لئلا تختلط الأمور فتتناقض مواقف العرب من قضاياهم المصيرية في خضم دوامة التصريحات والبيانات المتتابعة للإدارة الأميركية حول الأزمة المستعصية والأوضاع المتفجرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ينبغي على العرب، شعوباً وحكومات، أن يدركوا حقائق السياسة الخارجية لدولة عظمى مثل الولاياتالمتحدة أصبحت تحتل قمة الهرم في النظام العالمي الحالي. فهذه السياسة لا تنبع من فراغ، ولا يعتريها التغير فجأة من دون مقدمات، كما أنها لا تتأثر بالعواطف أو العوامل الذاتية أو تبدل اعضاء الهيئة الحاكمة في هذه الدولة. فهي تخلو من المواقف المندفعة او الجامدة أو المترددة، غير أنها تتحرك بمرونة محسوبة، وتتأثر بعوامل داخلية وخارجية، ويشارك في إعدادها متخصصون في مجالات شتى. ويتم اتخاذ القرارات وتحديد المواقف بعد دراسات ومشاورات عميقة وشاملة. قبل أن يعلن الرئيس الأميركي جورج بوش خطته التي تضمنها خطابه في 24/6/2002، للخروج من "دوامة العنف" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كان امضى سنة ونصف السنة تقريباً في منصب الرئاسة في بلاده، واختبر نتائج ذلك الكم الهائل من الزيارات والمشاورات والمحادثات المتواصلة بين كبار المسؤولين في الدول العربية ونظرائهم في الإدارة الأميركية. وفي وسعنا القول إن بوش في تعامله مع الأوضاع الراهنة في المنطقة العربية سار على نهج المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأميركية التي تميزت بها، لا سيما في ظل الحزب الجمهوري، وكان أول من أرسى أصولها في عقد الخمسينات من القرن الماضي وزير الخارجية المعروف جون فوستر دالاس الذي وضع استراتيجية الأحلاف العسكرية وسياسة "حافة الهاوية" في حقبة الحرب الباردة. وتبعه بعد ذلك الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر، مهندس سياسة الوفاق بين الشرق والغرب، وصاحب ديبلوماسية الخطوة خطوة لتحقيق التسوية السياسية بين العرب وإسرائيل في أعقاب حرب 1973. وأنصار هذه المدرسة يعتمدون في سياستهم وتحديد مواقفهم من القضايا الاقليمية والدولية الحقائق القائمة على أرض الواقع، وتوازن القوى، وأولوية المصالح الأميركية ومصالح حلفاء أميركا. وهم يلجأون إلى استخدام ديبلوماسية انضاج الأزمات تحت نار ملتهبة، وهدفهم من ذلك إضعاف جميع الأطراف وإرهاقهم حتى يشعر كل طرف بالعجز عن التغلب على الطرف الآخر. عندئذ يبدأ تدخل أميركا بإجراء الاتصالات والمشاورات، ثم تقديم المقترحات، ووضع الحلول التي تخدم أهدافها ومصالحها في المقام الاول. وما قام به الرئيس بوش يمثل أحد تطبيقات هذه السياسة. فهو لم يقدم مقترحاته عندما تولى السلطة، على رغم أن الأوضاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين كانت تتدهور بسرعة منذ انطلاق انتفاضة الأقصى في 28/9/2000، كما أنه لم يبادر الى تدارك انفجار الموقف إثر تولي آرييل شارون رئاسة الوزراء في إسرائيل في شهر شباط فبراير 2002، وافراط حكومته في استخدام القوة العسكرية ضد المدنيين الفلسطينين. وهو لم يتدخل حتى بعد أن أقدم شارون على شن حملته العسكرية التي اطلق عليها اسم "الجدار الواقي" ضد المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في الاراضي المحتلة في 29/3/2002. وإنما قدم خطته للحل وفق تصوره في الوقت الذي أوشك فيه الوضع ان يتحول الى حرب شاملة تعم منطقة الشرق الأوسط بأسرها، ومثل هذه الحرب قد تهدد وجود إسرائيل ومصالح دول التحالف الغربي. عندئذ فقط أدلى ببيانه وقدم مقترحاته التي تمثل في الحقيقة استمراراً لسياسة بلاده وتصورها لحل الصراع العربي - الإسرائيلي والتي ترتكز في جوهرها على ما قاله جون فوستر دالاس للوفود العربية في الأممالمتحدة قبل التصويت على قرار التقسيم في 29/11/1947: "إن دولة إسرائيل ستنشأ وإنه من الحمق والخطأ مقاومتها"، وهو ما كرره الرئيس بوش عندما صرح في 27/4/2002 قائلاً: "إن رسالتنا للعالم العربي واضحة وهي: اننا لن نسمح بأن تسحق إسرائيل". هذا في الوقت الذي وافق العرب بالإجماع في مبادرة السلام العربية على إقامة سلام كامل مع إسرائيل في مقابل انسحابها من كل الاراضي العربية المحتلة سنة 1967!. في ضوء ذلك في وسعنا تقويم مقترحات الرئيس الأميركي التي تعتبر استمراراً لسياسة بلاده القديمة الجديدة لتحقيق الأهداف الآتية: 1- توفير الحماية لإسرائيل والمحافظة على أمنها واستقرارها والدفاع عنها في المحافل الدولية ومنع اتخاذ أي قرار ضدها أو إدانة سياستها التعسفية في الاراضي الفلسطينية المحتلة، في مجلس الأمن الدولي. 2- العودة الى اعتبار قضية الشعب الفلسطيني في مختلف أبعادها، قضية إنسانية واقتصادية واجتماعية في المقام الاول، وليست قضية شعب اُغتصبت أرضه وحقوقه المشروعة في تقرير المصير والحرية والاستقلال على أرض وطنه. 3- وضع السلطة الفلسطينية تحت إشراف قوات الاحتلال الإسرائيلي والوصاية الأميركية والحجر على حق الشعب الفلسطيني في حرية اختيار قيادته المسؤولة أمامه أولاً. 4- الدعوة الصريحة الى الدول العربية للاعتراف بإسرائيل، وإقامة علاقات طبيعية معها، وإلغاء المقاطعة العربية لها حتى قبل أن تلتزم بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية التي نطالبها بالإنسحاب من كل الاراضي العربية المحتلة منذ 1967. 5- تقديم كل وسائل الدعم والمساعدات الى إسرائيل لتظل متفوقة عسكرياً على كل الدول العربية، وعدم مطالبتها بوضع منشآتها الذرية بإشراف وتفتيش الوكالة الدولية للطاقة النووية. 6- الاعتراف بالدولة الفلسطينية التي تقوم على الاراضي التي تحتلها إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة وذلك بعد انسحاب إسرائيل الى حدود آمنة ومعترف بها وفقاً لقراري مجلس الأمن: 242 ، 338. مقترحات الرئيس الأميركي تتضمن بعض الايجابيات وأبرزها المطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية، وهذا ما أقرته الأممالمتحدة ووافقت عليه الولاياتالمتحدة في القرار 181 للعام 1947، إلا أن سلبيات المقترحات، هي تلك القيود والشروط التي وضعتها على الفلسطينيين والعرب وطالبتهم بتنفيذها قبل ان تنسحب إسرائيل الى حدود سنة 1967. وهكذا تعود قضايا الصراع الى طاولة المفاوضات من جديد، فكيف السبيل الى الخروج من الحلقة المفرغة التي لم تنته على رغم عقد مؤتمرات عدة، منذ مؤتمر المائدة المستديرة في لندن سنة 1939، وحتى مؤتمر مدريد في سنة 1991. وأخيراً، إذا كانت أميركا صادقة وجادة في مساعيها لوقف دوامة العنف ومنع الإرهاب وتحقيق السلام والاستقرار لجميع شعوب ودول الشرق الاوسط، وإذا كان الرئيس جورج بوش عازماً على بلوغ ذلك في عهده، فليس أمامه الا طريق واضح المعالم، بينته قرارات الشرعية الدولية، وحددت معالمه المبادرة العربية للسلام، وهو انسحاب إسرائيل الكامل من جميع الاراضي العربية، وقيام دولة فلسطينية مستقلة، في مقابل سلام كامل وعلاقات طبيعية. يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين". البقرة 208. * كاتب فلسطيني. أستاذ علوم سياسية.