"عودة الجمهورية: من الدويلات الى الدولة" مذكرات الرئىس اللبناني السابق الياس الهراوي، أول رئىس جمهورية ممارس بعد اتفاق الطائف، كان له ان يقود خطوات السلام الأهلي ويلملم أشلاء دولة ومجتمع مزقهما النزاع الداخلي والتدخلات الخارجية والاحتلال الاسرائىلي، وكان شجاعاً في مرحلة تتطلب الشجاعة، خصوصاً انه اقسم اليمين بعد رئىسين اغتيلا قبل مرور شهر على انتخابهما: بشير الجميل عام 1982 ورينيه معوض عام 1989. في مذكرات الهراوي صراحة تميز بها وايماءات واشارات خفية عرفت عنه إذ يقول بالمزاح ما لا يريد قوله جدياً. ورأى غسان تويني في تقديمه كتاب المذكرات ان "لسان الرئىس الهراوي لم يوفر احداً ولا هو يعف عن احد من الذين خاصمهم او هم خالفوه، حتى في فترات التعايش في الحكم، من حسين الحسيني الى رفيق الحريري الى سليم الحص الى "الجنرال" عون والى "الحكيم" سمير جعجع، والسلسلة تطول الى حد ان ثمة من سيقول عن الكتاب انه سجل تصفية حسابات قبل فوات اوانها". في الحلقات الماضية تناول الهراوي وقائع اللقاء والاتفاق في الطائف وانتخاب الرئىس رينيه معوض ومقتله والأسس المتفق عليها لاعادة تكوين الدولة اللبنانية، وانطلاقة الجمهورية الثانية من البقاع الى بيروت، والاجهاز عسكرياً بالتعاون مع سورية على تمرد العماد ميشال عون، ونزع سلاح الميلشيات، والمقاطعة الواسعة للانتخابات النيابية، خصوصاً في المناطق المسيحية. ورسم بروفيل لرفيق الحريري وأشار الى قمع تظاهرة ل"حزب الله" بالسلاح، وروى حادث انفجار كنيسة سيدة النجاة والحكم على جعجع بالأشغال الشاقة المؤبدة وطبيعة مرسوم التجنيس وظروف عدم اعتقال أبو محجن. يصدر كتاب المذكرات هذا الاسبوع عن دار النهار للنشر في بيروت، وهنا حلقة سادسة أخيرة. مفي اليوم الثامن من عملية "عناقيد الغضب" التي أدت إلى مئات القتلى وشرّدت مئات الآلاف من سكانه، شهد الجنوب مجزرة في قانا توّجت يوماً من الرعب لا سابق له في كل العمليات العسكرية والاجتياحات الإسرائيلية للبنان. ففي الثامن عشر من نيسان ابريل لجأ مئات المواطنين إلى مركز القوة الفيجية التابعة للقوات الدولية في الجنوب عقب قصف المدفعية الإسرائيلية المنطقة وسقوط عشرة قتلى في النبطية الفوقا. إنضمّ هؤلاء إلى آلاف كانوا سبقوهم قبل أيام ليحتموا من عناقيد القنابل الإسرائيلية ظناً منهم أنّ علم الأممالمتحدة سيردّ عنهم الأذى. بدأ الإسرائيليون بإطلاق أربع قذائف سقطت قرب المركز فهرع النازحون إلى الداخل للاختباء. عندها انصبّ القصف دفعة واحدة عليهم فسقطت نحو خمسين قذيفة مدفعية أدّت إلى مقتل مئة وشخص فارتفع عدد قتلى المجزرتين إلى مئة وأحد عشر مدنياً. تأثرت عندما أُبلغت الخبر وبكيت عندما شاهدت صور المأساة على التلفزيون وخصوصاً جثث الأطفال والقصف الذي طاول سيّارات الإسعاف وصمّمت إزاء المجازر المتلاحقة على طلب دعوة الجمعية العمومية للأمم المتحدة إلى عقد جلسة طارئة للنظر في الاعتداءات الإسرائيلية. لم نفكر في اللجوء إلى مجلس الأمن لأنّ واشنطن ستستعمل حتماً حق النقض للحؤول دون اتخاذ أي قرار يدين إسرائيل ولأن تأثير الضغوط السياسية على الجمعية العمومية أقلّ مما هو على مجلس الأمن. إتُّخذ القرار في مجلس الوزراء وأُرسل الطلب إلى المنظمة الدولية بواسطة وزارة الخارجية كما اتصلت شخصياً بالأمين العام للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي الذي ردَّ على طلبي بالقول: "أنا وإيَّاك. وسأدعو إلى الجلسة في أقرب وقت ممكن" وحدِّد موعدها في أقلّ من ثمانٍ وأربعين ساعة .... إلى نيويورك مضيت إلى نيويورك في الثاني والعشرين من نيسان 1996 يرافقني وزير الخارجية فارس بويز. وبعد فترة قصيرة من وصولي إلى الفندق جاءني سفيرنا لدى الأممالمتحدة سمير مبارك يقول إنّ مندوبة الولاياتالمتحدة إلى المنظمة الدولية مادلين أولبرايت إتّصلت به للاجتماع بي في الساعة العاشرة مساء. ثار غضبي وقلت للسفير إنّ لكل دولة مهما صغرت مساحتها، كرامتها ولن أرضى أن تحدّد أولبرايت الساعة التي ستلتقيني فيها وحدّدت لها موعداً في الثامنة مساء. إتّصل السفير بها فأبلغته أنّ الساعة لا تناسبها لأنها مرتبطة بعشاء مع السيدة ليا رابين أرملة رئيس وزراء إسرائيل الراحل. لم أحدّد لها موعداً آخر وغادرت نيويورك من دون أن ألتقيها. كان شعوري أنها تريد التمنيّ عليَّ إجراء تعديل في خطابي وخصوصاً على الفقرة التي أطالب فيها إسرائيل بدفع تعويضات للبنان. كانت أولبرايت حصلت على نسخة من الخطاب الذي سلّمته فور وصولي إلى السفارة اللبنانية لتأمين ترجمته بواسطة مترجمي المنظمة الدولية وهم سرّبوه إليها. في اليوم التالي وصلت مادلين أولبرايت إلى قاعة الجمعية العمومية بعد نحو خمس عشرة دقيقة من بدئي إلقاء كلمتي ولم تصافحني كما فعل سائر المندوبين بعد انتهاء الجلسة .... إنتظرت في إحدى قاعات الاستقبال إعلان افتتاح الجلسة لأدخل قاعة الجمعية العمومية حيث استقبلني رئيس الدورة ورحّب بي الأمين العام قبل أن يدعوني الرئيس إلى المنصة. ألقيت كلمة معبّرة زاد تأثّري خلالها من وقعها على الحضور وهنا مطلعها: "إنّ انعقاد الجمعية العمومية اليوم إستثنائياً للبحث في تفاقم الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان هو موضع تقديرنا، كما هو فعل وفاء لمسؤوليتكم أمام وطن يتعرض للعقاب بدون ذنب. نأتي إليكم اليوم حاملين كرامة وطن جريح، ذنبه أنّه لا يؤمن بالعنف والقوة سبيلاً لردع العدوان. كيف يقبل العالم قتل المواطنين اللبنانيين بأفتك القذائف وبالتشريد والقهر والإذلال بينما هذا العالم تداعى إلى الاستنكار في شرم الشيخ لانفجار ناقلة ركاب داخل إسرائيل؟ وكيف يقبل الشعب الإسرائيلي الذي ذاق طعم المذابح الجماعية في أوشفيتز وتريبلينكا وغيرهما أن تبيد دولته أكثر من مئة امرأة وطفل ورضيع وكهل وشاب، وهم مدنيون أبرياء من قانا التي وطأتها قدما السيد المسيح وفيها بانت أولى عجائبه، لجأوا إلى نقطة تمركز القوة الدولية هرباً من مجازر القصف والقتل، وثقة بحصانة الشرعية الدولية؟ وكيف يقبل أن تبيد دولته عائلات في النبطية والعديد من القرى التي لم يتحصن أهلها الا بالصبر والإيمان بالله وبلبنان؟ ماذا تريدون من لبنان؟ هل تريدون فيه مقابر جماعية تتحول مزاراً للعالم فيقول: هذا ما جنته أيديكم كما تشهد مقابر الإسرائيليين الجماعية على ما جنته النازية عليهم منذ ستين عاماً؟ هل لبنان أرض سائبة؟ .... في لبنان دماء بريئة أريقت، إنها تصرخ في كل ركن من أركان منظمتكم وفي ضمير كل الدول المُحبّة للعدل والسلام. تصرخ: أين الحقّ؟ ما أصغر التذاكي السياسي أمام محاولات تدمير وطن، وأمام حسرات أبنائه المقهورين، ظلماً وعدواناً. لترتفع السياسة إلى ما هو جدير بالإنسان. تركت لبنان وأجراس الكنائس تدّق حزناً، والمآذن تكبّر موشحة بالسواد. ووصلت إلى نيويورك حيث مركز الأممالمتحدة المُدافع عن حقوق العالم ولا سيما الدول الصغيرة، وصلت إلى نيويورك فرأيت تمثال الحرية واقفاً. إنّ رمز هذا التمثال كبلادي يناديكم: أعطوا صاحب الحق حقه، في مقابل سطوة القوة سنبقى نرفع راية الحق. في مقابل ظلم العدوان سنبقى نرفع ضوء العدل. في مقابل استباحة الوطن سنبقى نرفع حد الشرعية الدولية. في مقابل الاعتداء بالقتل نرفع اعتزاز الإيمان بالحياة والإنسان. السيد الرئيس، لبنان لا يموت. سيبقى لبنان رافعاً راية الحق والسلام. شكراً." قوطعت كلمتي بالتصفيق مراراً واضطررت في نهايتها إلى البقاء على المنصة أكثر من أربع دقائق أحيي الحضور الذي لم ينقطع عن التصفيق. وفيما كنت أغادر القاعة إقترب بطرس بطرس غالي وطلب عدم مغادرتي المبنى فوراً لأن المندوبين يريدون مصافحتي وتركوا قاعة الجلسات حيث أعطيت الكلمة للمندوب الإسرائيلي. أسرّ غالي في أذني أنه لم ير منذ تسلّمه الأمانة العامة للأمم المتحدة تأثراً واهتماماً على وجوه المندوبين كاللذين شهدهما خلال إلقائي كلمتي .... لقاء كلينتون بعد عودتي إلى الفندق حيث استقبلت عدداً من أبناء الجالية اللبنانية الذين حضروا الجلسة المخصّصة لبلدهم، أبلغني سفيرنا في واشنطن رياض طبّارة الذي وافاني إلى نيويورك أنّ دائرة البروتوكول في البيت الأبيض إتّصلت بالسفارة وطلبت إبلاغه رغبتها في التحدث معه. إتّصل من الفندق فقيل له إنّ الرئيس بيل كلينتون يود لقائي في الساعة التاسعة والدقيقة الخمسين من صباح اليوم التالي. وافقت طبعاً معتبراً أنّ اللفتة شرف لي خصوصاً أنني لست طالب اللقاء، كما لا وسيلة لدي للانتقال إلى واشنطن سوى طائرة طيران الشرق الأوسط. ضربت النخوة عصام فارس الذي كان يزورني وعرض وضع طائرته الخاصة في تصرّفي فرفضت شاكراً لأن في ذهني مخططاً أريد الاستفادة من دعوة كلينتون لتنفيذه. ردّت دوائر البيت الأبيض على السفير الذي نقل إليها موافقتي على موعد اللقاء وطلبي الانتقال على متن طيران الشرق الأوسط، أنّ السماح بهبوط الطائرة في واشنطن يستوجب مراجعة المسؤولين، موضحة أنه سمح لها بالهبوط في نيويورك لأنها تحمل وفداً رسمياً إلى المنظمة الدولية لا إلى الولاياتالمتحدة. بعد نحو نصف ساعة أُبلغ السفير طبّارة الموافقة على هبوط الطائرة في العاصمة الأميركية بشرط أن يتم في مطار واشنطن لا أندروز المخصّص للضيوف ورئيس الولاياتالمتحدة. أجبت أنني ذاهب إلى العاصمة كضيف وبدعوة من رئيس البلاد وأتمنى الهبوط في المطار المعدّ للضيوف. تمّت الموافقة. وصباح اليوم التالي حطّت طائرة لبنانية محظورة وأنا على متنها في مطار أندروز حيث كان في استقبالي عدد من الضباط برتبة جنرال ومعظم السفراء العرب لدى واشنطن ومسؤولة في دائرة التشريفات في البيت الأبيض الذي وصلناه بعد خمسين دقيقة. وخلال فترة الانتظار في صالون مجاور للمكتب البيضوي أُطلق عليه إسم "اكواريوم" جهّزه الرئيس الراحل روزفلت أبلغتني مديرة التشريفات أنّ الوقت المحدّد للمقابلة هو خمس عشرة دقيقة لارتباط الرئيس بمواعيد أخرى. لفتْتُها إلى أنّ الرئيس هو صاحب المبادرة بدعوتي وأنني سأكتفي في هذه الحال بمصافحته وتوديعه في الوقت ذاته. قدمت لي سجل التشريفات فكتبت أنها المرة الأولى التي أتشرف فيها بزيارة البيت الأبيض بدعوة من رئيس الولاياتالمتحدة وكم كنت تمنيت لو جاءت الزيارة في ظرف سلام لكنّها ويا للأسف أتت إثر مجزرة ذهب ضحيتها لبنانيون أبرياء ودمِّر قسم من البلاد بسلاح... وتوقّفت عن الكتابة مكتفياً بوضع نقطة سوداء كبيرة بعد كلمة "سلاح". ولم أكد أُنهي تدوين كلمتي حتى فتح الرئيس كلينتون باب مكتبه قائلاً: "Mister President Good Morning". صافحته وقلت إنّ مديرة التشريفات أبلغتني أن ليس لديك الوقت الكافي للاسترسال في الحديث متمنّية ألا تتعدى المقابلة خمس عشرة دقيقة، فحرصاً على وقتك الثمين أقترح أن يدخل رجال الاعلام فوراً لالتقاط الصور ونحن نتصافح وأغادر بعدها عائداً إلى نيويورك. شعر في حديثي بمزيج من الغضب والعتب فنظر إلى الأشخاص الواقفين إلى جانبه وفي مقدمهم نائبه آل غور وقال لي: "Please Mister President, Take your time". إستُدعي رجال الإعلام فانهالت عليه الأسئلة من المندوبين لا سيما العرب منهم فتحدث عن دعمه للقرار 425 ولسيادة لبنان لأن ما حدث ما كان ليحدث لو أنّ لبنان ذو سيادة كاملة وحر ومستقل وأنّ ذلك يتحقق في الحل الشامل لجميع مشاكل المنطقة، وأنّ الوزير كريستوفر وصل إلى الشرق الأوسط في محاولة لوضع حد للعنف. وشعرت بانزعاج وأنا أسمعه يردّ على سؤال عن الدور الذي ستلعبه الولاياتالمتحدة بالقول إنه سيتحدّث معي في تقديم مساعدات إنسانية إلى لبنان، لذلك عندما توجه الصحافيون إليَّ قلت إنني سأرد على الأسئلة في حديقة البيت الأبيض بعد انتهاء المقابلة. جلس كلينتون وإلى جانبه آل غور ومستشاره لشؤون الأمن القومي وسيدتان تحمل كل منهما ملّفا كتب على أحدهما "الشرق الأوسط" وعلى الآخر "لبنان"، وإلى جانبيّ وزير الخارجية فارس بويز والسفير رياض طبارة الذي طلبت منه أن يؤمن لي الترجمة فيما جلس وراء الرئيس كلينتون مترجم البيت الأبيض وهو سوري الأصل من منطقة الحسكة. إفتتح الرئيس الأميركي الجلسة بالاستفسار عن النقطة السوداء التي رسمتها في سجل التشريفات فقلت إنني حرصاً مني على اللياقة تجنّبت أنّ أسجل أن السلاح الذي استعمل في قتل أبنائنا وتدمير منازلنا وبنيتنا التحتية هو أميركي الصنع فاكتفيت بالنقطة السوداء. واعتذرت عن عدم حملي هدية إليه كما تقضي التقاليد اللبنانية لأن الدعوة جاءت مفاجئة، لكنني حملت شريط مأساة قانا بعدما تركت نسخة منه في الأمانة العامة للأمم المتحدة كوثيقة، وطلبت أن يشاهده بعيداً عن ابنته كي لا تصاب بصدمة من فظاعة الصور. فقال إنه سيفعل. سألني ماذا أطلب فقلت إنسحاب القوات الإسرائيلية تطبيقاً للقرار 425 الذي تقدمتم به إلى مجلس الأمن عام 1978. ردّ بسؤال عن الإرهاب المستشري في لبنان كما قال فأجبت بكل هدوء أن ثمة فارقاً كبيراً بين المقاومة والإرهاب. وسألته عن الأشخاص الذين استقبلوه العام الفائت في منطقة نورماندي الفرنسية حيث حضر إلى جانب الملكة إليزابيت والرئيس ميتران الاحتفالات بمرور خمسين عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية، فأجاب: رجال مسنّون، فقلت: هؤلاء هم الذين بقوا على قيد الحياة من أبطال المقاومة الفرنسية التي دعمتموها بالسلاح وبالمال لمواجهة الإحتلال الألماني. فبأي منطق ساندتم في الماضي المقاومة الفرنسية وتنكرون اليوم على لبنان الحقّ في مقاومة الإحتلال الإسرائيلي؟ عندنا مقاومون لا إرهابيون. وأتمنى أن يخبرك النواب وأعضاء مجلس الشيوخ الذين زاروا لبنان عن الوضع الأمني فيه وخلوّه من الإرهاب، في حين، وأرجو المعذرة لإشارتي، أنه ليلة لا يتعدى عدد الضحايا في شوارع واشنطن عشرة أشخاص تعتبر ليلة خير. وحين ذهبت إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1991 وقابلت الرئيس بوش جاء مدير الشرطة الذي كان متولياً أمني وأعطاني لائحة ببعض الشوارع، متمنّياً عليّ عدم سلوكها، كما طلب منا تلافي الحديقة المجاورة لفندق "بلازا" حيث نزلت، بعد الساعة الخامسة. بدا كلينتون منفعلاً وسألني هل أنا على استعداد لتوقيع سلام مع إسرائيل إذا انسحب جيشها من لبنان تنفيذاً للقرار 425، فلفته إلى أنّ القرار نص على انسحاب إسرائيل من دون شروط ولم يتطرّق إلى أي موضوع آخر. وتابعت أنني في جميع الأحوال سأكون آخر دولة عربية توقّع السلام مع الدولة العبرية لأنني جزء من العالم العربي وأصغر دوله حجماً، وأنّ الروابط التي تشدّني اليه تبدأ بالمصالح وتنتهي بالمصير المشترك. أضفت أنني رغم ذلك أضمن في حال الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب ألاّ يُطلق عيار ناري واحد من أرض لبنان في اتجاه الحدود المعترف بها دولياً مع إسرائيل. ساد صمت قطعه الرئيس الأميركي بعرضه علي مساعدات إنسانية سارعت إلى الاعتذار عن عدم قبولها، لأنني تشرفت بتلبية دعوته كما ذكرت له لأطلب مساعدة سياسية لتطبيق القرار 425، مقترحاً أن تمنح المساعدات الإنسانية لدول أخرى قد تكون في حاجة أكثر من لبنان إليها. إستمرّ اللقاء خمسين دقيقة وكان أعضاء الوفد الأميركي يسلّمون خلاله الرئيس كلينتون بين فترة وأخرى وريقة يقرأها قبل الردّ على سؤال أكون طرحته عليه. وعادت بي الذاكرة إلى لقائي الرئيس جورج بوش عام 1991 حين كان بايكر يدوّن على أوراق صغيرة عناصر الردّ على أسئلتي ويسلّمها إلى الرئيس. قبيل رفع الجلسة سألني الرئيس كلينتون بماذا سأصرّح للإعلام. فكان ردِّي أنني أخبرته أنّ بعض مرافقيّ الذين يزورون الولاياتالمتحدة لأول مرة سألوني عندما أصبحت الطائرة فوق نيويورك عن التمثال الحامل الشعلة فقلت إنه تمثال الحرية قدّمته فرنسا للولايات المتحدة، وإننا الآن في بلد الحرية. تابعت قائلاً إنني جئت اليوم لأطلب المساعدة على استعادة لبنان حريته عبر تطبيق القرار 425 وأخشى إن لم أحصل على ذلك أن يعتبر مرافقي أنّ من الأفضل إعادة التمثال إلى فرنسا. وأضفت أنني أيضاً في بلد عُرِف أهله بالصراحة فقد اشتهر الأطباء مثلاً بأنهم يبلّغون المريض إصابته بالسرطان فور الانتهاء من فحصه بينما في فرنسا يتحججّون بضرورة إجراء فحوص إضافية في اليوم التالي لإرجاء موعد مصارحته، أمّا في لبنان فهو يموت من دون أن يعرف نوع المرض الذي قتله. أنا اليوم في الولاياتالمتحدة وسأقول للصحافيين في الخارج ما قلته لكم في الداخل. وهذا ما فعلت. ربما أجوبتي الصريحة التي كان يترجمها إلى الإنكليزية السفير رياض طبّاره هي التي حملت أحد رجال الشرطة الذين أوكلت إليهم المحافظة على أمني على التوجّه إلى الصحافيين بحدّة بعد فترة قصيرة من بدئهم طرح الأسئلة بتوجيه "السؤال الأخير لفخامة الرئيس." وعلمت في ما بعد أنّ الإدارة الأميركية طالبت السفارة في واشنطن بمبلغ 90,614 دولار رسم هبوط الطائرة اللبنانية في مطار أندروز .... "تفاهم نيسان" وجدت الأجواء أقلّ تشنّجاً مما كانت قبل سفري بفضل الجهود التي بذلها وزير خارجية فرنسا هيرفيه دو شاريت الذي لم يغادر المنطقة قبل التوصل إلى إتفاق أُطلق عليه إسم "تفاهم نيسان" وأُعلن في الساعة السادسة من مساء السادس والعشرين من نيسان 1996 خلال مؤتمرين صحافيين متزامنين عقدهما رفيق الحريري في بيروت وشارك فيه دو شاريت، وشمعون بيريس في القدس بمشاركة وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر. نصت بنود الإتفاق على ما يأتي: 1- "لن تنفذ المجموعات المسلّحة في لبنان هجمات على إسرائيل بصواريخ الكاتيوشا أو أي نوع آخر من الإسلحة. 2- لن تطلق إسرائيل والذين يتعاونون معها النار بأيّ نوع من الأسلحة على مدنيين أو أهداف مدنية في لبنان. 3- يتعهد الطرفان عدم تعريض المدنيين، أياً كانت الظروف، للهجمات وعدم استخدام المناطق المأهولة بالمدنيين والمنشآت الصناعية والكهربائية مركزاً لانطلاق الهجمات. 4- دون انتهاك التفاهم، ليس فيه ما يمنع أي طرف من ممارسة حقه المشروع في الدفاع عن النفس .... البابا في لبنان في الساعة الثانية عشرة والدقيقة العشرين من ظهر يوم السبت الواقع فيه العاشر من أيار مايو 1997 حطّت في مطار بيروت طائرة تابعة لشركة "أليطاليا" وعلى متنها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الذي قام بزيارة للبنان إستغرقت اثنتين وثلاثين ساعة. أطل الحبر الأعظم من باب الطائرة بردائه الأبيض ووجهه الشفّاف وهامته التي حنتها وطأة العمر ونزل ببطء السلّم حيث كنت أنتظره في أسفله وإلى جانبي رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري وغبطة البطريرك الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير. أول ما قام به تقبيل تراب جُمع من المحافظاتاللبنانية ووُضع في علبة من خشب الأرز ثم صافحَنا قبل أن أتأبّط يده اليسرى ونتّجه معاً إلى منصّة الشرف حيث كرسيّان. الكرسي المخصّص للبابا صنع بعلوٍ حدّده الوفد الذي هيأ للزيارة نظراً إلى الألم الذي يعانيه قداسته في فخذه إثر إصابته بكسر. أمّنت دوائر القصر كرسيّين بالشروط المطلوبة واحد إستعمل في المطار وواحد في قصر بعبدا. بعد الاستماع إلى النشيدين الفاتيكاني واللبناني وتقديم قوة من لواء الحرس الجمهوري التحية تبعها مرور كتيبة من الحرس الجمهوري تبودلت الكلمات. ألقيت كلمتي باللغة العربية وقوفاً بينما ظلّ قداسة البابا جالسا يقرأ ترجمتها إلى اللغة الفرنسية: "... يا صاحب القداسة، إنّ الوفاء لأرواح شهدائنا، كلّ شهدائنا، وللشباب وأحلامهم، ولكل الأمهّات والآباء والأطفال الذين عاشوا بين الدمع والحداد ستة عشر عاماً في كل البلاد، ويعيشون كابوس التعدي الجاثم إلى اليوم في الجنوب والبقاع الغربي، هذا الوفاء يتجسّد في عملنا الدائم من أجل بناء الدولة المدنية، دولة الجميع من أجل الجميع. دولة تسهر على حماية المجتمع من آفات التعصب والانحراف، وتكافح الفقر والجهل والمرض. كما يتجسّد في مؤازرتكم المشكورة من أجل تطبيق القرار 425. نحن مع السلام العادل والشامل، نحن مع السلام الذي يقوم على تطبيق القرارات الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام، وإلاّ فأي سلام هو الذي لا يحرّر الأجزاء المحتلة في الجنوب والبقاع الغربي والجولان. يا صاحب القداسة، لبنان أكثر من مرآة للعصر وللعالم، لبنان ضمير العصر والعالم، وإننا في عالم يعيد تنظيم نفسه، ويشهد تحوّلات مستمرّة وانقلابات متلاحقة، وإننا جزء من هذا الشرق، وإننا رائد في هذا الشرق، مستقبلنا هو هنا. مستقبلنا يبدأ من هنا. نحن كغيرنا أمام أسئلة كبرى، وعلينا مع غيرنا أن نساهم في الإجابة عنها، لذلك الديموقراطية هي الطريق الحقيقي لعصر حضاري أكثر استقراراً وأكثر ازدهاراً". بعد انتهاء كلمتي وقف البابا وألقى خطابه باللغة الفرنسية. طلب مني الجلوس فرفضت وبقيت واقفاً. "... سبق لي أن أعلنت في 12 حزيران يونيو 1991، دعوة الجمعية الخاصة لسينودس الأساقفة من أجل لبنان، فبعد مراحل عدة من التفكير والتشاور ضمن الكنيسة الكاثوليكية في لبنان، عقدت هذه الجمعية في تشرين الثاني نوفمبر وكانون الأول ديسمبر من العام 1995. إنني آت إليكم لإحتفل رسمياً بالمرحلة الختامية للمجمع السينودسي. فأحمل إلى الكاثوليك ومسيحيي الكنائس الأخرى والجماعات الكنسية وإلى كلّ البشر ذوي الإرادة الحسنة ثمار أعمال الأساقفة، التي ازدادت غنى بالحوار القلبي مع الأخوة الموفدين. أحمل إليكم الإرشاد الرسولي بعنوان: رجاء جديد للبنان. هذه الوثيقة هي بالعكس دعوة إلى كلّ اللبنانيين ليفتحوا بثقة صفحة جديدة من تاريخهم. هذه الوثيقة هي مساهمة الكنيسة الجامعة من أجل وحدة أكبر في الكنيسة الكاثوليكية في لبنان، ومن أجل تخطي الانقسامات بين مختلف الكنائس وتطوّر البلد الذي دعي اللبنانيون إلى الاشتراك في تحقيقه. فخامة رئيس الجمهورية، إني إذ وطئت للمرة الأولى أرض لبنان، أوّد أن أعبّر لكم، كم أنا شاكر لكم استقبالكم، أوجه إلى شخصكم وإلى المهمة الموكلة إليكم حيال مواطنيكم أمانيَّ الحارة. أوجّه تحياتي الحارة عبر شخصكم إلى كلّ المواطنين اللبنانيين، فمعهم جميعاً أصلّي من أجل لبنان كي يكون كما يريده العلي. "الله يبارككم" قالها بالعربية. في القصر الجمهوري فور الانتهاء من كلمته نزل البابا عن المنصّة وصافح المستقبلين. كان مقرّرا أن يصافح سبعين رسمياً فقط لكنه واصل مصافحة المستقبلين فرداً فرداً كما حرص على تحّية رجال الدين المسلمين قبل أن يركب سيارة "البابا موبيل" للتوجه إلى قصر بعبدا الذي كنت سبقته إليه .... اليوم الثاني الأخير لزيارة قداسة البابا تميّز بالقدّاس الاحتفالي الحاشد الذي ترأسه في وسط بيروت والذي استقطب أكبر تجمّع في تاريخ لبنان، كما أجمعت على وصفه وسائل الإعلام الأجنبية. وعلى تفاوت الأرقام من حيث حجم الحشود فأن جميع التقديرات أشارت إلى أنّ ما لا يقلّ عن نصف مليون شخص انتشروا على الطريق الممتدّ من الملعب البلدي في جونيه حيث ركب الحبر الأعظم "البابا موبيل" حتى منطقة المرفأ في بيروت حيث قام بالذبيحة الألهية. وإنّ اعداداً مماثلة شاركت في القداس الذي أقيم في ساحة المرفأ التي اهتمت شركة سوليدير بترتيبها كما رصدت الدولة اعتماداً من احتياط الموازنة للمساهمة في إعدادها للمناسبة. وبدأ القداس الذي شارك فيه جميع رؤساء الطوائف المسيحية بعبارة "السلام لكم" قالها البابا بالعربية فهللّت الحشود المؤلفة من أشخاص ينتمون إلى جميع الطوائف المسيحية كما إلى الطوائف المحمدية. إنني أعتبر أنّ الحضور الكبير ونوعيته والصلوات البالغة التعبير التي إختيرت جعلت القداس من أهم الاحتفالات التي عشتها في حياتي. في صلاة الافتتاح قال البابا: "يا أبناء لبنان الأعزاء، منذ زمن كنت أريد أن أكون بينكم، ومن أجل ذلك صليت طويلا. أنتم أيضاً في وسط آلامكم انتظرتم وصلّيتم من أجل هذه الساعة. الله استجاب أخيرا صلواتنا، وها نحن مجتمعين على أرض لبنان، أرض مقدسة، أرض قديسين وشهداء رسائل حب ورحمة، ومكان لقاء وعيش مشترك لكل أبنائه." وتطرّق في العظة التي ألقاها خلال القداس إلى لبنان والشرق الأوسط: 1- "ها أنا اليوم أحيّيي لبنان. منذ زمن بعيد كنت أرغب في أن أجيء إليكم، وذلك لأسباب كثيرة! أتيت اليوم إلى بلدكم، كي أختتم الجمعية الخاصة لسينودس الأساقفة من أجل لبنان. 2- في هذا الحفل الفريد، نريد أن نحدّث العالم عن أهمية لبنان، ورسالته التاريخية التي اضطلع بها على مر القرون: إنه برهن، باعتباره بلداً للعديد من الطوائف الدينية، أنّ هذه الطوائف المختلفة يمكنها أن تعيش معاً في سلام وأخوّة وتعاون، وبرهن أنه يمكن احترام حق كلّ أنسان في الحرية الدينية، وأنّ الجميع متحدون في مجتمعهم لهذا الوطن الذي نضج على مر القرون، محافظاً على إرث آبائهم الروحي، والأخص إرث الراهب القديس مارون".