الكتاب: الروض العاطر رواية. الكاتب: محمود الورداني. الناشر: دار الهلال - القاهرة. العنوان مقتبس من كتاب الشيخ النفزايؤ الذي يعرفنا الكاتب أنه عاش في عهد الدولة الحفصية في المغرب العربي 1228-1547 وأنه كان يشغل منصب قاضي الأنكحة في مدينة تونس وكتب "الروض العاطر" بناء على رغبة الوزير محمد بن عوانه الزواوي، بعدما اطلع الأخير على نص مختصر للنفزاوي في الموضوع نفسه. أما المعلومة التي أود تأكيدها هنا، فهي اننا بصدد عنوان لكتاب كتب إبان سقوط دولة الأندلس 1492 ولكنه كتب لبلاط بديللا كان ملاذاً لأهل العلم والأدب من تقدم "جحافل الفرنجة" الذين يذكر منهم في هذا السياق أبو جعفر القرطبي، عالم الطبيعة المعروف، وواضع أحد أدق مراجع الأدوية، مصنفاً إياها باسماء النباتات الطبية. وعلى عكس الراسخ في المخيلة الجماعية عن كتاب الشيخ النفزاوي يجد قارئه أنه ينتمي إلى تلك المدرسة في العلوم، فهو في عمومه عبارة عن وصفات طبيعة وكيماوية، أي "علمية" خصوصاً بالممارسات الجنسية. ويجيء ذكر ذلك الكتاب وكاتبه في رواية محمود الورداني فيء سياق رسالة الدكتوراه التي تكتبها إقبال لجامعتها الألمانية في الأدب العربي، إلا أنها تدرج هذا الكتاب بالتحديد تحت فصل عن الكتابة الايروتيكية العربية. عليما الاشارة هنا إلى ان رسالة إقبال تضم فصولاً عن "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، مع فصل عن الشيعة والمعتزلة، وجزء عن الناصرية والمشروع القومي، فيما تناولت "تحفة تاج العروس" للتيجاني و"مصارع العشاق" للسراج القارئ و"نزهة تالألباب للتيفاشي" ص161، ثم اكتفت ب"الروض العاطر" نموذجاً لمثل تلك الكتابات،ع وهو ما لم أجد تبريراً منطقياً له داخل النص، وإن كان له ما يبرره خارجه. ما علينا تذكره هنا هو ان تجربة إقبال على المستوى الشخصي تقع في نص الروداني على خلفية الحضارة الإسلامية بعد سقوط الأندلس واستمرار التراث العلمي الذي انتجته الأندلس في بلاط دول الموحدين والحفصية في المغرب. وما يربط تلك الشخصية بذاك التاريخ هو رسالة في الأدب العربي مقدمة إلى جامعة المانية. أما مالا يربط شاكر ب1882 وأحداثها الجسيمة فهو سيناريو الفيلم الذي يكتبه شاكر على امتداد رواية الورداني، وبذا يرتبط كذلك تلقائياً تاريخ شاكر الشخصي، منذ أول زواجه بأخت حبيبته ثم سفره إلى قطر وطلاقه منؤ زوجته بعدما أنجب منها بنتين، ثم العودة مرة أخرى إلى منفى النفط مع أحداث غزو الكويت، من دون أن يكون انتهى من السيناريو الذي أمضى طوال الرواية يتأمل أحداثه. يرتبط ذلك التاريخ الشخصي المرتبك، بذروة التدخل الأجنبي في شؤون مصر من خلال دين مصر العام الذي كان قاسماً مشتركاً فعالاً في كل من الثورة العرابية والاحتلال الانكليزي. من ناحية أخرى، ترتبط سيرة حياة بهية بحركة المد القومي الذي بلغ ذروته قبل الثورة في أحداث 1974 وجلاء الانكليزي عن القاهرة واستقرارهم في مدن القناة. وبما أن ذلك التاريخ هو تاريخ حديث، فإن الخلفية التاريخية التي تلعب بهية دورها السياسي لا تحتاج كما احتاجت كل من إقبال وشاكر إلى حيلة فنية تربط الشخصي بالعام. الشيء نفسه ينطبق على اسامة الشاب الذي كبر تحت ظروف الهجرة. المدهش في كل هذا، على رغم علو النبرة التقريرية المسلطة على النص من دون أن تكون جزءاً من النسيج القصصي، في حالة إقبال وشاكر على وجه التحديد، أن تداخل حياة شخصيات الرواية الأربع يستدعي من خلال ديالوغ ومشاهد تكاد تكون عبقرية في صياغتها، تاريخ الوجدان المصري المعاصر، الذي تبرر سلبيته المنمزجة في خيارات الشخصيات،، والظروف السياسية والاجتماعية التي عاشها هؤلاء بوصفهم أفراداً لا يقوى الواحد منهم بمفرده على رد طوفان الأحداث التي عصفت بالوطن وتوالت على إهدار كرامة ابنائه وتشتيت حلمهم في الرخاء والطمأنينية منذ نفي عرابي وحتى اللحظة التي يصبح فيها اسامة الشاب الواعد وأصغر شخصيات الرواية الرئيسيين "خرتياً". عندما تسأله إقبال: "- انت بتشتغل خرتي يا اسامة؟" يجيئنا رده كالصفعة: "- الخرتي يا إقبال مش ضروري يشتغل خرتي، تقدري تقولي إن الخرتي وجهة نظر في الحياة. الخرتي مش هو اللي بينصب على خواجاية أو يعمل بيزنس مع أوتيلات أو بازارات على الخواجات. على العموم تقدري تقولي إن الخرتي هو اللي مش لاقي حل. اللي خلص جامعة وحتى ما خلصش. مش كلهم نصابين. لا. دول كلهم مش لاقيين حل ولا شغل ولا أهل". وبالقدرة نفسها على لمس العصب الحي بأبسط الصور نرى بهية وهي الصحافية القديمة مضطرة إلى استعمال قاموس "المورد"، كأنها محررة تحت التمرين، لأن مفردات الأخبار التي تترجمها تبدلت بين يوم وليلة وتغيرت المفاهيم. في لقطات مثيلة ندرك لماذا عادت إقبال من المانيا: "- انت رجعتي ليه يا إقبال؟" يسألها اسامة، فترد ثائرة: "- رجعت عشان ما تعرفش تحب حد أو تصاحب حد بجد هناك". أما شاكر فيعاود السفر إلى بلاد النفط هرباً من الاخفاق الذي تسبب فيه السفر إليها في المرة الأزلى. إن أصعب ما في رواية الورداني هو المدى التاريخي للأحداث التي تغطيها، وهذا الإصرار من قبل الكاتب على ادراج كل شيء، والتوثيق لكل شيء، وقول كل شيء، كأنه لن تواتيه فرصة أخرى. السؤال الذي يظل عالقاً حتى بعد كتابة هذه السطور التي حاولت من خلالها فم الحلول الفنية واختيارات المواضيع التي فرضت نفسها على محمود الورداني، هو متى يشعر الكاتب بضرورة قول كل شيء، ولمن يتوجه بكل هذا؟ ألا يقبع تحت سطح مثل تلك الأسئلة حسن مؤرق بأن القاسم المشترك الأدنى في الذاكرة الجماعية كان وسيضل عرضة لروايات متناقضة؟ ألمثل هذا يلجأ الروائيون إلى التاريخ؟ وهل هذا ما اضطر محمود الورداني إلى قول كل شيء على حساب فنية عمله على رغم قدرته الفذة على تقديم الحوار وإعادة تركيب الأجواء الاجتماعية بأقل الكلمات، والوصف الدقيق المثابر الذي لا يفوته اسم الشارع ولا استرجاع ما كان عليه في حقبة ولت؟ "وعندما يبدو شارع كتشنر الرحب، بمستشفاه الأنيق وسط الأشجار مهيباً أمامه أحواض الزهور، كانت تعبر بهما بجوار كنيسة الملاك ميخائيل. ويخترقون شارع شيكولاني" ص141، فننتقل في جملة واحدة إلى شبرا في الأربعينات. تتكرر مثل تلك التفاصيل على مدى الرواية، مكملة صورة الشخصيات من خلال وضعها في أماكن بعينها. حتى إقبال التي عاشت بعيداً تجيئنا ومعها أماكنهالا الألمانية، أما الزمان الذي تتحرك في أماكنه الشخصيات فهو القاهرة عشية غزو الكويت. ومن خلال امتزاج المكان الحالي بذاكرة الشخصيات الراصدة لتلك الأماكن في زمن مشترك، أي زمن التسعينات الحاضر في القاهرة، تتخذ عملية القراءة وضعها الجدلي الأمثل بين ذاكرة الشخصيات وذاكرة الكاتب، ولا ينقصها سوى ذاكرة المتلقي حتى تستوي معادلتها فتتكثف الرؤية الفنية للرواية وتضمن تأثيرها في القارئ. أظننا وقد وصلنا إلى تلك النقطة نستطيع العودة للرد على السؤال الذي سقناه من برهة، ما الذي يضطر كاتباً معروفاً إلى قول كل شيء والتوثيق لكل شيء منذ القرن الخامس عشر وحتى اليوم؟ ولمن يتوجه بمثل هذا؟ ما الظرف الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي يضطر تحت وطأته الكاتب ان يبحث عن جذور مشكلات الواقع الراهن في التاريخ؟ ثم لا يكتفي بحقبة تاريخية واحدة في المرة الواحدة، وإنمالا يجد نفسه منجذباً إلى لحظة تمت منذ خمسة قرون مستحضراً عنواناً لكتاب كتب آنذاك ولا يبدو أنه للوهلة الأولى ذو علاقة من قريب أو بعيد بالرواية موضع النقاش؟ أذكر اننا لسنا بصدد مسألة الصدق الفني، فقد قدم لنا الورداني في هذا الصدد رواية لا يرقى إليها شك في هذا المضمار وإن خانته بعض التفاصيل. وإنما نحن بصدده السؤال: "لماذا لم استطع قراءة الروض العاطر وفقاً لما تتطلبه مني الرواية في حد ذاتها وبوصفها عملاً فنياً متكاملاً؟". المشكل في رأيي يكمن في المعادلة التي أشرت إليها من برهة: ذاكرة شخصيات الرواية، وذاكرة الكاتب الانتقائية وهي من المفترض أن تكون كذلك، وذاكرة الملتقي المفترضة كذلك وتريد الرواية ان تواجهها بذاكرة بديلة. فإذا فحصنا تلك المعادلة، نجد اننا لا نستطيع مناقشة ذاكرة تالشخصيات، ليس لأن ذلك لا يمكن ان يطرح في الأدب على نحو مطلق، ولكن لأن شخصيات رواية الورداني يتذكرون أحداثاً عامة في استطاعتنا الاطلاع على مدى تاريخيتهالا من خلال بحث سريع في ارشيفات الصحف في ما يتعلق بالماضي القريب. ولكن نتيجة مثل ذلك البحث لن تطلعنا إلا على مستوى واحد من تمثيل الأحداث، وهو المستوى الذي يفصح عنه الخطاب الرسمي للسلطة. أما مقدرات النساء والرجل ممن واجهوا السلطة فعذبوا وشردوا ونبذوا وهمشوا فيحتاج إلى وسيلة أخرى في التاريخ يقدمها لنا الروائي من خلال ذاكرة شخصيات كانوا شهوداً، بمعنى ما، وذلك لأنهم تفي النهاية شخصياتة من مخيلة المؤلف مهما حدث وتوافقت تجربتهم مع تجربة شخصيات فعلية خارج النص. لكن ذلك لا ينتقص من الدور الذي يمكن أن يلعبه التذكر على يد هؤلاء، لأن ما يتذكرونه في النهاية مطعم بجرعات كثيفة من أحداث ووقائع شارك فيها الكثيرون، وإن لم تتح لهم فرصة عرضها على نحو يدرجها في موقع منتصف النهر من الأخبار حين حدوثها ولا من رواية السلطة حين نشرها. وبموجب واقع التجربة التي تحكمت فيها السلطة على مدى العصور في الخطاب التاريخي، يجد الروائي الذي يضع نصب عينهت التاريخ البديل الذي وصفناه لتوناً، مضطراً إلى التعامل مع كم هائل من "الأساطير" التي تراكمت ولم يسمح لأحد بتفكيكها، اللهم إلا في حالات تبدللا السلطة، وهنا يصبح من الصعب الحفاظ على صدقية الرؤية الجديدة، بما أنها رؤية نبعت هي ذاتها من سلطة جديدة، استأثرت بدورها بحيز الخطاب واتبعت في الغالب أساليب القمع للرواية المضادة. ومما يعقد تلك الصورة ان الاستئثار بالخطاب تم ويتم داخلياً وخارجياً، بمعنى ان قمع الرواية "الأخرى" ليس سلوكاً خاصاً بالسلطة المحلية، وإنما يتخذ أبعاداً ضخمة في ظل الهيمنة العالمية التي استحوذت على حق "الرواية" منذ بدايات عصر الاستعمار الحديث. أما مظهر هذا الهم في رواية الورداني فرسالة إقبال، التي هي على رغم تشتتها من حيث المادة التي جمعت لها، تتوجه في الواقع إلى الجبهتين في آن: الجبهة الداخلية المتطهرة، وتقسم البشر إلى نوعين بناء على جنسهم البيولوجي، والجبهة الخارجية التي روجت لصورة المجتمعات الإسلامية على أساس أنها مجتمعات منغلقة لا مكان للتوجه العلمي فيها. أما والحال كما هو عليه، كيف يتسنى للكاتب طرح سؤال التاريخ البديل؟ ان يواجه "رواية السلطة من ناحية والرواية المهيمنة عالمياً من ناحية أخرى من خلال تاريخ مقوض، ومكمل للصورة التي صدرتها السلطة في حقة ما، لخدمة اغراضها؟". إن تاريخ قمع رواية "الناس العاديين" في ثقافتنا، يرجع إلى أبعد من سقوط دولة الأندلس، ولكن حين يحاول الروائي تقفي اثر ذلك المقع عليه أن يبدأ من مكان وزمان مالا حتى لا يبدأ كما كان المؤرخون الأقدميون يفعلون ببدء الخليقة. وبذا يتراءى لنا مدى منطقية ان يستدعي تاريخ العلوم في أوج الحضارة الإسلامية، وهو التاريخ الذي انتقص من أهميته على نحو تقليدي مؤرخو عصر النهضة الأوروبية، في رسالة دكتوراه تكتبها امرأة عربية لتقدمها إلى جامعة أوروبية، بالقدر نفسه من المنطقية يقضي رجل ذاق هوان العمل في المهج تحت مسى الثراء المقبول، وفي ظل ظروف اقتصادية وسياسية مهينة ومجحفة، يقضي الرجل وقته ما بين المنفيين: في وطنه يكتب فيلماً عن أحمد عرابي، ربما اضطر من أجل تحضيره إلى جانب قراءة وثائق عرابي ودفاع برودلي، والتماسات سكوين بلنت وليدي غريغوري ان يقرأ كذلك محمد حسين هيكل "دين مصر العام"د "لا أظن أنه كان يمكن لأحد أن يخاطر بالقول بأن حالة مصر مطمئنة، وإذا عقدنا مقارنة بسيطة، وبغير مبالغة، بين حال مصر اليوم وما كان ينبغي أن تكون عليه على ضوء وضعها سنة 1880، لو كانت بها حكومة مخلصة حقاً، فمما لا شك فيه اننا سنجد ان وضعها الراهن يدعو للرثاء". ص20 في النهاية، وبعد كل المقاومة، يفرز هذا التاريخ الطويل من القمع وسوء الإدارة "اسامة الخرتي"، ولا عجب. ولكن الورداني لا يتركنا على هذه النبرة الآسية فيحتال على القارئ في الساعة الحادية عشرة، كما يقول الانكليز، وينهي الرواية على صورة فانتازية تطير فيها إقبال فوق هذالا الروض الذي تأكد لنا بعد كل هذالا أنه أبعد من ان يكون عاطراً، متخطية حقول العفن والاهتراء، ممسكة بابنتي شاكر لتصل بهما إلى بر الامان وراء قصر عابدين. لا شك ان هذا لا يفي، كل ما يمكن أن يقال في رواية محمود الورداني، فهي رواية طموح إلى أبعد الحدود، ولكنها في نهاية الأمر تعاني بسبب ذلك الطموح من فنيتها وأحياناً صدقية تفاصيلها.