تقول الأسطورة التاريخية ان هنري الرابع، ملك فرنسا، من أجل الفوز بباريس عاصمة لمملكته ارتضى بالارتداد عن البروتستانتية واعتناق الكثلكة مبررا فعلته بأن "باريس تستحق قداسا". بالمثل ألا تستحق الدولة الفلسطينية تغيير قيادة اعترفت هي نفسها بافلاسها لتمكين الشعب الفلسطيني الشهيد الوحيد الحقيقي من وطن ودولة؟ اذا تحقق ذلك فسيكون هو الدرس الأهم الذي استخلصته القيادة الفلسطينية من النقد الذاتي الشجاع الذي تمارسه الآن جراء رفضها لمقترحات باراك التي أغناها كلينتون، في اللحظة التي تجد فيها نفسها وجهاً لوجه مع خطة شارون التي حسنها بوش بلمسات عدة جعلتها أكثر قبولا. ترحيب عرفات بها دونها تحفظات حتى الآن على المطالبة الشفافة بتغيير قيادته مؤشر على فرضية جدية نقده الذاتي المتأخر جداً. تزامن قبول القيادتين الاسرائيلية والفلسطينية للخطة يشير الى أن هذه الأخيرة بدأت تعي المتغيرات الدولية منذ 11 أيلول سبتمبر عندما غدت الحرب العالمية على الارهاب أولوية الأولويات في نظر معظم دول العالم. تريد واشنطن، بعد نجاحها في ايجاد قيادة بديلة لحكم طالبان والقاعدة في افغانستان، ان تكرر السيناريو في فلسطين والعراق. وهي لا تملك مجرد الارادة لتحقيق ذلك بل تملك أيضاً "كارازي" فلسطينياً وآخر عراقياً ستعيد بهما رسم الخارطة السياسية في البلدين بما ينسجم مع رؤياها الاستراتيجية لعالم ما بعد الحرب الباردة وما بعد اعلان الحرب الكونية على الارهاب. اذا كانت قيادة عرفات منطقية مع نقدها الذاتي ومصممة على دفعه الى أقصى نتائجه فستعمل بالمثل الحكيم: "بيدي لا بيد عمرو" فتبادر هي نفسها بكل شجاعة سياسية الى تنصيب القيادة الفلسطينية البديلة لها والتي هي في الواقع جزء منها لكنه ربما كان الجزء الأكثر براغماتية لأنه الأكثر وعياً بالمتغيرات الدولية والأقل تورطاً في الفساد والأقل هوسا بالانفراد بالقرار وبالنضال للنضال وبعبادة "العنف الثوري" وبالوفاء لتقاليد وممارسات الحرب الباردة التي لم تعد تجد لها في حقبتنا مكاناً أفضل من أرشيفات التاريخ. إذا أثبتت الأيام قبول أبو عمار لخطة بوش بحلوها ومرها فذلك سيكون مؤشراً جدياً على احتمال دخوله تاريخ فلسطين والعالم العربي بالطريقة ذاتها التي دخل بها امبراطور اليابان غداة الحرب العالمية الثانية تاريخ بلاده عندما قبل، بلا مقاومة تذكر، أول دستور ديموقراطي في تاريخ اليابان كتبه له وفرضه عليه الاحتلال الأميركي بعد ضرب بلاده دونما ضرورة عسكرية بالقنبلة الذرية لمجرد تجريبها في اللحم الحي. هذا الدستور هرطوقي بالمعايير الثقافية اليابانية لأنه جرّده من منزلته بما هو إلاه معصوم لا يسأل عما يفعل ولا شريك له في صنع واتخاذ القرار، محولا له الى ملك دستوري لا حول له ولا حيلة. بكل شجاعة سياسية تبنى الامبراطور المجرد من حقه التقليدي الخطاب الذي فرضه عليه جيش الاحتلال ليبرر به أمام شعبه هذه القطيعة الحاسمة مع التراث الياباني، مستخدما القاعدة الفقهية الاسلامية: "للضرورة أحكام" ناقلاً اليابان بين عشية وضحاها من الفاشية الى الحداثة السياسية. والجدير بالتأمل والاعتبار ان النخبة اليابانية تشربت بعمق هذه النقلة النوعية من القدامة الى الحداثة. باستثناء أقلية محدودة من اليمين الأقصى، لا يوجد اليوم في اليابان من يلعن أميركا المحتلة حتى الآن للقواعد العسكرية اليابانية والتي تحظر حتى الآن على كل من اليابان والمانيا وايطاليا امتلاك اسلحة الدمار الشامل لصالح اقتصادهم وصالح شعوبهم وصالح الانسانية. ترى هل تغير الرئيس الفلسطيني بعد الهزيمة العسكرية والسياسية التي كابدها شعبه الذي بدأ يتظاهر مطالباً بالخبز، فلم يعد يرى مانعاً من التحول من قائد تقليدي منفرد بالقرار الى قائد رمزي يملك ولا يحكم، أو على الأقل لا ينفرد بالقرار ولا يجمع بين يديه جميع السلطات، مدشنا بذلك تداول الاجيال على الحكم؟ هذه الاجيال التي آن لها، بعد إقصاء طويل، ان توظف مواهبها في خدمة شعبها بحظوظ قوية من النجاح لأنها مرشحة للفوز بصدقية اقليمية ودولية لا غنى عنها لأية قيادة معاصرة، خاصة في بلد مثل فلسطين يقف في عين العاصفة وما زال، كدولة، في حالة مخاض عسير. بالتأكيد من الصعب علينا القبول الطوعي بالفطام عن مخدر السلطة المطلقة - أية سلطة - التي رضعناها في حليب أمهاتنا، لغربة ذلك عن ثقافتنا السائدة حيث التداول على المهام في المجتمعين المدني والسياسي نادر ورئيس الدولة ورئيس الحزب الذي يعارضه لا يعزلهما من منصبيهما الا الموت، وثقافة الحوار غائبة في الأسرة والمدرسة والحزب والمجتمع ووسائل الاعلام. كذلك كانت الثقافة اليابانية قبل الاحتلال الأميركي. لكن القيادة اليابانية استطاعت في لحظة حاسمة القطيعة مع تراثها الاستبدادي بفضل مرونتها الذهنية التي ليست شيئاً آخر غير القراءة الذكية لموازين القوى والتقيد الصارم بمتطلباتها. غياب هذه المرونة يغيّب السياسة ويجعل كل محاولة للتكيف مع المتغيرات مرادفاً ل"وصمة العار" أي للجبن أو الخيانة القومية التي لم يتردد أحمد سعيد في وصم الحبيب بورقيبة بها بعد خطاب اريحا! إذا صحت قراءتي المتفائلة لأفكار أبو عمار فهل يعود ذلك الى وعيه الخاص وشعور المحيطين به بأن القيادة الفلسطينية الأبوية والكاريزماتية بدت نشازا على الساحة الدولية في عصر انحسار الزعامات الكاريزماتية التي يحبوها الفكر السحري الاحيائي، بما هو انتظار للخلاص من قائد موهوب، بعصا سحرية تستطيع بقدرة قادر حل جميع المعضلات! الديبلوماسية الدولية لا تريد منذ الآن التعامل بالحسنى مع بقايا القادة العظاميين لأنه لا يمكن التنبؤ بقراراتهم التي تعبر عن شطحاتهم اكثر مما تعبر عن مصالح شعوبهم المفهومة فهما صحيحا. وحده القرار الحديث قابل للتوقع لأنه منتوج مجتمع مفتوح ومؤسسات حديثة تستخدم معطيات قابلة للقياس. فرضية تغيير القيادة الفلسطينية لنفسها هو السيناريو المتفائل الذي قد يجعل الفضاء العربي الاسلامي يعبر، من خلال فلسطين، من الاستبداد الشرقي الى الحداثة السياسية. لكن السيناريو المتشائم قد يكون أوفر حظا إذا نجحت الوساطات بين المقاطعة والبيت الابيض للوصول الى تسوية يلتزم فيها ابو عمار بتطعيم قيادته ببعض الكفاءات الفلسطينية المهمشة سياسيا ليجعل منهم واجهته الدولية، حتى لا تتكرر اخطاء القيادة المأسوية في كامب ديفيد التي ندمت عليها ولات ساعة مندم. اعترف عرفات الاسبوع الماضي بخطأ رفضه اقتراحات كلينتون التي لن يجود الزمان بمثلها وتمنى ان يطرحها عليه بوش الآن... لكنه لم يقل كلمة واحدة عن الأسباب التي دفعته الى ارتكاب هذا الخطأ وعشرات غيره. فلا بأس من تذكيره ببعضها عسى ان لا تتكرر في المفاوضات التي تلوح في الأفق. الخطأ الرئيس الذي يلاحق القيادات الفلسطينية كلعنة الفراعنة هو الاستهتار بقراءة علاقات القوى التي لا وجود لها في معجمهم الذي لا يعترف الا بالارادوية بما هي ادعاء مزدوج بمعرفة المستقبل وبالقدرة على تحقيقه طوعا أو كرها، الصناعة المتخلفة للقرار التي لا تعير اهتماما للتفكير في الحلول البديلة اذا تعذر تحقيق الرهان الاصلي، والحال ان التفكير السياسي المعاصر لا يشتغل من دون أخذها في الاعتبار، العجز الفادح عن تحديد سلم الأولويات أي تقديم الأهم على المهم عندما يضيق هامش الخيارات. مثلا إذا كان الخيار المطروح الآن هو اما الاحتفاظ بقيادة عرفات واما الحصول على دولة فلسطينية مسالمة، ديموقراطية وقابلة للحياة خلال أعوام. الأولوية هي قطعا للخيار الثاني اذا كانت القيادة عقلانية، الاعتقاد الخلاصي بعد طرح اقتراحات كلينتون بأن بوش سيكون اكثر "عروبة" من كلينتون فيلبي الرغبات الفلسطينية ويعامل أي رئيس لوزراء اسرائيل كما عامل بوش الأب شامير، الوهم الخطير الآخر بأن "السيف أصدق انباءً من الكتب" والانتفاضة أجدى من المفاوضات والاستنساخ المستحيل لخروج تساهال من الشريط الحدود في جنوبلبنان اكثر نخوة من خروجه بعد مفاوضات مضنية لكنها كانت ستوفر على الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي الاما نفسية وخسائر مادية وبشرية خرافية، عدم توقع النتائج الكارثية لاختطاف حماس، المتحالفة موضوعيا مع الاستيطان والاحتلال والمهجوسة بغريزة الموت، أخذا أو عطاء، للانتفاضة بتمويلها الى عمليات انتحارية مرفوضة أخلاقياً ودينياً وعقيمة سياسياً ووصفة مثالية لخسارة الحرب الاعلامية الوحيدة التي بامكان الفلسطينيين كسبها لولاها. لأن قيادة عرفات لم تعرف أو لم ترد احترام هذه المبادئ الاساسية في الممارسة السياسية، فقد ارتكبت اخطاء مميتة سيحار المؤرخون في تفسيرها، ليس لانتهاكها للممارسة السياسية المعمول بها في العالم وحسب، بل ايضا لأن هناك من ذكّرها بها في الإبّان منهم كاتب هذه السطور ومنذ آب اغسطس 2000! الغياب المزدوج للصناعة الحديثة للقرار وللشجاعة السياسية حكم على القيادات الفلسطينية بالعجز عن التكيف مع المستجدات السياسية مما جعلها تكابد الأحداث بدلاً من توقعها ودائما متخلفة بحقبة تتسول اليوم عبثا ما رفضته باحتقار بالأمس، بعدما بات في ذمة التاريخ، وتفوّت بانتظام كل فرصة سانحة لأنها دون الفرصة الضائعة في لعبة عبثية سيزيفية قليلة النظائر في التاريخ. فهل ستكون الفرصة السانحة ظاهريا الآن، التي تلقاها بالترحاب كل من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا والدول العربية الأساسية حتى سورية لم ترفضها حتى كتابة هذه السطور، أفضل حظاً من الفرص الضائعة الأخرى منذ رفض قرار التقسيم عام 1947؟ لا شيء أقل يقينا من ذلك لسوء حظ الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة!