أضيف الموقف من النضال الوطني الفلسطيني الى ملف الخلافات الحادة بين الطائفة الأرثوذكسية في الأراضي المقدسة وبين رأس كنيستها، البطريرك ارينيوس الأول الذي اختصر موقفه بعبارة: "أنا يوناني، لست فلسطينياً ولا تربطني علاقة سياسية أو وطنية بالفلسطينيين"، وذلك في مقابلة مع صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية. وسبق ذلك بأيام بيان أصدره أرينيوس أعلن فيه تنحية الأرشمندريت الأب عطاالله حنا من منصبه كناطق رسمي باسم الكنيسة الأرثوذكسية، على خلفية رفض الأب حنا التوقيع على بيان يدين العمليات الفلسطينية، وجاء قرار أرينيوس عقب اجتماع مطول جمعه ومسؤولاً اسرائيلياً لم يكشف عن اسمه. وفي عودة لانتخاب أرينيوس كراع للكنيسة، في 13/8/2001، نسترجع ردة فعل الحكومة الاسرائيلية على فوزه، وقولها: أنه "ضربة لإسرائيل"، لأنه "أقل تعاوناً" معها من غيره من المرشحين للمنصب الروحي. ومع التدقيق في مواقفه الأخيرة نتلمس قوة الضغط الاسرائيلي الذي يمارس على الكنيسة الأرثوذكسية عامة، وعلى رأسها بشكل خاص، والاستجابة لهذا الضغط، يتوقع ان تضع رأس الكنيسة في مواجهة مع رعاياها على نحو لم يحدث سابقاً. وموقف رعايا الكنيسة الأرثوذكسية عبر عنه الأب عطا الله حنا بقوله، رداً على تصريحات أرينيوس: "أن المسيحيين عامة، وأبناء الكنيسة الأرثوذكسية خاصة، في البلاد المقدسة هم جزء من الأمة العربية، ومن الشعب الفلسطيني، شاء من شاء وأبى من أبى". وحول الموقف من مقاومة الاحتلال أضاف: "الذين يصفون مقاومة الاحتلال بالإرهاب هم أعداء لدودون للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني". والخلاف قديم داخل الكنيسة حول موضوعة تصرف بعض المطارنة في عقاراتها وممتلكاتها، خصوصاً تأجيرها أو بيعها لحكومة الاحتلال. واشتعل مجدداً بعدما كشف، في 5/8/2002، عن عرض قدمه أرينيوس لحكومة شارون يعلن فيه استعداده بيعها الممتلكات والأراضي التي سيطرت عليها الدولة العبرية في حربي 48 و1967. وكان البطريرك ثيودورس الأول، السلف الراحل لأرينيوس، صدق في أيار مايو من العام 2000 على تجديد عقد الإيجار لإسرائيل لمدة 99 عاماً مقابل عشرين مليون دولار. ومن المعروف ان مساحات واسعة من هذه الأراضي استخدمت لتوسيع مستوطنات اسرائيلية، ولبناء مجمعات حكومية من بينها مبنى الكنيست الإسرائيلي، ومنزل رئيس الوزراء في القدس الغربية. وفور الكشف عن هذه الصفقة، تعاظم الاستنكار والرفض في صفوف رعايا الكنيسة الأرثوذكسية، وأعلن عن اجتماع عام للمؤسسات الأرثوذكسية لاتخاذ قرارات حاسمة في مواجهة التراجعات السياسية والصفقات الجانبية مع سلطات الاحتلال الاسرائيلي. والغالبية العظمى من الرعايا هم من العرب. والأقلية اليونانية هي التي تتحكم بمقاليد الأمور. وهذه الثنائية مزمنة في الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين. ورأى غير طرف ديني وسياسي في هذا الواقع مدخلاً لبسط نفوذه داخلها. فعلى سبيل المثال، نشط المطران البروسي صموئيل غوبات، في العام 1848، في ضم عدد من الروم الأرثوذكس في نابلس الى الكنيسة الإنغليكانية، مستغلاً "النفور الشديد ما بين الأكليروس اليونان والرعايا الناشئ عن الإهمال الذي يتعرض له الرعايا العرب وانشغال الأكليروس بقضاياهم الخاصة"، كما أورد خليل قزاقيا في كتابه "تاريخ الكنيسة الرسولية الأورشليمية". واليوم، مع تركيبة الكنيسة المستمرة تتدخل اسرائيل الى جانب المطارنة اليونان في مواجهة رعايا الكنيسة، و"فتحت" أمامهم باباً ديموغرافياً لجعل الفلسطينيين من رعايا الكنيسة أقلية، بواسطة الاقتراح الاسرائيلي ضم عدد كبير من المهاجرين الروس الى الكنيسة، لأن السلطات الاسرائيلية "اكتشفت" انهم ليسوا يهوداً، بل مسيحيون أرثوذكس. وكشف أخيراً ان البطريرك أرينيوس عقد صفقة مع تل أبيب لاعتماد هؤلاء في الكنيسة الأرثوذكسية. ومن المفترض ان الزعامة الروحية الأرثوذكسية أصبحت خبيرة في حقيقة نوايا اسرائيل تجاه المؤسسات الدينية المسيحية قبل الإسلامية. ولا يتسع المجال هنا لذكر الانتهاكات الاسرائيلية المتعمدة ضد آملاك الكنيسة وأماكن عبادتها. وإذا رأى بعض المطارنة أن اسرائيل ستحول دون موقف جدي من رعايا الكنيسة تجاههم فذلك لأن هدفها الأساسي الاستيلاء على الكنيسة ذاتها، بعد أن قضمت ما استطاعت من ممتلكتها. دمشق - محمل السهلي كاتب فلسطيني