شكلت حصيلة الألف قتيل وجريح وآلاف المعتقلين والأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية في الاجتياح الأخير لأراضي السلطة الفلسطينية تحت شعار "السور الواقي" ضربة مؤلمة بلا ريب للفلسطينيين. ومع أنها لم تكن كافية لكسر ظهر المقاومة، وهو هدف الحملة برمتها، غير أنها في المقابل كانت كافية لإبراز قبح الوجه الإسرائيلي. فبعد المشاهد الفظيعة التي نقلتها شاشات التلفزة العربية والعالمية، لا نعتقد أنه لا يزال في الإمكان مواصلة ابتزاز عقدة الضمير الأوروبي بالإثارة المستمرة لشبح "الهولوكوست" أو بترديد شعار "معاداة السامية" الذي فقد الكثير من وقعه. وحتى شعار مكافحة الإرهاب الذي التحف به شارون تعسر مطابقته على الحال الفلسطينية لأنها حال احتلال وتشريد تفضي بالضرورة الى مقاومة مشروعة لهذا الاحتلال وهو حق يقره ميثاق الأممالمتحدة. وإزاء الاختلال الفادح في الموازين العسكرية لا يمكن أن يفرض على شعب في وضع المقاومة الشرعية كيف يقاوم والوسائل والأشكال التي عليه أن يستخدمها وتلك التي يحجر عليه استخدامها. وكان الأجدى بالقادة الإسرائيليين والأميركيين أن يفكروا بالأسباب التي تدفع بالشباب الفلسطيني الى العمليات الاستشهادية عوض وصفها بالإرهاب الذي لن يحد منها على أي حال طالما بقيت الموازين مختلة بهذا الشكل والأرض محتلة والشعب مشرداً والوطن من دون دولة. فما هي إذاً أهداف هذه الحملة وما هي نتائجها وكيف تبدو القضية الفلسطينية وآفاقها في ضوء ذلك؟ عندما انتخب الإسرائيليون شارون لرئاسة الحكومة خلفاً لإيهود باراك في 2001 عبّر المجتمع الإسرائيلي في شكل مفارق ورشيق، وفي تمام الانسجام مع المسار الذي انطلق من أوسلو، عن طموحه ورغبته في التعايش السلمي مع الفلسطينيين وفي سلام لا يعني الاستسلام بالنسبة اليه. لكنه مع ذلك سلام مضمون بالقوة. وهو أمر مفهوم ومنسجم مع القاعدة في مثل هذه المواجهات التي لا مآل لها غير السلام العادل أو القابل للعيش. وكان رد الرئيس ياسر عرفات والمقاومة الفلسطينية على المجتمع الإسرائيلي مندرجاً هو الآخر في الإطار والمنطق نفسيهما بإطلاق الانتفاضة الثانية مع تصدر الخط الراديكالي لقيادتها. وكان كل شيء يسير بحسب منطق طبيعي في هذه المرحلة سعياً الى الاقتراب من الحل، إذ إن الإطار الذي رسم في صعود اليميني شارون من جهة، وإطلاق الانتفاضة الثانية بقيادة مروان البرغوثي و"حماس" من جهة أخرى، هيأ لما يعرف كلاسيكياً بربع الساعة الأخير الذي من طبيعته أن يكون دموياً وعنيفاً في معركة الموت الضارية التي تستنفد بالضرورة القوى الأكثر تطرفاً وراديكالية من الجانبين الى حد الاستنفاد والإعياء المتبادل. وعند بلوغ هذا الحد، وعند بلوغه فقط، يصبح السلام ممكناً. ثم بعد ذلك تفتح المرحلة الموالية، وهي الوجه الآخر للعملة، مرحلة الردع الداخلي وسيطرة القيادة السياسية على جناحها المتطرف، وهو الشرط الثاني لاستتباب الأمور وعقد السلام. لكن المغامرة التي أقدم عليها شارون بانخراطه الأعمى في التعبئة العسكرية الأمنية التي شهدها العالم غداة أحداث 11 أيلول سبتمبر والتي شكلت فرصة مفارقة للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين حوّلها هذا السفاح الى انحراف عبثي في استخدام القوة العسكرية بصفة عمياء. وشكل الانسحاب التكتيكي المؤلم لكن الضروري والذكي الذي قامت به فصائل الخط الأول للانتفاضة ضربة لشارون زادت من جنونه وأفقدته توازنه وسلبت منه الهدف العسكري الرقم واحد لحملته التي ارتدت أهدافها ورموزها المتمثلة في هدم مخيم جنين على رؤوس ساكنيه من المدنيين العزّل ومحاصرة كنيسة المهد، الى صور تلامس فقدان الحياء وهي كانت مجلبة للشعور بالذنب والخجل لسادس قوة عسكرية في العالم. غير أن خيبة شارون لم تتوقف عند الحد العسكري بل كانت خيبة سياسية أيضاً عندما استهدف عرفات زعيم الثورة الفلسطينية الذي كلف اسرائيل 26 عاماً من العناء لتجد فيه مخاطباً كفياً والذي أبى إلا أن يشرع صدره للموت في وجه دبابات شارون وهو محاصر. ولم يكن دافع شارون الى ذلك حقده الشخصي على عرفات فقط وإنما أيضاً ما أورثه من مرارة لدى قادة حزب العمل الذين نفد صبرهم في التعامل معه من دون أن يدركوا أنه لا يزال يفصلهم عن السلام مرحلة يصعب تجنبها، وأنه الى ذلك لا يمكن لمن يبشر بالسلام أن ينجز سلاماً. وفي الحصيلة الأخيرة وبعدما أخطأ شارون إصابة أهداف حملته وبعد هذا المشهد الكريه الذي خلفه يتساءل المرء ما الذي تبقى بيد إسرائيل أن تفعله من دون أن تهدر الى غير رجعة صور اليهودي المطارد والمضطهد والمحاصر على الدوام وهي مصدر استدرار تعاطف العالم مع الدولة العبرية؟ لقد أضاع شارون بعبث القوة المجاني ورقة ثمينة على إسرائيل، فيما استطاع الفلسطينيون، بانسحاب الصف الأمامي للانتفاضة انقاذ العودة الى الانتفاضة مجدداً وأمنوا استراتيجية المقاومة وبذلك حافظوا على ورقة ثمينة. وبصرف النظر عن التفاصيل المؤلمة في بعض الحالات، فإن ما يجرى ترتيبه الآن في البيت الفلسطيني تحت عنوان الإصلاح والعودة الى طاولة المفاوضات ليس سوى تعهد في أعلى درجات المسؤولية للمصلحة الوطنية العليا في وضع محكوم بشروط عصيبة. فالحكام العرب يجدون أنفسهم بين المطرقة والسندان في خيبة مزدوجة: بين استحالة القيام بأي دور عسكري ضد إسرائيل وضرورة قمع كل أعمال المساندة الشعبية للقضية الفلسطينية لما تشكله من تهديد مباشر لسلطاتهم. والمجتمع الدولي خاضع للإرادة الأميركية ومنصرف كل بطريقته ووفق مصالحه في حملة مكافحة الإرهاب التي نزلت رحمة من السماء على عدد منهم، مما غيّر سلم الأولويات وشوّه التعاطي مع القضايا العادلة والمشروعة. والوضع الفلسطيني عموماً ووضع المقاومة خصوصاً، في أمس الحاجة الى تضميد الجراح والتقاط الأنفاس بعد الضربة الموجعة التي تلقاها. وبرهن عرفات على قدرة فائقة على التحول من موقع الى آخر، بحسب المقتضيات العويصة والفريدة، لحماية كفاح شعبه وبلورته فهو حرر القضية الفلسطينية من الابتزاز العربي وأكسبها هويتها وشخصيتها المستقلة، ووقف مستنصراً بعبد الناصر ثم بصدام، ولما أحس بأن شعبه سيتعرض الى عقاب دولي جراء مناصرته للعراق اندفع في مغامرة اوسلو التي لم تمنعه من تفجير الانتفاضة الثانية. وبعيداً من توترات اللحظة الحرجة ومهما اختلفت التقديرات، وبقطع النظر عن الاعتبارات العقائدية وتلك المتعلقة بالمشروعية، فلئن لم يتغير جوهر معادلة الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني المتمثلة في: الراحة التكتيكية من جهة والقلق والذعر الاستراتيجي من جهة ثانية في الجانب الإسرائيلي، والألم والمصاعب التكتيكية من ناحية والراحة الاستراتيجية من ناحية ثانية في الجانب الفلسطيني، فإنه يمكن القول إنها شهدت شيئاً من التعديل لغير مصلحة الإسرائيليين نتيجة اخطاء شارون. وأن الفلسطينيين بالنتيجة لم يكونوا يوماً أقرب الى السلام مما هم عليه الآن. وما تجدر ملاحظته هنا فقط هو أن هذا السلام أو هذا الصلح لن يغيرا من الاختلالات الأساسية لهذه المعادلة، إلا انه وحتى يكتب لها الانعقاد لا بد ان يشهد الجزء الضعيف من طرفي المواجهة تطوراً ايجابياً يكفي لإرساء سلام قابل للعيش وهو ما يعني التخفيف من آلام الحاضر الفلسطيني وعسره والإحراز على شيء من الهدوء والاطمئنان على المستقبل الإسرائيلي. ويبقى الحل الأخير والحاسم لهذه المعادلة الصعبة رهن شروط تاريخية لم تتوافر بعد ورهن رؤية استراتيجية جديدة تقوم خلافاً لما يفكر به الإسرائيليون الآن وكذلك العقائديون الفلسطينيون، ليس على التحصن بالأسوار والقلاع الواهية ولا في القضاء على اليهود وإخراجهم، وإنما على إقامة دولة موحدة عبر صيغ متصاعدة ومراحل متعاضدة تكون ديموقراطية ولكافة مواطنيها. فلا يمكن من ناحية اصلاح خطيئة بخطيئة أخرى كما لا يمكن من ناحية ثانية لأقلية مهما كانت قوية ومدججة بأعتى أنواع الأسلحة أن تخضع أكثرية مقاومة مهما بدت عليه من ضعف الى ما لا نهاية. وهذا هو الدرس العظيم الذي يمكن استلهامه من تجربة المعاناة التي دامت 400 عام في جنوب أفريقيا. * سياسي تونسي