انعقد في الآونة الأخيرة لقاء منظمة الزراعة والتغذية في العاصمة الايطالية روما وحضرته ضمن من حضر من رؤساء الدول والحكومات باقة من رؤساء أفارقة كان من أبرز زهورها روبرت موجابي رئيس زيمبابوي. وفي حين كانت مشكلة الفقر في دول العالم الثالث هي الموضوع الرئيس للقاء، إلا أن خطب الوفود لم توفر جهداً للعن العولمة واتهام الدول المتقدمة بإفقار وتجويع شعوب العالم الثالث ثم التخلي عنها لتواجه محنتها القاسية. والحق أن كثيراً من دول ذلك العالم الثالث، والافريقي منها على وجه الخصوص، قد جرى استغلال ثرواتها عندما كانت مستعمرات للدول المتقدمة، كما أن كثيراً منها لا يزال موضوعاً للتلاعب التجاري الذي تمارسه تلك البلدان المتقدمة. إذاً فللمسألة جانبان، أولهما أن أغلب دول العالم الثالث، والافريقي منها كما ذكرنا على وجه الخصوص، قد جرى بالفعل استغلال ثرواته إبان خضوعه للاستعمار، لكنه وان حق له الحديث عن استغلال استعماري لكتابة التاريخ إلا أن ذلك لا يسعفه مبرراً لما يعانيه من فقر وتخلف. فدوله قد حصلت على الاستقلال وتولت أمرها منذ زمن بعيد حكومات من عندها، حكومات جديدة أزاحت تلك التي ورثت السلطة من الاستعمار وكان أولى بتلك الحكومات أن تكشف عن عيوبها وتقوم بتوجيه اللوم الى نفسها إذ أن معظمها يدار من قبل من يفتقر الى الموهبة ويحيط نفسه بأعوان لا يجري اختيارهم على أساس من الكفاءة، وعليه فقد صار أمر إدارة اقتصاد تلك الدول الى أيدي أقل مواطنيها قدرة على ادارة الأمور وبالطبع فإن النتيجة لا بد أن تكون مزيداً من الفقر ومزيداً من الاضطراب. هذا عن الجانب الأول من المسألة، أما عن الجانب الثاني ففي القضية شيء من الحقيقة الى جانب شيء من الأوهام، أما الحقيقة فهي أن الدول المتقدمة لا تراعي في تعاملها الاقتصادي مع المتخلفين القدر اللازم من العدالة وهي لم تقم انسانياً بما يجب عليها القيام به مراعاة لحال التخلف في دول العالم الثالث بحيث تقدم لها حصة من المساعدات وقدراً أكبر من المعونة الفنية بالاضافة الى ما هو ضروري من فتح ما يمكن فتحه من أبوابها لصادرات تلك الدول. هذا عن الحقيقة، أما الأوهام فهي تركيز معظم زعماء العالم الثالث ناهيك عن كتابهم ومفكريهم، على محاربة العولمة وإدانة تحرير التجارة الدولية والمطالبة بتعلية الأسوار وإدامة الحدود من دون الالتفات الى اداراتهم العاجزة وسياساتهم المشربة بالسطحية والارتباك. هذا ومن الملفت للنظر اعلان البنك الدولي عن وجود مليارين من الجوعى والفقراء المدقعين. والذي طرح في مناقشات لقاء منظمة الزراعة والتغذية، سالف الذكر، لم يحرك لدى الوفود الممثلة لأولئك الفقراء أي احساس بتأنيب الضمير ولم يكن أكثر من مناسبة لأن يرفع زعماء من أبرزهم الرئيس موجابي عقيدتهم بادانة دول وشركات المتقدمين، كل ذلك مع الحرص على التنصل من تبعة ما تعانيه الشعوب التي هم لها حاكمون. والحق أنني لا أرغب أبداً في أن أدافع عن الدول المتقدمة ولا في أن أدين زعماء العالم الثالث الميامين، ولكنني أرغب فقط في أن أنبه الى أن الجزء الأخطر من المسؤولية عن الفقر والتخلف في معظم العالم الثالث يجب أن يتحمله حكامها، فأغلبهم يملك سلطة مطلقة لم تتمتع بها حتى حكومات الاستعمار وأغلبهم يتصرف بحرية لا يعكر عليه صفوها أحد من المعارضين ومن ثم لا يصح التسليم لمعظم أصحاب السلطة في العالم الثالث بالحق في الاعتذار عن الفشل في معالجة الفقر والمرض والتخلف خصوصاً وهم يتخذون القرارات على انفراد ويستعينون بأناس أوفياء غالباً ما يفتقرون الى الكفاءة وهم بعد ذلك يستقرون في السلطة زمناً يكفي لتحقيق أية انجازات. حقاً لقد كان على وفود الدول المتخلفة التي قدمت الى لقاء منظمة الزراعة والتغذية أن تعترف بمسؤولياتها عما تعاني شعوبها من الفقر والأمراض بدلاً من إدانة الغير، ذلك الغير الذي وان صح تحميله قدراً من المسؤولية إلا أن القدر الأكبر منها يقع على عاتق حكومات الميامين. إن الحديث بصراحة وواقعية لا بد أن يدفعنا الى القول بأن أية مساعدات مالية أو فنية تقدم الى الدول المتخلفة أو النامية ستتوزع بين مسارب الفساد وبين المشروعات الاستعراضية المكلفة والفاشلة ولأننا نفضل ضرب المثل بحاكم توفاه الله تجنباً لما يخشى المرء من احراج فاننا نذكر بما فعله موبوتو سيسيكو رئيس الكونغو الراحل عندما انفق بليوناً ونصف البليون من الدولارات على بناء كنيسة فخمة، ناهيك عما يمكن الاشارة إليه من استخدام بعض الزعماء للمساعدات في شراء السلاح وتمويل الحروب الأهلية وحروب الحدود وغير ذلك من تشييد القصور وقاعات الخطب والمؤتمرات. إن على المشفقين على فقراء العالم الثالث ان يتحدثوا عن فساد الادارات التي تبدد ما لديها وما تحصل عليه قبل ان يطالبوا بأن تقدم اليها مساعدات والا ظلت آباراً بلا قيعان تبتلع كل ما يراق فيها من مياه. ولننظر الى زيمبابوي مثلاً حيث يتمتع الرئيس موغابي بقدر من السلطة لم يتمتع به الحاكم البريطاني ابان الاستعمار، وهو زعيم لا راد لقراراته ولا حسيب ومع ذلك كانت حصيلة حكمه منذ الاستقلال حصيلة تدعو الى الرثاء، وهو بدلاً من ان يعيد النظر في سياساته وفي مواهب اعوانه وفي نظامه فضّل الاستمرار في ادانة حكومات الغرب وشركاته وتحميل المؤامرات مسؤولية ما يعانيه شعبه من العوز والاضطراب ثم ليصبّ اخيراً من فوق منصة لقاء منظمة الزراعة والتغذية جام غضبه على الدول المتقدمة مطالباً اياها بالالتزام بإنقاذ فقراء افريقيا من العوز والامراض. ودعونا نقول ان على دول المتقدمين واجب انساني تمليه مسؤوليتها التاريخية في ان تأخذ بيد الشعوب الفقيرة الجائعة وخصوصاً من كان منها في القارة السمراء وان تقدم قدراً اوفر من المساعدات وقدراً اكبر من المعونة الفنية. كما عليها في ظل عولمة التجارة واختلاط الاسواق ان تراعي في مجال التجارة، مع دول العالم الثالث الفقيرة، قواعد تتسم بالعدالة وان تقبل بضرورة التفريق بين تعامل المتقدمين في ما بينهم وبين تعاملهم مع الفقراء، فهؤلاء المعوزون يحتاجون الى كبح اندفاع مسيرة العولمة واختلاط الاسواق زمناً يكفي لتأهيلهم ليلعبوا دور الشركاء القادرين على العيش في عالم تتساقط فيه الحواجز وتنخفض الحدود. لكن يظل علينا عندما نقول ذلك، ان نعترف بان اي مساعدات مالية او فنية كما ان اي معاملة خاصة بالمتاجرة والتبادل مع دول الفقراء لن تكون ذات جدوى من دون ان تصبح تلك الدول مؤهلة للاستفادة وليس للاهدار. وبالطبع فان تأهيل اية دولة ثالثية او افريقية يحتاج منها الى اعادة النظر في نظامها السياسي بشكل يوفر طريقة لاختيار افضل من فيها لادارتها ويضمن وجود رقابة على اداء تلك الادارة والا تواصل الانفاق السلبي على السلاح وعلى المشاريع الصورية الاستعراضية. ان معظم دول العالم الثالث والتي يثابر زعماؤها على لعن العولمة ولوم المتقدمين هي دول تشغل نفسها بما لا يجب ان تنشغل به وافضل نصيحة تقدم اليها هي ان تدعى للاعتراف بنقائصها وان تحاول تعديل انظمتها وسياساتها بما يكفل لها ادارة ذات كفاءة ومسؤولين لا ينكرون الرقابة ولا يكرهون الحساب. اما مساندتها في لعن العولمة والهاب الأكف تصفيقاً لرئيس يصب جام غضبه الناري على استعمار فارقه منذ زمن بعيد فأمر لا يساعد اية دولة فقيرة على ان تحتل مقعداً بين مقاعد الاغنياء. ان رؤية العالم الثالث الفقير لمشاكله هي رؤية مصطنعة، وهي قديمة قدم الديكتاتوريات فيه وقد جرى تكريسها في مؤتمر هافانا الذي عقدته الدول السبع والسبعون، في منتصف نيسان ابريل من عام 2000، ذلك المؤتمر الذي شدد الزعماء فيه على ادانة الدول الصناعية وحملوها المسؤولية التاريخية والعصرية عما في عالمهم من فقر وتخلف مبرئين انفسهم وداعين لمناهضة ما في العولمة من تحرير للتجارة الدولية، غافلين عن حقيقة انهم غير قادرين على الوقوف في وجه اية تعاملات دولية، ومهملين بذلك ما كان لهم من حق في المطالبة بان تتضمن اية اجراءات لتحرير التعامل الاقتصادي بين الدول قدراً من القواعد العادلة التي تراعي اوضاعهم المرتبكة. هكذا شهدنا زعماء لقاء منظمة الزراعة والتغذية الذي انعقد في روما هذا العام وكأن شيئاً من فهمهم لم يتغير منذ مؤتمر هافانا سوى ان زعيماً، كان قد طالب في مؤتمر العاصمة الكوبية بأن تعيد الدول الصناعية الأموال التي هربها اليها زعماء من العالم الثالث، لم يكرر الطلب في لقاء روما هذا العام، ترى هل ظن ان الامر قد يعنيه في يوم من الايام. * كاتب، رئيس وزراء ليبيا سابقاً.