دخلنا مع فوج السواح وغرقنا في طوفان الناس. شمع وبخور وأعمدة كثيرة وأدراج رفيعة ملتوية وعتمة وسقوف شاهقة لقباب تعشّشها عصافير وأسراب حمام. قال راهب لفوج السيّاح: "هذا الطريق الى الجلجلة". فمشوا ومشيت أتبعها، أو هكذا خيل إليّ. رأيتها تلحق بالفوج فسرت ببطء في الخلفية أتأمل هذا وأتأمل تلك وأسمع اللغط المهموس والرطن الغريب بكل اللغات. اسبان ويونان وأميركان وفوج حجاج من الحبشة وآخر من مصر. عالم واسع في هذا الكهف! كهف وكهوف وسراديب وقباب وأعمدة من مرمر. أمن المعقول ان هذا العالم في بلدي وأمام عيني ولا أعرفه؟! طوال عمري وأنا أمر من أمام هذا المعبد ولم يخطر لي في يوم ما أن من حقي أن أدخله. ربما لأني اعتدت على فكرة أن الكنيسة ليست لنا، بل لهم هم. لنا الأقصى ولهم هذه. دخلت الأقصى مئات المرات حتى بتُّ أعرفه عن ظهر قلب، أما هذه، أما هذا، هذا الفيضان والطوفان والعالم، هيئة أمم، أنا لم أدخلها حتى الآن! وسرت بطيئاً مع الفيضان وأنا أحس أني أغوص في جو غريب، جو قصصي. والتاريخ وكهوف الزمان وقصة مريم وابنها المصلوب على الجلجلة وخشب الصليب. وناديت همساً "يا مريم". لكن مريم ما كانت هناك، لا بين فوج من اليونان ولا الأقباط ولا الحبشة. "مريم، مريم". وصعدت الدرج واخترقت صفوفاً تضيء الشموع وخوري يفسر لثلة رهبان عن المصلوب ودرب الصليب وأمه تتبعه الى الجلجلة تبكي وتنوح وتتوارى من الرومان وأفراد الجيش. "مريم، مريم!" بهذا الممر، بذاك الدهليز والسرداب والمذبح، ثم مذابح، هذا لذاك وذاك لهذا وأمم وطقوس وطوائف، وملابس غريبة لرهبان برؤوس حليقة وراهبات بأغطية رأس كأجنحة الحمام، والأرثوذكس بلحى وشعور في كعكات. ما هذا الجو؟! كأني غريب في عالم مسحور أتوه فيه ولا أعرف أين طريقي وأين أبحث وكيف أصل. "مريم، مريم". ثم كانت هناك في زاوية ما فيها تمثال للعذراء. كانت هناك على بنك خشبي ووجهها نحو العذراء ويداها مشبوكتان وتصلّي. مشيت على رؤوس أصابعي وجلست على بعد خطوات منها. كان الزاوية خالية تماماً، وسكوت مهيب ونور شحيح ينساب من زجاج ملوّن قرب السقف وشموع خافتة ترتجف من الرطوبة وتيّار الهواء. وسمعتها تنشج وتقول "يا أم يسوع، يا أم يسوع". لكن العذراء لم تجبها وظلّت صامتة واقفة لا تبدي التفاتاً ولا حركة، وظلّت تبتسم بلا تحديد. وسمعت مريم تشهق وتئنّ، فاقتربت بخوف وجلست بجوارها ومددت ذراعي على المسند، ومن دون كلام ولا مقدمات ولا تمهيد، وجدتها لصق صدري تخفق وتنوح وتهمس بكلمات لا أفهمها. فضممتها بالذراع نفسها وبقينا هناك بلا حراك حتى سمعنا صوت الأجراس وجوقة إنشاد تهدر في السقف وتهزّ أركان المعبد. فمشينا معاً، وخرجنا بصمت، وهي لصقي وكأنها جزء مني. ومن هناك صعدنا الأدراج الى الحارات والأزقة ودخلنا ديراً للأرمن، وفي احدى الزوايا تعانقنا حتى ارتطمت فجوات العظم. وكان لي أوّل عناق مع امرأة غير أمي، وبالنسبة اليها، هل كنت الأوّل أم الثاني؟ لست أدري، ولهذا بقيت بلا تحديد ولا أعرف كيف أتصرّف، هل آخذها بطلة قصة أم أستوعبها كبني آدم؟ لكني في ذاك الوقت، وكنت أكتشف عوالمها، غرقت فيها بكل خلاياي وما ترددت ولا لحظة أن أعيش التجربة حتى الموت. دخلنا الدير ومنه الى حارة غريبة. هي حارة فقط ضمن حارات لأقليات من كل الجهات، أرمن، يونان، روس، ألمان وأديرة كثيرة وكبيرة حين تدخلها تصبح حارات. أدخل من دير وأخرج من دير وهي أمامي ولصق ذراعي. اكتشف عوالم سحرية تختبئ بعيداً تحت الأرض. وأحياناً أراها مغروسة على قمة جبل بين الزيتون. وفوق قمة جبل الزيتون والقدس تنداح ككفّ اليد حكت لي قصة غربتها، فهي غريبة في أرض الوطن، وهي غريبة في تلك الأرض. وهي وحيدة بين الأخوة، وهي وحيدة بين الأغراب. لا تجد نفسها إلاّ في القدس ودير مظلم تختبئ فيه من الدنيا ورقابة الأهل والأخوة. * مقطع من رواية "صورة وأيقونة وعهد قديم" للكاتبة الفلسطينية سحر خليفة التي تصدر قريباً عن دار الآداب.