القادة برتبة مارشال صنف ينقرض. وقبل سنوات توصلت الحكومة الى ان الجيش البريطاني اصبح صغيراً الى حد لم يعد يبرر منح أي شخص هذه الرتبة العالية. لكن من بقي لدينا من هذه النخبة المميزة لا يزال يضم بعض الشخصيات النافذة، ومن ابرزها المارشال اللورد برامل الذي احتلت تصريحاته اخيراً العناوين الرئيسية لوسائل الاعلام. ينتمي اللورد برامل الى ذلك الصنف من العسكريين الناجحين الذين يحظون باعجاب الجميع. وقد امتاز بحسن المعشر والشجاعة والمرح والذكاء وسرعة البديهة، وشارك في آخر مراحل الحرب العالمية الثانية بعد تخرجه من كلية إيتن. وقُلّد وسام الصليب العسكري للبسالة في 1945 بعد التحاقه بفوج الرماة الملكي. وتدرج في المناصب حتى تولى قيادة الجيش قبل تفجر النزاع في جنوب الاطلسي. وفي الفترة بين عامي 1982 و 1985، اصبح رئيساً للاركان. في 29 تموز يوليو الماضي، نشرت صحيفة "ذي تايمز" رسالة مثيرة للاعجاب من اللورد برامل وتتناول الغزو المحتمل للعراق من جانب الولاياتالمتحدة. ولا بد انها كانت واحدة من تلك الرسائل التي تثير فزع المتحمسين لمثل هذا الغزو، فقد اتسمت بنبرة معقولة واتزان في محتواها، وبقوة في دعوتها الى الحذر. لم يبدأ بالتساؤل هل يمكن اميركا ان تغزو العراق أو هل أنها ستفعل ذلك، بل "هل ينبغي لنا ان نسير وراءها". واعتبر ان هناك "وجهتي نظر متميزتين ولكن يمكن الدفاع عنهما بشأن ما ستكون عليه حصيلة تحرك كهذا". "الاولى هي انه اذا هوجم العراق بنجاح... واُطيح صدام حسين، ويُفضّل ان يتم ذلك بمساعدة انتفاضة شعبية، فإن الشرق الاوسط المبتلى بالارهابيين والذي تمزقه الحروب سيتطور على نحو مفيد. فهو سيصبح عندئذ منطقة اكثر أماناً، تتعزز فيها الحكومات الاسلامية المعتدلة، ويصبح حل القضية الفلسطينية ممكناً وتُشل بشكل فاعل قدرة الارهابيين على توجيه ضربة مثيرة اخرى ضد الولاياتالمتحدة او حتى اوروبا، باستخدام اسلحة دمار شامل أو من دونها. وسيخمد عندئذ، على الاقل، لهيب السخط والاحتجاج الموجود في المنطقة حالياً". ويمكن للمرء ان يلمس انه اكثر ميلاً الى وجهة النظر الثانية، التي ترى ان "نزاعاً مع العراق سيؤدي، في هذه المنطقة، الى نشاط هائل وفعال للولايات المتحدة يكون في حد ذاته احد العوامل المحركة الاساسية لنشاط ارهابي في المنطقة، وحتى على نطاق اوسع. وبدلاً من تهدئة الاوضاع، وتعزيز اي عملية سلام وتطوير "الحرب ضد الارهاب"، التي يمكن وينبغي ان تدار دولياً بوسائل اخرى، سيؤدي ذلك الى جعل الامور اسوأ بما لا يقاس. وسيكون قد سُكب الزيت بدلاً من الماء على النار، وستكون "القاعدة" كسبت مزيداً من الاعضاء". واستأثرت الفقرة الاخيرة من رسالته، باشارتها غير المتوقعة الى حرب السويس، باهتمام وسائل الاعلام: "من المفترض ان تتمكن اميركا في النهاية، مع كل القوة التي توجد تحت تصرفها ومع عدم وجود أي قوة عظمى اخرى تقاومها، من تحقيق أي هدف عسكري تطمح اليه. لكن لا يمكن إلاّ ان اتذكر تعليقاً للجنرال جيرالد تمبلر اصبح مارشالاً في وقت لاحق، وكان من "الصقور" البارزين، اذ قال خلال ازمة السويس 1956 عندما كانت بريطانيا تخطط لغزو شامل لمصر عبر الاسكندرية، شيئاً مفاده: يمكن بالطبع ان نصل الى القاهرة، لكن ما اريد ان اعرفه حقاً هو ماذا سنفعل عندما نصل الى هناك؟". وفي مقابلة اُجريت لاحقاً مع اللورد برامل في برنامج "العالم في نهاية الاسبوع" وبثتها اذاعة "بي بي سي راديو 4"، ابلغ محاوره ان بريطانيا تجازف بالتورط في حرب "عويصة جداَ" ومديدة اذا ايّدت هجوماً عسكرياً اميركياً على العراق. ودعا رئيس الوزراء البريطاني الى ان يتوخى الحذر، لافتاً الى ان غزواً لاطاحة صدام قد لا يكون مبرراً اخلاقياً او قانونياً. وقال "لا تملك ترخيصاً لمهاجمة بلد شخص آخر لمجرد ان قيادته لا تعجبك. يُفترض ان نكون سبّاقين على صعيد القضايا الاخلاقية في العالم". وافترض ان هذا التعليق الاخير كان اشارة الى ادعاء حكومة العمال بأن لسياستها الخارجية "بعداً اخلاقياً". تؤكد تجربتي الشخصية، وقد كنت عسكرياً وسياسياً، ان القادة العسكريين يميلون، بخلاف الانطباع السائد بأنهم متحمسون للقتال، الى توخي الحذر بشأن ارسال الجنود الى الحرب، فهم يدركون تماماً ان هناك، تحت المشاعر العامة، مشاكل جدية بشأن استخدام القوة ونتائجها المستديمة. وتتبادر الى الذهن مقولة دوق ولينغتون الشهيرة بأن "لا شيء سوى الخسارة في معركة يمكن ان يولّد نصف الاكتئاب الناجم عن معركة يتحقق فيها النصر". رسالة المارشال اعقبتها رسالتان للجنرال السير مايكل روز، القائد السابق لقوات الاممالمتحدة في البوسنة، واللورد هيرد وزير الخارجية المحافظ الاسبق، عبّرتا عن تحفظاتهما بشأن تورط بريطانيا في حرب اخرى في العراق. ويتبنى الرأي العام موقفاً مماثلاً في بريطانيا. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني" كابو.