمصلة السري، ولم يكن غير استخدام القوة قريباً إلى العقل السياسي العراقي الحاكم. إن نوري السعيد الذي ينظر إليه كأبرع ممثلي سياسة الدهاء والحكمة كان في الحقيقة أشد زملائه المحافظين ميلاً للعمل بنظرية الموت! وكانت الدبلوماسية البريطانية تنصح بعدم تكليفه تشكيل الوزارة في ظروف ومتغيرات حادة كمحاولات الإنقلاب والوثبات الشعبية لمنعه من أعمال الإنتقام التي سيلجأ إليها، مفضلة سياسياً آخر هو جميل المدفعي غير المعروف بميوله الدموية. والغريب أن يتبنى الحل الدموي في العراق فنانون ومثقفون وشعراء وحركات سياسية في المعارضة! إن ترويض النفس الإنسانية لا لقبول حالة الموت فحسب! بل للتمتع والتلذذ بمشاهدة القتلى، تمتد إلى فترات سابقة لحكم البعث، وتدمغ بالإساءة أسماء ليبرالية لامعة. وإذا كانت حركات سياسية مارست النقد الذاتي واعتبرت سحل الجثث خطأ تسبب عن هياج جماهيري غير منضبط، فإن حزب البعث الحاكم في العراق قد جعل مسألة كهذه من مستلزمات البقاء، فسعى لتطوير اساليب العمل بالموت وتعميمها. ونتذكر باشمئزاز حفلة دعت اليها السلطة مطلع عام 1969 ابناء الشعب العراقي لمشاهدة عروض الموت في ساحة التحرير وسط بغداد، وكان قادة السلطة وعلى رأسهم أحمد حسن البكر وصدام حسين استعرضوا غابة المشانق في الساحة وهم يدورون حولها بسيارة مكشوفة. إنّ إعادة بناء العراق وإعماره وجمع شمل شعبه، لا بد ان تقوم على نظرية التكاتف والوحدة والبناء والسلام. * كاتب سعودي.