بعدما خيّر الرئىس جورج بوش الفلسطينيين بين الحصول على دولة مقابل التخلي عن زعامة عرفات... أو التمسك بقيادة عرفات مقابل فقدان الدولة، تجدد الحديث فجأة عن المؤتمر الدولي كبديل من مشروع السلام الذي دفنه شارون في مقبرة اميركا. وكان الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا أول المطالبين بضرورة تحريك عملية السلام المعطلة من خلال تجديد الدعوة لعقد مؤتمر دولي حول الشرق الأوسط. وأيده في هذا الطرح الرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس المفوضية الأوروبية رومانو برودي، علماً بأن الاثنين أعربا عن استغرابهما للصمت الذي أبدته واشنطن حيال المؤتمر. ويتردد في واشنطن ان قرار تأجيل المؤتمر الدولي تم بالتنسيق بين اسرائيل وادارة بوش خوفاً من التأثير على نتائج انتخابات الكونغرس التي ستُجرى في الخريف المقبل. لذلك اشترط رئيس الوفد الاميركي في اللجنة الرباعية وليام بيرنز تطبيق مقترحات بوش قبل الانتقال الى عقد المؤتمر بحيث يصبح الطرفان جاهزين لعرض شكل التسوية الدائمة. ومعنى هذا ان مقررات اجتماع اللجنة الرباعية في لندن ستعرض على واشنطن قبل تكليف الوزير باول مهمة الاتصال باسرائيل والحكومات العربية المعنية من أجل ايجاد صيغة مشتركة لاستئناف الحوار. ومثل هذه الصيغة تحتاج أيضاً الى بلورة موقف فلسطيني جديد على ضوء نتائج انتخابات كانون الثاني يناير 2003. وحتى ذلك الوقت ستظل قضية الشرق الأوسط تراوح مكانها، الا اذا حدثت تطورات غير متوقعة تستوجب المعالجة السريعة والتدخل المفاجئ. تجمع الصحف الاسرائيلية على القول أن ارييل شارون لم يكن جاداً عندما طرح فكرة المؤتمر الاقليمي بدافع الحصول على غطاء اعلامي يظهره بمظهر رجل السلام في حين يشهر سلاح الحرب. ولكن الفكرة استحوذت على اهتمام الرئيس بوش الذي رأى في تنفيذها تجديداً لدور والده في مؤتمر مدريد 1991. وتصوّر بوش ان عملية "الجدار الواقي" ضد العنف الفلسطيني يمكن ان تفتح نافذة السلام الاقليمي كما فتحت حرب تحرير الكويت هذه النافذة على مؤتمر المصالحة في مدريد. لكن توقعاته اصطدمت بتحفظ الدول العربية التي اشترطت ضرورة الاتفاق على الاهداف قبل الموافقة على محاورة شارون. كما اصطدمت ايضاً بخلافات اعضاء الحكومة الاسرائيلية حول التصور الموحد لغايات المؤتمر ومكان انعقاده. وكان ذلك اثر اجتماع خاص عقده شارون مع وزير الخارجية شمعون بيريز في منتصف شهر ايار مايو الماضي بهدف تنسيق المواقف وإزالة التحفظات. وطالب بيريز بوضع خطة عمل تحظى بدعم اللاعبين الاساسيين مثل الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والاممالمتحدة. ورفض شارون هذا الاقتراح بحجة ان السلام يجب ألا يخضع لتدخلات الدول الكبرى، وانما يجب ان يأتي كنتيجة لمفاوضات مباشرة بين اسرائيل والفلسطينيين. وهذا يقتضي بالضرورة ظهور شريك فلسطيني موثوق به غير ياسر عرفات الذي أخل بتعهداته تجاه أوسلو واعتمد اسلوب العنف والمواجهة. مستشار رئيس الحكومة الاسرائيلية داني ايلون وصف المؤتمر بأنه أشبه ب"نادي السلام" حيث يبحث الاعضاء المعنيون - مثل مصر والأردن والسعودية واسرائيل - السبل الكفيلة بتعزيز ظروف الاستقرار الاقليمي في الشرق الأوسط. وشرح ايلون موقف شارون من المؤتمر فوصفه بأنه "وسيلة لتشكيل تحالف سلام في المنطقة يضم دولاً معتدلة لموازنة تحالف الدول المتطرفة الداعية الى الحرب مثل ايران والعراق وسورية". وقال في تحديد موعد المؤتمر ومكان انعقاده: "ان هذه الأمور تبدو أقل أهمية بالنسبة الى الرسالة السياسية التي يضطلع بها المؤتمر". وهي في رأيه تعني اطلاق ديناميكية السلام وخلق اجواء سياسية ملائمة لتوفير الاستقرار والأمن. لكن المؤتمر، حسب تصاريح شارون، لن يكون البديل من المفاوضات الثنائية. الدول العربية رفضت الاهداف التي حددها شارون للمؤتمر الدولي، كما رفضت الطريقة الانتقائية لتصنيف دول المنطقة بين معتدلة ومتطرفة. ورأت في فكرة خلق تحالف مضاد بعثاً لنظام الاحلاف العسكرية التي خلقها جون فوستر دالس منتصف الخمسينات لمواجهة تكتل الدول المؤيدة للاتحاد السوفياتي. ولكي يتوصل الى تحييد اسرائيل ويحول دون استهدافها من قبل جميع شعوب المنطقة، سعى شارون الى تقسيم الدول العربية الى كتلتين، مستخدماً مصطلحات بعيدة عن الصراع العربي - الاسرائيلي. والهدف كما يراه المحللون، هو تفتيت عناصر الاتحاد القومي وإرباك المواجهة التاريخية مع عدو مشترك. ومن هذه الزاوية يمكن النظر الى استبعاد سورية وربط مشاركتها في المؤتمر بتنفيذ ثمانية شروط حددتها لجنة الدفاع الاسرائيلية، ومن أهمها: طرد احدى عشرة منظمة فلسطينية "ارهابية" تحتضنها دمشق، وانهاء دعم سورية ل"حزب الله" في لبنان، وسحب جميع القوات السورية من الأراضي اللبنانية. الرئيس بشار الأسد انتقد بشدة هذا الطرح المريب، وقال للمبعوث الأوروبي خافيير سولانا: "ان سورية لن تذهب الى مؤتمر سلام قبل ان تعرف الطرق المؤدية اليه، والأهداف المبتغاة منه". واكد في اتصال هاتفي مع كوفي انان، ان أي مؤتمر سلام يُعقد يجب ان يكون استمراراً لمؤتمر مدريد ومرجعياته الملتزمة مبدأ "الأرض مقابل السلام". وفي لقائه مع مساعد وزير الخارجية الاميركي وليام بيرنز، وعد الدكتور بشار الأسد بأن بلاده ستدعم أي جهد يلتزم مرجعية مدريد وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، شرط ان تضمن الولاياتالمتحدة الهدف الذي سيتم التوصل اليه وتضع رؤية وآلية لبلوغه. وضمن هذا الاطار أجاب رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، على سؤال يتعلق بموضوع استبعاد لبنان وسورية عن المؤتمر. قال في لقاء في فندق "الدورشستر" ان طرح السؤال بهذه الطريقة يوحي وكأن لبنان وسورية يتزاحمان على الحضور، في حين انهما يرفضان المشاركة قبل التأكد من أهداف المؤتمر وغاياته السياسية. وقال ان لبنان حريص على تطبيق ثوابت مدريد، وان أي اجتماع لا يأخذ في الاعتبار مبدأ السلام العادل والشامل لن يكتب له النجاح. واشنطن في هذا السياق كانت حريصة على اعتماد مبدأ "الأرض مقابل السلام"، اضافة الى تطبيق المبادرة السعودية التي توفر الأمن لاسرائيل شرط الانسحاب الى حدود 1967. وهي ترى مثل الاتحاد الأوروبي، ان السلام الكامل لا يكون كاملاً من دون ان يشمل سورية ولبنان في التسوية النهائية. ولقد تهيأ الرئيس بوش قبل زيارة شارون الأخيرة لواشنطن، لاعلان موعد ولادة الدولة الفلسطينية خلال جلسات المؤتمر الدولي الذي تقرر سابقاً عقده في تركيا آخر شهر تموز يوليو الحالي. ولكن شارون استطاع ان يقنعه بتأجيل قرار اعلان الدولة الى ما بعد انتخابات الكونغرس واختيار قيادة فلسطينية جديدة. وزعم بأن الشعب الاسرائيلي يعتبر اعلان الدولة مجرد مكافأة اميركية تُمنح لمتعهدي الانتحاريين وفي مقدمهم ياسر عرفات. خصوصاً ان الاعلان عن ولادة الدولة سيتم قبل الاعلان عن توقف الانتفاضة وانحسار موجة العنف. وخشية ان تقود مبادرة بوش الى ما قادت اليه مبادرة والده في مدريد عام 1991، اي الى تنازلات قدمها اسحق شامير اوصلت اسحق رابين الى اوسلو، سارع شارون الى الغاء مكاتب الارتباط التي قامت بمقتضاها السلطة الفلسطينية. وهذا يعني الغاء آخر مظاهر التعاون الامني بحيث اصبحت اسرائيل وحدها القوة الضامنة لسلامة شعبها والمسؤولة عن امن الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة. كما يعني ايضاً تحمل مسؤولية توفير الخدمات الاساسية للسكان من غذاء ودواء وعمل. ذلك ان القوانين الدولية، بما فيها قانون الحرب، تفرض على المحتل تأمين الغذاء والخدمات الطبية، الامر الذي اضطر شارون الى استدعاء قوات الاحتياط للسيطرة على المدن. ولقد حذّر الفرنسيون من المخاطر المتوقعة خلال هذه المرحلة لان الجيش الاسرائيلي احتل المناطق الفلسطينية من جديد وعزل عرفات والسلطة الفلسطينية. ومثل هذا التدبير الارعن سيضعف القوة المركزية الوحيدة التي تملك القدرة على حفظ النظام والقانون. ومن المؤكد ان الاحتلال العسكري سيُقوّي موجة العنف ويُغذّي الغضب الجماهيري ويهيئ لخلافة عرفات من القيادات الاكثر تطرفاً وعداء لاسرائيل. في تطور ملفت يتبين ان الثمن السياسي الذي ستدفعه الادارة الاميركية لاسرائيل سيكون باهظاً جداً مقابل دعم الرئيس بوش وتجديد ولايته. ذلك ان "اللوبي اليهودي" نشط طوال الشهر الماضي مع اعضاء الكونغرس في محاولة لالغاء المعونات المقدمة الى وكالة الاممالمتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين اونروا. وطالب المُحرِّضون بضرورة تقليد ادارة الرئيس رونالد ريغان التي اعادت النظر في المعونات بعد العثور على اسلحة في مدرسة لبنانية تابعة للوكالة عام 1982. والمعروف ان "اونروا" تساعد 3.9 مليون نسمة في غزةوالضفة الغربيةولبنان وسورية. وتدعي اسرائيل ان مفوض الوكالة بيتر هانسن تعمد التشويش على حملتها العسكرية وقام بتزييف الحقائق عندما زعم بأن الهجوم على مخيم جنين كان جحيماً لا يُطاق بسبب المذبحة التي ارتُكِبَت. وتقول الحكومة الاسرائيلية ان الوكالة تتجاهل اعمال "الارهابيين" الفلسطينيين وتتجاوز في كثير من الاحيان مهماتها الانسانية. ولهذا قامت بتشجيع الكونغرس على الدعوة لوقف المعونات بهدف الضغط على الفلسطينيين عن طريق منع المساعدات الانسانية عنهم. في خطوة اخرى تُعتبر اكثر وقاحة، امتنعت اسرائيل عن المشاركة في المحكمة الجنائية الدولية التي بدأت عملها رسمياً في لاهاي هذا الاسبوع. وبرّر المستشار القانوني الياكيم روبنشتاين هذا القرار بالقول ان بلاده تخشى الملاحقة بتهمة ارتكاب جرائم حرب بسبب استمرار ساسية الاستيطان ونقل السكان الفلسطينيين من وطنهم. والمعروف ان المحكمة الجنائية الدولية هي هيئة قضائية قامت الاممالمتحدة بتشكيلها قبل اربع سنوات بموافقة 160 دولة من ضمنها اسرائيل. وهي محكمة مخوّلة حسب دستورها، تنفيذ ثلاثة انواع من الجرائم الخطيرة: ابادة شعب، وجرائم ضد الانسانية، وجرائم الحرب. وسيكون باستطاعتها اصدار اوامر اعتقال دولية وزجّ المتهمين في السجن. ولقد اعربت القيادة العسكرية الاسرائيلية عن مخاوفها من اعتقال ضباط وسياسيين وملاحقتهم في الخارج بأمر من هذه المحكمة. والمؤسف ان الولاياتالمتحدة طلبت استثناء جنودها وموظفيها من الملاحقة، مهددة باستخدام حق الفيتو في مجلس الامن ضد قرار التمديد لمهمة قوات السلام في البوسنة. وكانت بهذا التهديد تسعى الى ابتزاز دول الاتحاد الاوروبي واحراج زعمائه معتبرة ان تجاوزات ضبّاطها هي فوق القانون الدولي، مثلها مثل تجاوزات ضبّاط اسرائيل. ولكن عدم المصادقة على انشاء المحكمة لا يعفي اميركا واسرائيل من مخالفات تستوجب المحاكمة بعد الاول من تموز يوليو 2002. ويتوقع ان يثير البند الثالث جدلاً قانونياً لان المحكمة مخوّلة مراجعة جرائم ارتكبها مواطن دولة دخل اراضي دولة اخرى. وعليه قررت سورية تقديم دعاوى ضد من يستوطن في الجولان. وهذا الامر ينسحب على الضفة الغربيةوغزة من الناحية القانونية. كما ينسحب على تجاوزات الاميركيين في افغانستان. * كاتب وصحافي لبناني.