في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، ولدت في أوروبا أولاً، وبعد ذلك في آسيا، أدبيات جديدة، أضحت الآن واسعة الانتشار ومتنوعة الأشكال إلى أقصى الحدود، تتركز اهتماماتها غالباً في بحث مشكلات الحوار بين الأديان. وعلى مدى السنوات العشرين الأخيرة، عقدت مئات اللقاءات والمؤتمرات والندوات والمناقشات باشتراك ممثلي ديانات وعقائد مختلفة، وصار الحوار بين الأديان إحدى أهم السمات المميزة لعصرنا الجاري. ومن هذه الأدبيات المعنية بإثارة الحوار بين الأديان، خرج كتاب المستشرق الإنكليزي الشهير مونتغمري وات المعنون "الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر"، بعد عشرات الكتب التي وضعها عن الإسلام في العالم، وتشابكاته الدينية والفكرية والفلسفية مع الأديان السماوية الأخرى كاليهودية والمسيحية، ومن أهمها: "محمد في مكة"، "محمد في المدينة"، "فكر الكسب الاكتساب"، وكتابه الضخم "تأثير الإسلام على أوروبا في القرون الوسطى"، إضافة إلى عشرات المقالات التي نشرها مونتغمري في دائرة المعارف الإسلامية الشهيرة. وبصدور الطبعة الثانية لكتاب مونتغمري المهم "الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر" أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن مشروع مكتبة الأسرة 2001، يكون بين أيدينا أحد أهم المراجع الأوروبية، التي تعالج مسألة العلاقة بين الدينين، ومناطق الاختلاف والاتفاق في العقيدة، وكيفية رؤية الأدبيات الأوروبية، أو الأجنبية عموماً، للإسلام والمسيحية ومدى التقائهما مع الديانة السماوية الثالثة، ألا وهي اليهودية. صدر الكتاب في طبعته العربية الأولى في منتصف الستينات، من القرن الماضي، بترجمة متأنية للدكتور عبدالرحمن عبدالله الشيخ الذي قدم للمكتبة العربية عدداً من كتب الرحالة والمستشرقين الأوروبيين، ومن أهمها "رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز" في ثلاثة أجزاء ضخمة، و"رحلة ردولف إلى مصر وفلسطين" في ثلاثة أجزاء أيضاً، و"رحلة فارتيما أو الحاج يونس"، كما ترجم كتاب "رحلة جوزيف بيتس الحاج يوسف إلى مصر والحجاز"، ومؤلفات منها "حيازة الأرض في نيجيريا في القرن 19"، و"الحركة الثقافية في غرب أفريقيا" و"المدخل إلى علم التاريخ" كما شارك في الإشراف العلمي على ترجمة دائرة المعارف الإسلامية ومراجعتها. والآن يصدر الكتاب نفسه في طبعته الثانية، بعد خمسة وثلاثين عاماً على صدور طبعته الأولى، ليؤكد من جديد أهمية الكتاب وفرادته. فالمستشرق الإنكليزي ظل يدرس الإسلام والأديان الأخرى لأكثر من ثلاثين عاماً دراسة متواصلة، بدأها العام 1937، متبحراً في دراسة اللغة العربية، ليتمكن من الرجوع إلى المصادر الأصلية للإسلام، كالقرآن الكريم والأحاديث النبوية وكتب الفقه على المذاهب المختلفة. وعلى رغم إشارة المترجم في تقديمه الكتاب، إلى أن المؤلف يوجه كتابه هذا إلى القارئ الأوروبي في المقام الأول، إلا أنه يبين أن مونتغمري يؤكد في مؤلفه أن الخلافات بين المسيحية والإسلام هي في معظمها مسائل لغوية. علاقة شخصية ومن الوهلة الأولى، يكتشف القارئ إلى أي حد يختلف كتاب المستشرق الإنكليزي مونتغمري وات هذا عن كتبه الأخرى، فهو ليس ممعناً في الاكاديمية كغيره من الكتب، وعلى رأسها بالطبع كتابه المهم "تأثير الإسلام على أوروبا في القرون الوسطى"، وضمن المؤلف كتابه انطباعاته الشخصية، محاولاً تقديم رؤية شخصية لما وصل إليه بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً من البحث والدراسة في مجال العلاقة بين الإسلام والمسيحية، مشيراً في تقديمه الكتاب إلى أن اهتمامه بالدين الإسلامي بدأ أصلاً بسبب علاقة شخصية ربطته في خريف العام 1937 بطالب آت من لاهور ليشاركه شقته ستة أشهر. كان هذا الطالب يدرس الطب البيطري ومحباً للنقاش والجدل، وهو ما أزكى في مونتغمري رغبته في دراسة الإسلام، وفتن المستشرق الإنكليزي من هذه اللحظة بدراسة النظرة المتأملة والعميقة لمسائل العلاقات الإسلامية - المسيحية. يحدد مونتغمري وات في كتابه هذا هدفاً لم نكن نجده في كتبه ودراساته الأخرى عن العلاقة بين الإسلام والمسيحية، ألا وهو "أن يقدم الإسلام بأفضل شكل مبسط للقارئ الأوروبي والأميركي الذي ينظر الى الأمور بمنظور ديني أو بمنظور علماني"، قاصداً بذلك أن يبطل مفعول الآثار الباقية من دعايات حروب العصور الوسطى، والمعروفة لدينا بالحروب الصليبية ضد الإسلام، كما نلحظ اجتهاده الواضح في جعل القارئ الأوروبي والاميركي، يتحقق على نحو أفضل من ذي قبل من أهمية الإسلام التي تجلت طوال مئات السنين التي أعقبت الحروب الصليبية. وفي طيات تحقيقه هذا الهدف، يضمن مونتغمري كتابه هدفاً آخر ألا وهو توضيحه للمسلمين أن الدارسين الغربيين ليسوا بالضرورة معادين للدين الإسلامي بصفته ديناً سماوياً، بل إنه من الممكن أن يجمع الدارسون الغربيون كل الاتجاهات الفكرية والفلسفية والدينية في دراستهم للإسلام واشتباكاته مع الديانات السماوية الأخرى. وإذا كانت مبادرات الحوار بين الإسلام والمسيحية صدرت في معظمها في العصر الحاضر من الجانب المسيحي في الغرب، وخصوصاً بعدما اصدر الفاتيكان بيانه الشهير عن الإسلام في العام 1965، فإن مونتغمري وات يهدف من كتابه هذا إلى تحقيق هدف ثالث هو التشديد على المقولة التي صاغها في ما بعد عالم اللاهوت الألماني المعروف "هانز كونج - hans kںng: "لن يكون هناك سلام بين الأمم، ما لم يكن هناك سلام بين الأديان، ولن يكون هناك سلام بين الأديان ما لم يكن هناك حوار بين الأديان"، لذلك نجده يناقش أفكاره عبر محاور عدة منها على سبيل المثال: "التداعيات الدينية للتطور العلمي" فيرى أن التطور العلمي سيعمل على التقريب بين الأديان، مركزاً في فصله العاشر والأخير من كتابه على أن استشراء فكرة العنصرية أو الإيمان بأن هناك عناصر أكثر رقياً من أخرى موجودة وكامنة في صميم بعض الأديان، وأن هذه الفكرة الكامنة تقف وراء الاضطرابات العنصرية في بلاد مسيحية بارزة، وفي هذه النقطة يوضح المترجم في تقديمه الكتاب أن مونتغمري وات يرى أن سيطرة هذه الفكرة لا بد من أن يكون لها جذور دينية، ومن ناحية أخرى فهو يؤكد أن فكرة "الأخوة" ساعدت المسلمين في نشر دينهم.