قالوا: "أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك"، ونحن نقول: "يا حقوق الإنسان كم من الاكاذيب تتردد باسمك". ولا اظن بأن هناك أمراً خضع لازدواج المعايير ونسبية المواقف مثلما حدث مع مسألة حقوق الانسان. ففي بعض بقاع الدنيا يجري انتهاك حقوق الانسان صباح مساء يحيط الصمت بما يحدث ولا يعلق العالم المتحضر أو غير المتحضر، بينما تتمتع حقوق الحيوان في مجتمعات اخرى بدرجة أعلى من الاحترام والتقدير لحقوق الانسان في دول اخرى. إن حقوق الانسان ليست تعبيراً قانونياً تحكمه القواعد المحددة والأطر المنضبطة، بل هي مسألة سياسية بالدرجة الاولى تتحكم بها محصلات القوى ومراكز الصراع وتختلف النظرة إليها وفقاً للزمان والمكان. فحقوق الانسان الفلسطيني ليست كحقوق الانسان الاسرائيلي، كما ان حقوق الانسان الاوروبي لا تقارن بحقوق الانسان الافريقي. نعيش عالماً لا تقف فيه مسألة ازدواج المعايير عند السياسات وحدها بل تتجاوز ذلك إلى الافكار والفلسفات، وهل كانت نظرية "صراع الحضارات" إلا تعبيراً عن ذلك الازدواج والتوجه الجديد الواضح القائم على الكيل بمكيالين والحكم بمعيارين والقياس بوحدتين؟ في غمار الاحداث الدامية التي تشهدها الأرض الفلسطينية المحتلة وربما غيرها من بؤر الصراع الساخنة، نرى أن عالم اليوم يتحدث بلغة القانون لكنه يتصرف بمنطق السياسة، والمسافة بينهما شاسعة مثل المسافة بين الحق والقوة، وبين العدل والواقع. وإذا جاز لنا الآن أن نناقش قضية حقوق الانسان في إطارها العصري نتطرق الى النقاط الآتية: أولاً: أصبحت الدوافع السياسية مصدراً اساسياً لتوظيف مسألة حقوق الانسان، وبتنا نشهد اختلافات واضحة في مفهوم ذلك الحق الانساني التاريخي المهم، ما يدعونا إلى طرح الامر برمته لحوار موضوعي وعادل في المحافل العالمية والمنظمات الدولية سعياً إلى إيجاد معايير محددة وأطر صارمة لتحديد معنى ثابت لحق الانسان في كل المجالات. ثانياً: لا يمكن أن يظل معيار حقوق الانسان مرتبطاً بمحصلات القوى المتغيرة في عالم اليوم، ولا يمكن القبول بأن تظل القضية محكومة بمؤشرات "البورصة" السياسية بين الدول. فحقوق الانسان لدى الاقوياء لا تختلف معاييرها لدى الضعفاء، أو هكذا يجب أن تكون. ثالثاً: إن تفاوت مستويات الحياة بين الدول واختلاف النظم الثقافية وتباين القيم الاجتماعية يجب ألا يشكل قيوداً على وحدة القياس المشترك لمبادئ حقوق الانسان. فنحن نريد معياراً واحداً لا يفرّق بين الاغنياء والفقراء. وأثار دهشتنا منذ سنوات قليلة ذلك التفاوت في الاهتمام بالحد الأدنى لحقوق الانسان في مجازر رواندا وبوروندي الافريقية بينما يكون الاهتمام مركزاً والسعي شديداً لو تعلق الامر بالإنسان الأبيض في اوروبا مثلاً. رابعاً: ان حقوق الانسان بمفهومها العصري لا تقف عند حدود اختفاء القهر ووجود ضمانات قانونية للحماية من البطش والتعذيب والإكراه، لكنها تمتد حالياً لتشمل الجوانب التعليمية والثقافية فضلاً عن الاقتصادية. فقسط لازم من التعليم ومقدار مطلوب من الثقافة ومستوى معين من المعيشة كلها اساسيات تتعلق بالحدود الدنيا لحقوق الانسان المعاصر. خامساً: طرح فكر العولمة ابعاداً جديدة متصلة بقضية حقوق الانسان لم يكن لها وجود. ويكفي ان نشير إلى تهاوي مبدأ سيادة الدولة في ظل الحدود المفتوحة والقرية الكونية الواحدة، حتى اصبح مسموحاً للقوة الاعظم منفردة أو بالاشتراك مع غيرها، أن تتدخل في الشؤون الداخلية لدولة معينة بقرار من مجلس الأمن أو حتى وفقاً لموقف جماعي لحلف عسكري. وقد تكون مبررات التدخل انسانية في الظاهر ولكن غالباً ما تكون لها اهداف سياسية، والمبررات دائماً جاهزة، فإما أن تكون دفاعاً عن حقوق الانسان أو حماية للأقليات او استعادة للديموقراطية او حتى حماية للبيئة. تأثرت حقوق الإنسان في السنوات الاخيرة بالتطورات الدولية المعاصرة التي أدت الى طغيان الاعتبارات السياسية على المعايير القانونية، إذ زحفت السياسة على القانون وحرمت قاعدته من خصائصها العامة المجردة، وأصبحت الأمور تمضي وفقاً لما تمليه شروط الاقوى وصاحب الظروف الافضل، مع أننا كنا نتصور أنه كلما قطعت الانسانية اشواطاً على طريق التقدم أتاح لها ذلك مزيداً من الاهتمام بقضايا حقوق الانسان في كل مكان. قد يندهش بعضهم من عالم يثور احياناً ضد الانتهاكات التي تتعرض لها حقوق الانسان في بعض الدول، لكنه هو ذاته العالم الذي يغمض عينيه في حالات اخرى يجري فيها انتهاك حقوق الانسان على نحو يعد سابقة. ولعل اسرائيل هي النموذج الصارخ للعدوان المتكرر على حقوق الانسان في ظل احتلالها أرض الغير وتجاهلها أبسط قواعد الشرعية والاخلاق ثم تباكيها أمام الرأي العام العالمي ومراكز صنع القرار الدولي على الأمن الغائب لمواطنيها والارهاب الذي يستهدف مدنييها. وحين تعتدي إسرائيل بجبروت الدولة وعنفوان الآلة العسكرية على الاطفال والنساء وتقتل العشرات في غارة، يبدو الأمر كأنه يمضي في سياق طبيعي. ويبرر بعضهم الأمر بأن إسرائيل في حال دفاع عن النفس. ويوصف شارون بأنه "رجل السلام"، بينما يعتبر عرفات "الشرير" الذي يجب أن يرحل لأنه يقود شعبه نحو الاستقلال والحرية. نكاد لا نجد في التاريخ المعاصر سوابق لتلك الجرائم الاسرائيلية ضد حقوق الانسان في مطلع الألفية الثالثة. والغريب أن ما تفعله اسرائيل يمضي من دون محاسبة، ثم ينتهي الأمر بغير عقاب، فيما يجري تطبيق معايير غير مألوفة لحقوق الانسان، فيكون التركيز على اساليب المقاومة ضد الاحتلال بينما لا يوجه المجتمع الدولي الى الجانب الآخر نوعاً من المساءلة، على الاقل عن نموذج ارهاب الدولة الذي تفوقت فيه اسرائيل وبرعت في استخدامه في شكل سافر. وعندما تقتل إحدى الغارات عشرات المدنيين الذين يحتفلون بعرس في إحدى مدن افغانستان، بعد سنوات حرمتهم خلالها حركة "طالبان" الافراح ومنعت الموسيقى وكل مظاهر الطرب، ينتهي الأمر باعتذار عابر. وأتساءل لو كان القتلى من جنسيات ذات أهمية في محصلة القوى الدولية، هل تأتي ردود الفعل على المستوى ذاته أم تكون مختلفة تماماً. وها هي الولاياتالمتحدة التي تضع تمثال الحرية على مدخل اكبر مدنها وتتحدث الى العالم باعتبارها راعية الديموقراطية وحارسة قيمها الاصيلة، تضع قيوداً على مبادئ الديموقراطية الغربية عندما تصر على نموذج جديد للديموقراطية المشروطة التي تحدد فيها النتائج المسبقة وتفرض بها المواقف المطلوبة ضاربة بعرض الحائط المفهوم الحقيقي لإرادة الشعوب ومتجاهلة خياراتها الطبيعية، علماً أن الأصل في الديموقراطية الحقيقية انها غير قابلة بطبيعتها للتجزئة أو أنصاف الطرق. لكن الذين يتحدثون باسمها ويعتبرون أنفسهم أصحابها عادوا اليوم ليجعلوها متاحة لبعضهم محرّمة على بعضهم الآخر، ولا بأس عندهم والحال كذلك من انتقاد دائم للدول النامية واتهامها بغياب الديموقراطية واختفاء الحريات. إنه عالم محير، فإذا اعتدى الارهابيون على الابرياء اعتبرنا ذلك جريمة، وهذا طبيعي لأن حق الحياة يجب ألا يمس إلا بقصاص عادل، لأنه الاصل في كل الحقوق. وإذا حاولت دول أن تضرب على العناصر الارهابية بيد من حديد وجدنا من يتباكى مرة اخرى على حقوق الانسان. كانت صورة ذلك التناقض واضحة قبل 11 أيلول سبتمبر 2001، أما بعده فأفاق الجميع واكتشف الغرب، وفي مقدمه الولاياتالمتحدة، انه حين فرّط بحقوق الإنسان مرة فرّط بها مطلقاً، وتوجب عليه أن يدفع بعد ذلك فاتورة غالية من أمنه وسلامة شعوبه. ولا شك في أن الحادي عشر من ايلول 2001 سيظل علامة فارقة بالنسبة إلى قضايا حقوق الإنسان، لأنه يمثل حداً فاصلاً بين مفهوم الارهاب في عمومياته واساليب مواجهاته في خصوصياته. ولعل الخطورة تكمن الآن في احتمال ان تتحول عمليات مكافحة الارهاب ومقاومته الى سلسلة جديدة من الانتهاكات العشوائية لحقوق الانسان، فتضرب الشعوب بسبب الأنظمة ويعاقب الأبرياء بسبب الحكام في ظل عملية تعميم عمياء ومحاولة للتصنيف التحكمي الذي ينتهي إلى تكريس نوع من الفكر العنصري الجديد كنا نظن اننا تجاوزناه منذ سنوات طويلة. حقوق الانسان يجب أن تظل نوعاً من المبادئ الثابتة والقواعد المستقرة، وليست كالكتاب الذي يصدر كل سنة، فيقرأ بعضهم طبعته القديمة بينما يكتشف آخرون طبعته الجديدة. * كاتب قومي، عضو في البرلمان المصري.