كل يوم من حياة البشر يصبح تاريخاً الا ان ثمة ايام تمتاز بدخولها اسفار التاريخ حتى قبل ان تنقضي. وهذا التكثيف في الاحداث ليس دائماً مبعث بهجة لمن يمر بمثل هذه اللحظات، فعلى حد قول الشاعر الروسي نيكولاي غلازكوف "بمقدار ما يكون العصر ممتعاً للمؤرخ فهو بؤس للمعاصر". واقل ما يمكن ان يقال عن ايامنا انها محبطة وباذسة للملايين. سيتولى المؤرخون لاحقاً تركيب موزاييك القرن الحالي واعتذر لمن يعتمد تقويماً آخر وهم في الارجح سيصنعونها من احداث مأسوية تتجاوز فيها عالمي الامس واليوم. ولكن، مع الاحداث البديهية المفهومة، ثمة احداث يبقى جوهرها سراً ولا تظهر عواقبها البعيدة إلا بعد مضي ردح طويل. والسياسي النزيه لا يقتصر على الدفاع عن "مصالح" معينة او اتباع "نهج" معين، بل ان غايته الكبرى تتمثل في تقليص كمّ الآلام البشرية حيثما كان ذلك في متناوله. ولكن يكون نشاطه ناجحاً ينبغي عليه ان يفهم ما يجري على رقعة شطرنج هائلة عليها مئات الاحجاز في آلاف الخانات ويشارك في تحريكها كم هائل من اللاعبين، علماً بأن هؤلاء لا يتعجلون الكشف عن نياتهم. وفي ظل مثل هذه الظروف فإن اعتماد استراتيجية معقولة يبدو للوهلة الاولى ضرباً من المحال. ولكن لا يندر ان يحصل ان الساسة حينما لا تسعفهم مراكز الدراسات والتحليل تسعفهم الصحافة، المكتوبة منها والالكترونية. إذ ان كتّاب الاعمدة والمخبرون والمعلقون ومقدمو البرامج التلفزيونية وخبراء السياسة العاملون في الصحف يقدمون احياناً تقويمات وتنبؤات وتحليلات مذهلة في دقتها. وفي كل بلدان العالم نجد ساسة يتبرمون من الصحافة وأنا أرثي لحال هؤلاء، خصوصاً في روسيا، اذ اسدى الصحافيون خدمة كبيرة في سياق الانتقال بروسيا من ركان الاتحاد السوفياتي التوتاليتاري الى مستوى دولة ديموقراطية ليبرالية باقتصاد سوق. لذا فأنا لا استطيع حتى ان اتصور اداء عملي من دون الصحافة المحلية والاجنبية، وبوصفي مستشرقاً كنت دائماً اهتم بصحافة الشرقين الاوسط والادنى، وانا تحديداً من القراء القدامى لصحيفة "الحياة" التي ادرك تماماً وزنها وهيبتها. فهي جريدة مقروءة وآراؤها تؤخذ في الاعتبار في العالم العربي وتقتبس عنها كل وسائل الاعلام العالمية. وصدّقوني انني غالباً ما ازور موقع "دار الحياة" على الانترنت، ولذا فانني اقدر عالياً فرصة التحدث الى قراء "الحياة" واطلاعهم على وجهة النظر الروسية، على صعيد الرأي العام والقيادة السياسية والمجلس الاعلى للبرلمان، واخيراً ان اعرض ايضاً رأيي الشخصي الذي قد لا يتطابق مع الصعد المشار اليها، وهذا ما اعتبره شرفاً ومدعاة للسرور. والى جانب مناقشة قضايا العالم العربي اود ان اصحح، ولو جزئياً، الصورة التي تكونت في السنوات الاخيرة عن روسيا في جزء كبير من وسائل الاعلام العالمية، والعربية ليست استثناء. وفي هذا السياق ادرك ان روسيا اذا كانت لقسم من قراء "الحياة" مهمة ومشوقة بذاتها، فانها بالنسبة لقسم آخر مهمة فقط من وجهة نظر قدرتها على او عجزها عن التأثير في احداث الشرق الاوسط، وثمة ايضاً من يتخذ موقفاً ليس ودياً ازاء وطني لهذا السبب او ذاك. وفي زمن "تكثيف الاحداث" الذي اشرت اليه في مستهل المقال فانا اعتقد ان تقويم صورة روسيا سيكون نافعاً لكل الفئات المذكورة. وانا لا اتهم احداً بالتشويه المتعمد لصورة بلدي، وافهم ان التحولات كانت عاصفة الى حد يجعل من الصعب استيعابها وتقديرها بشكل صائب حتى داخل روسيا ذاتها. وعندما التفت الى احداث حصلت قبل 10 - 12 سنة ارى ان النخب الروسية واجهت مهمة مستحيلة التحقيق عملياً، تتجسد في تحويل المنطاد الى طائرة وهو في الجو. وقد كان علينا ان نحوّل بلداً قائماً على هيكل توتاليتاري وباقتصاد توتاليتاري الى دولة ذات مجتمع ديموقراطي ودستور ليبرالي يعتمد الانتخابات الحرة وتبادل السلطة واقتصاد السوق. وكان الكثيرون في العالم موقنين ان هذه التجربة ستؤول سريعاً الى الفشل، وانطلق المحللون من ان النظام الشيوعي لم يفرض على روسيا من الخارج كما في اوروبا الشرقية، بل انه ابتكار روسي ولذا فان الشعب الروسي سيعيده في اول انتخابات حرة. وخابت التنبؤات. وثمة من حاول اقناعنا بأن اقتصاد السوق مستحيل في روسيا، لان طبقة التجار ابيدت منذ امد بعيد، وان البلد فقد ارث العلاقات القائمة على الملكية الخاصة. وهناك من تساءل: اين ستجدون مئات الآلاف من البشر الذين يعرفون كيف تعمل السوق الحرة بما فيها من مصارف وبورصات وسندات وعقود مستقبلية، بل انكم لا تعرفون حتى هذه الكلمات نفسها؟ ولكن هذه الافتراضات لم تتحقق ايضاً. ان الثمن الاجتماعي للاصلاحات باهظ، لكن غالبية شعبنا تدرك ضرورتها وتعتز بالحرية التي نالتها. وبفضل ذلك لم تعرف روسيا الانفجارات الاجتماعية التي اجمع جميع الخبراء على انها "مضمونة". وفي السنوات الثلاث الاخيرة لوحظ نمو مطرد في الاقتصاد الروسي على رغم ان زهاء 60 في المئة منه ما برح "اقتصاد ظل". وهذا امر في غاية السوء اذ ان اموالاً كثيرة تمر من دون تحويلات الى الخزانة، ولذا فان موازنة الدولة لا تتلاءم ابداً مع طاقات وامكانات روسيا، وعلى رغم ذلك فان الافضل ان يكون ثمة انتاج "في الظل" من توقف عن الانتاج "تحت الشمس". والى ذلك فان البقاء في الظل لن يكون ابدياً وستتمكن الدولة من خفض نسبة اقتصاد الظل الى مستوى مقبول. لقد تطرقت الى هذا الموضوع لكي اذكر بأن روسيا عبرت "نقطة القاع" في عصر ازماتها وتحولات بمثل هذا المدى دائماً تترافق مع أزمات وهي تعود الآن الى منتدى الدول الصناعية الاساسية. وابان ذلك يتناسى الكثيرون ان روسيا التي تجرى باستمرار مقارنتها مع الاتحاد السوفياتي لا يقطنها حالياً سوى نصف العدد الاجمالي لسكان الدولة السوفياتية، بينما النصف الآخر موزع على 14 دولة جديدة مجموع انتاجها اقل من نصف ما تنتجه روسيا وحدها. ولدى روسيا قاعدة صناعية رصينة وقدرات ذهنية رفيعة وقوى عاملة ليست غالية الثمن حتى الآن، واحتياط هائل من موارد الطاقة والخامات بما فيها النادرة. ومن حيث ميزان الطاقة فان روسيا دولة عظمى حتى بين "الثماني الكبار" وهي تشغل موقعاً فريداً في عالم الطاقة، وفي روسيا نسبة ربح عالية يقل نظيرها. وكل ذلك، الى جانب الاستقرار السياسي، ينبغي كما نأمل ان يجذب الى روسيا مستثمرين من البلدان العربية، وثمة رساميل عربية تعمل فعلاً في روسيا ولكنها حتى الآن اقل مما ينبغي. ان الوقت يمضي سريعاً، ولن يشعر المتشككون بمروره حين تصبح روسيا بلداً طليعياً ليس من حيث كمية ما ينتجه بل ومن حيث الجودة ايضاً. وانا اعرف جيداً عمليات التحديث في العالم العربي، وسيكون على روسيا ان تستفيد من تلك التجارب. ما قيل آنفاً يتضمن الاجابة على سؤال غالباً ما يوجه علناً او يكون وارداً في السياق وهو: هل لروسيا الحق في ان تبقى واحداً من راعيي التسوية في الشرق الاوسط؟ وهل ان هذا الدور الموروث من الاتحاد السوفياتي يتماشى مع الوزن الاقتصادي والسياسي لروسيا الحالية؟ اذا كان لي ان احكم انطلاقاً من موقف الفلسطينيين عند استقبالهم لجنتنا الخاصة التي تمثل الجمعية البرلمانية للمجلس الاوروبي برئاسة اللورد كيلكوني بريطانيا والتي قامت في 7 - 12 حزيران يونيو بزيارة عمل الى الاراضي الفلسطينية واسرائيل، اقول انطلاقاً من ذلك فان دور روسيا ليس موضع شك، بل ان آمالاً خاصة تُعقد عليها. وكان هدف الزيارة جمع حقائق لمناقشة الموضوع الفلسطيني في دور الجمعية في 24 - 28 حزيران ، وكان في وسعي ان اقول اشياء كثيرة في هذا الشأن ولكن ليس من اللباقة ان استبق الاحداث خصوصاً وانني مكلف اعداد تقرير عن الوضع في الاراضي الفلسطينية لعرضه على الجمعية. ولكن يمكنني القول ان اوروبا، انطلاقاً من قيمها وحرصاً على مستقبلها، ليس بوسعها ان تؤيد أحد طرفي النزاع الشرق اوسطي على حساب الآخر. فهذه المنطقة ترتبط مع اوروبا بعلاقات تاريخية لا حصر لها. والشرق الاوسط هو مهد الديانات السماوية التي تقوم عليها الحضارات الاوروبية، وبالتالي القيم الديموقراطية. والمطلوب من المشاركين في النزاع ابداء قدر اكبر من الشجاعة السياسية والمسؤولية وضبط النفس. وليس ثمة سبيل آخر لا امام الاسرائيليين ولا امام الفلسطينيين. وادراك هذه الحقيقة هو مصدر الامل الذي خرجت به من جولتي في الشرق الاوسط، ولكنه كان معجوناً بمشاعر تقترب من الاحباط اثارتها مظاهر الاسى والآلام التي يعاني منها الفلسطينيون والاسرائيليون. * رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الفيديرالية الشيوخ الروسي.