عالم "شانيل" Chanel هو قبل كل شيء إرث حي تركته "الآنسة" لمن خلفها في مهنة الخياطة. الآنسة "كوكو"، كما يسمونها، كانت تصف نفسها ب"الخياطة الصغيرة"، على رغم ان كل التصاميم التي ابتكرتها تخطت حدود الخياطة وتجاوزت هذه التسمية بمراحل. فغابرييل شانيل ابتكرت رؤية جديدة للمرأة الأنثوية، المتحررة، الجريئة والبسيطة في آن واحد، والعصرية الى ابعد حدود في الوقت نفسه. ابتكرت شانيل اسلوباً اصبح في ما بعد رمزاً واسماً تجارياً معروفاً في العالم، وكل ابتكارات هذا الاسم تشكل مجموعة منسجمة نجد فيها القيم التي ترتكز إليها ابتكارية الآنسة شانيل التي كانت تبحث دائماً عن جذب الأشخاص المحيطين بها بسبب افتقادها للعاطفة والحب في طفولتها. وكانت تبذل جهداً كبيراً لكي تكون محط انظار الجميع، هي التي كانت تردد دائماً ان "المرأة التي تتمتع بالأنوثة هي امرأة قوية". وعالم شانيل هو عالم انثوي يحترم المرأة وطبيعتها ويتألف من عناصر ثلاثة: "الأناقة، الانسجام، والرقي. فالموضة تبرز جمال جسد المرأة من دون تصنّع ومبالغة والعطور تنسج ذكريات لا تُنسى، والماكياج يسمح للمرأة بإبراز جمالها. اما المجوهرات والساعات فترافق عذوبة الوجه والحركة. وهكذا يتحول الإعجاب الى طبيعة ثانية، فالمرأة تُعجِب لأنها معجبة بنفسها وتبادِل الإعجاب بالإعجاب. وحررت شانيل نفسها من كل القيود التي كانت تكبل المرأة في مطلع القرن كالمشد الكورسيه والشعر الطويل والقبعات... وصممت ازياء للمرأة النشيطة والعاملة منطلقة من قولها الشهير: "على النساء ان يشعرن بالراحة والقدرة على طوي اكمامهن اثناء العمل". ومن هنا ابتكارها طريقة اقفال الأزرار في اسفل الأكمام التي استعارتها من سترات الجنتلمان الإنكليزي. وكانت تقول ايضاً "إن اناقة الزي تكمن في حرية التحرك التي يمنحها". وغابرييل شانيل ولدت في فرنسا في التاسع عشر من آب اغسطس من عام 1883 في مدينة Saumur"سومور" وهي مدينة محمّلة بالتاريخ ومشهورة بمدرستها للخيّالة العسكرية. وهكذا تعرفت منذ طفولتها الى الجياد وأحبتها طوال حياتها. اما والدها هنري فكان بائعاً متجولاً، غير مستقر، أوكل امر ابنتيه الوحيدتين الى ميتم بعد وفاة زوجته. في هذا الميتم تعلّمت "كوكو" الخياطة والتطريز، كما تعودت على حياة التقشف والوحدة والكآبة. ولكن في الوقت نفسه نمت عندها قوة التخيل والإرادة ما دفعها لاختراع قصص عن ماضيها تطمس بها طفولتها البائسة وتمحو عبرها تعاسة السنوات الماضية. وشانيل التي كانت ترغب في الهرب من مصيرها، جربت حظها في الغناء في مقاهي مدينة "فيشي" حيث كانت تغني اغنية مشهورة آنذاك تحمل عنوان qui qu'a vu coco هذا اللقب الذي رافقها طوال حياتها، ولكن هناك من يقول ايضاً ان اسم Coco يأتي من لقب p'tit coco الذي كان يطلقه عليها والدها كلما اراد مداعبتها وتدليلها. وبعد مرحلة الغناء الخاطفة والسريعة، تعرفت الى ضابط من البورجوازية الفرنسية الميسورة وبفضله عرفت الحياة الاجتماعية والطبقة المخملية التي قادتها للتعرف الى رجل حياتها وحبها الكبير آرثور كابيل الذي كانت تقول عنه: "إنه اكثر من جميل إنه رائع". ولكن لسوء حظها توفي في حادث سيارة في عام 1919، وبقيت بعده "الآنسة" من دون عزاء لمدة طويلة. وبعد سنوات من الحياة المرفهة قررت غابرييل شانيل ان تصبح مصممة قبعات لإثبات شخصيتها وتأكيد ذاتها، خصوصاً ان كل صديقاتها كن يعجبن بقبعاتها التي كانت تصنعها بنفسها وترتديها. وافتتحت اول مشغل لها في غرفة صغيرة في باريس بإمكانات ضئيلة ومحدودة جداً، لكن الزبونات كن يأتين إليها بدافع الفضول، فقبعاتها كانت مختلفة عن القبعات التي كانت تباع آنذاك. في عام 1910 افتتحت "الآنسة" اول محل لها اسمته Chanel Modes في الحادي والعشرين في شارع كامبون Cambon الباريسي. وأصبحت غابرييل شانيل مشهورة بفضل مجموعة من الألبومات التي تحمل عنوان "الأناقة الحقيقية والأناقة المزيفة" صدرت في عام 1914، وكان رسام الكاريكاتور سيم sem يستوحي من اسلوبها في التصميم لكي يظهر الأناقة الحقيقية، اناقة البساطة، ولم تصبح شانيل خياطة حقيقية سوى عام 1915، وأولى زبوناتها كانت احدى بارونات عائلة روتشيلد المصرفية والتي بعد سوء تفاهم مع بواريه Poiret اهم الخياطين آنذاك، أولت ثقتها لشانيل وتبعتها صديقاتها من الطبقة الفرنسية المخملية. وشانيل لم تكن ترسم موديلاتها، بل كانت تجمعها مباشرة على زبوناتها او على عارضة ازياء، لكي تشعر بالزي يتحرك مع الجسد، وهكذا خلقت طيفاً جديداً للمرأة، من دون مشد ومن دون قيود. كما تجرأت على استعمال قماش الجورسيه الذي كان يقتصر استعماله على صناعة الملابس الداخلية الرجالية فقط. وبعد الحرب العالمية الأولى التي اعلنت عن تغيير كبير في العقليات تقربت النساء من مبدأ الاستقلالية والحرية الذي اعتمدته شانيل في حياتها وابتكاراتها. وفي عام 1917 قصت "الآنسة" شعرها قصيراً جداً وكانت من اولى النساء اللواتي ارتدين البنطلون. لكن جرأتها هذه كانت خالية من الاستفزاز يميزها التوازن ما بين طموحاتها الشخصية وميول العصر، فهي كشفت عن ميول مخفية ورغبات غير معبّر عنها لذلك كانت السبّاقة دائماً. بعد ذلك دخلت شيئاً فشيئاً الى حلقة الفنانين، الشعراء والرسامين الذين اصبحوا اصدقاءها، وشجعت اعمالهم مادياً بتكتم شديد ومنهم ايغور سترافينسكي المؤلف الموسيقي، والرسام بيكاسو الذي كان ينزل في فندقها الخاص في شارع "فوبور سانت اونوريه"، كما ارتبطت بصداقة حميمة مع الكاتب جان كوكتو. وظلت الآنسة شانيل في فترة ما بين الحربين تعيش في قلب الحياة الفنية الباريسية وبخاصة السينما. وفي عام 1931 قبلت اقتراحات هوليوود لكي تكون "مستشارة النجوم" وهكذا صممت لغريتا غاربو ومارلين ديتريش وغلوريا سوانسون وأطلقت عليها الصحف الأميركية لقب: "اكبر دماغ في عالم الموضة". وكانت غابرييل شانيل متنبهة الى كل ما يحيط بها. فاللقاءات والأسفار كانت مصادر وحيها المتجددة دائماً. خلال الحرب العالمية الثانية تركت باريس والتجأت الى منطقة البيرينيه بعد ان اقفلت دار أزيائها في قمة مجدها، وأبقت فقط على محلات الأكسسوارات، ويروى انه بعد تحرير باريس وقف الجنود الأميركيون في صف طويل امام محلها لشراء عطرها الشهير N5 لزوجاتهم وصديقاتهم. وبعد سنين طويلة من التغيب عن ساحة الموضة عادت عام 1954 وكانت في الحادية والسبعين واستأنفت نشاطها في شارع "كامبون" ولاقت اول مجموعة ازياء لها استقبالاً متقلباً لكنها لم تيأس وتابعت وفرضت نفسها من جديد بفضل ابتكارها لتايور التويد والحذاء البيج والأسود وحقيبة اليد ذات السلسلة المعدنية المجدولة مع الجلد. وفي عام 1957 مُنحت في دالاس "اوسكار الموضة"، ومن اهم زبوناتها في ذلك الوقت الأميرة غرايس دو موناكو ودوقة ويندسور وجاكلين كينيدي اوناسيس ورومي شنايدر وفرانسواز ساغان، وكلهن كن نساء يعرفن كيف يوفقن ما بين السحر والذكاء والشخصية القوية. وتوفيت شانيل في عام 1971 في الثانية والثمانين من عمرها في شقتها في فندق الRitz وهي تلفظ هذه الجملة "كما ترون هكذا نموت..." واستعادت موضة شانيل سابق مجدها وأعطيت زخماً جديداً مع وصول المصمم "كارل لاغيرفيلد" في عام 1983 كمبتكر للخياطة الراقية والألبسة الجاهزة والأكسسوارات، واليوم وأكثر من السابق، وفي عصر نشهد فيه عودة واضحة الى البساطة والأصالة يعتبر اسلوب شانيل آنياً وعصرياً في شكل لافت للنظر، وكانت "الآنسة" قد تنبأت بهذا المستقبل لأسلوبها في جملتها الشهيرة "آمل ان تتابع اسطورتي طريقها، اتمنى لها الحياة المديدة والسعيدة". صونيتا ناضر