"هذا الكتاب يصعب النفاذ الى لبه على من ليس لهم إلمام بهذا العلم. وهذا أمر عديم الاهمية على اي حال. فلو انه ما افاد الا في تغذية دماغ واحد، وتحديداً دماغ لينين، لكان اتى أكله في حدود الدور الذي رسمه له مؤلفه". قائل هذا الكلام هو الباحث الفرنسي جيرار والتر، اما الكتاب المعني فهو واحد من اكثرالكتب اهمية وإثارة للسجال في تاريخ الفكر الاقتصادي والسياسي الانساني: "رأس المال" للمفكر الالماني كارل ماركس، مؤسس الاشتراكية العلمية ومبتدع المادية التاريخية. ونعرف، طبعاً، ان ماركس وكتابه كان لهما اثر حاسم وكبير طوال الثلث الاخير من القرن التاسع عشر والقرن العشرين كله، قبل ان يخبو نفوذهما مع العشرية الاخيرة من القرن العشرين، بسقوط الكتلة الاشتراكية وتراجع الاحزاب الشيوعية في العالم. مع هذا فإن "رأس المال" لا يزال يُقرأ ويترجم ويدرس، في استقلال عن المبدأ السياسي/ الايديولوجي الذي ارتبط به، على الاقل انطلاقاً من كونه يقدم، ليس برنامج عمل لحكم اشتراكي، بل سرداً لتاريخ الرأسمالية في العالم، وبالتالي لخلفيات ما كان ماركس يعتبره مفتاح التاريخ: اي الصراع الطبقي. وفي هذا الاطار بالتحديد قد يكون مفيداً ان ننقل عن جيرار والتر نفسه التأكيد على انه "لا يعود الى ماركس الفضل في اكتشاف وجود الطبقات او صراعها" لكنه كان هو، على الاقل، "اول من قال إن صراع الطبقات يؤدي الى ديكتاتورية البروليتاريا" اي الى "مرحلة سياسية انتقالية يكون فيها من مهمة طبقة المضطهدين، وقد صارت طبقة سائدة، ان تضطهد مضطهديها السابقين، وان ديكتاتورية البروليتاريا لا بد ان تؤدي، في نهاية المطاف، الى قيام مجتمع بلا طبقات، وقد لا نكون في حاجة هنا الى التأكيد ان هذا الجانب من تحليل ماركس لم يكتب له التحول الى واقع حقيقي، فيما ظلت للسياق التحليلي لرأس المال، فائدته الجمة، علماً أن كثراً من الباحثين والمؤرخين، اذا كانوا يأخذون على ماركس خطأ تصوراته المستقبلية - على رغم تحقق الكثير منها منذ ثورة روسيا الاشتراكية في العام 1917 - فإنهم يرون صوابية تحليله الفذ لنشوء الرأسمالية ونموها وتاريخها. ومن هنا يضع هؤلاء كتاب "رأس المال" في مكانة فكرية متقدمة، وإن كانت اهميته الايديولوجية موضع سجال وانكار. يحمل كتاب "رأس المال" في الاساس عنواناً، قد يحيل مباشرة الى كانط وهو "نقد الاقتصاد السياسي"، وكان يتعين، بحسب مخطط ماركس الاصلي، ان يصدر خلال حياة ماركس في ثلاثة اجزاء. غير ان المفكر الالماني، وبسبب الظروف التي كان يعيشها في ذلك الحين، بائساً مشرداً مطارداً، لم يتمكن، وهو حي، من انغاز سوى الجزء الاول من الكتاب، في مجلد نشر في العام 1867، اما الآخران فلم ينشرا الا بعد وفاته، وكان رفيقه وزميله فردريك انجلز هو الذي هيأهما للطبع، فنشر المجلد الاول في العام 1885، فيما نشر الثاني في العام 1894. والكتاب موضوع في الالمانية طبعاً، وسيفخر الروس دائماً بأن اول ترجمة ل"رأس المال" للغة اجنبية، انما كانت الى الروسية، وذلك منذ العام 1872، حين ترجم الجزء الاول ونشر، وكان له اثر كبير في تعضيد الحركة الاشتراكية الروسية فكرياً، وفي توجيه الاشتراكيين الروس، ولينين لاحقاً، الى دراسة تطور الرأسمالية في روسيا. وكارل ماركس الذي بدأ الاشتغال على كتابه "رأس المال" منذ اواسط اربعينات القرن التاسع عشر، كان يعتبر هذا العمل مؤلفه الرئيسي، وكان يتطلع الى ان يتضمن الكتاب في اجزائه الثلاثة خلاصة فكره الاقتصادي والفلسفي والاجتماعي. ولئن كان مؤرخو الفكر رأوا دائماً ان الجانب الاقتصادي في "رأس المال" يتفوق على الجوانب الاخرى، فإن لينين والذين حذوا حذوه كانوا يرون ان هذا الكتاب الى كونه "اعظم دراسة اقتصادية كتبت في تاريخ الفكر"، يعتبر ذا "اهمية فلسفية هائلة" - بحسب تعبير "الموسوعة السوفياتية" التي تنقل عن لينين قوله ان هذا الكتاب "يقدم نموذجاً للتحليل العلمي المادي لأحد تشكيلات المجتمع وأكثرها تعقيداً، وهو نموذج اعترف به الجميع ولم يتجاوزه احد". ونعرف اليوم ان كثراً من العلماء وأصحاب النظريات لا يرون هذا الرأي، رائدهم في هذا المفكر الفوضوي باكونين، معاصر ماركس الذي قال عن هذا الاخير: "يعاني ماركس من العيب الذي يعاني منه جميع العلماء والمحترفين: انه متمذهب، فهو يؤمن مطلق الايمان بنظرياته. وهو من عالي نظرته يزدري الناس. وقد بلغ به الامر الى حد اعتبار نفسه وبمنتهى الجدية، جسر الاشتراكية الاعظم". يتألف "رأس المال" اذاً، من ثلاثة مجلدات، واصل كارل ماركس العمل عليها حتى وفاته. وكان هدفه الاساس منه ان يبين "ان الرأسمالية ظاهرة نامية، وانها اسلوب انتقالي - من الناحية التاريخية - من اساليب الانتاج، تقوم تغيراته الكمية بدور الاعداد لمتطلبات تغيره الجذري والكيفي، أي لوثبة نحو الاسلوب الاشتراكي الجديد في الانتاج". ويشتمل تحليل ماركس للرأسمالية طوال الكتاب "بعرضه لضروب التناقض في حركة الرأسمالية ونموها من البداية الى النهاية، من العلاقات الاولى للانتاج السلعي، الى نقطة الذروة عندما تحين، حتماً، لحظة نزع ملكية نازعي الملكية". وفي كتابه يتابع ماركس تلك المتناقضات ويدرس تغير محتواها وطرق حلها، صانعاً في طريقه قانونه الخاص بتطور التشكيلات الاقتصادية - الاجتماعية، حيث يؤكد ان "التطور التاريخي للتناقضات الكامنة في شكل معين من اشكال الانتاج هو الطريق الوحيد الذي يمكن به حل هذا الشكل من اشكال الانتاج واقامة شكل جديد". ومهما يكن من الامر فإن ماركس، كتب بنفسه محذراً، وفي شكل مبكر، من اساءة فهم منهجه حيث قال: "ان منهج التحليل الذي استخدمته، والذي لم يكن قد سبق استخدامه في المواضيع الاقتصادية، يجعل من الصعوبة بمكان قراءة الفصول الاولى من الكتاب". يحمل المجلد الاول من "رأس المال" عنوان "تطور انتاج رأس المال" وهو كما يدل عنوانه يدرس "العملية التي ينتج بها رأس المال". اما المجلد الثاني فيدرس عملية التداول، فيما يحلل المجلد الثالث الانتاج الرأسمالي ككل. وترى الموسوعة السوفياتية ان كتاب "رأس المال" يعتبر ايضاً، تجسيداً محسوساً للتحليل المادي الجدلي للمفاهيم وصور التفكير الاخرى، وهو تحليل يتم بمساعدته تمثل الواقع الموضوعي في كل تعقده وكثرة اشكاله". واذ ترى الموسوعة نفسها ان "المفاهيم الاقتصادية التي يستخدمها ماركس مرنة متحركة ومتناقضة جدلياً" تؤكد انها "تعكس قابلية التغيير في العلاقات الاجتماعية وما تنطوي عليه هذه من تناقض" ذاكرة ان "لمنهج الانتقال من المجرد الى المحسوس الذي طوره ماركس وطبقه في "رأس المال" اهمية خاصة، اذ يعكس تطور المفاهيم ومنطق نموها وتحولاتها، تاريخ الانتاج السلعي والتطور التاريخي لأسلوب الانتاج". ومع ذلك - تقول الموسوعة نفسها - "بيّن ماركس ان العلاقة بين ما هو تاريخي وما هو منطقي ليست علاقة بسيطة مستقيمة الخطوط - وحيث ان اسلوب الانتاج الرأسمالي يخضع ويعدل المقولات الاقتصادية التي كانت موجودة في الماضي رأس المال التجاري والنقدي والريع... فإن التحليل المنطقي يتطلب ان نمضي من المقولة الاساسية والحاسمة وهي المتعلقة برأس المال الصناعي". كارل ماركس، مؤلف "رأس المال" هو، بالطبع، احد اكثر المفكرين الاقتصاديين والفلسفيين اثارة للجدل، لأنه يكاد يكون المفكر الوحيد الذي تحول فكره الى مشروع سياسي تحقق طوال عشرات السنين، وتبنت افكاره مئات الاحزاب والتنظيمات السياسية. وهو ولد في العام 1818 في مدينة تريير الالمانية، ليموت في لندن في العام 1883. وكان ابوه محامياً من اصل يهودي آثر النزعة العلمانية ثم اعتنق البروتستانتية لكي يتمكن من الزواج، ومنذ صباه اهتم كارل ماركس بالأدب والفن. وفي الجامعة انضم الى اليسار الهيغلي ولاحقاً اختار طريقه الخاص. وصار ثائراً محترفاً وكاتباً وصحافياً، وعاش متجولاً في اوروبا، يروج للثورة مع صديق عمره انغلز، وكتب عشرات الدراسات والمؤلفات، التي اعتبرت ترسانة الفكر الاشتراكي الماركسي طوال عقد ونصف العقد من الزمن.