تعلو الابتسامة وجوه اللاعبين الكوريين الجنوبيين جميعهم لدى توسط المدرب الهولندي غوس هيدينك اياهم لاعطاء توجيهاته الفنية وارشاداته التكتيكية المطلوبة في التدريبات والمباريات على السواء، ما يوحي بأجواء التعاون السائدة الرائعة في كنف المنتخب الكوري الجنوبي الذي صنع بفوزه على ايطاليا بالهدف الذهبي 2-1 في الدور الثاني احد اجمل الانجازات في تاريخ كأس العالم لكرة القدم، وربما تكررت اليوم بتأهله للدور نصف النهائي على حساب اسبانيا. والحقيقة تقال ان هذه الابتسامة لم تكن لترتسم على وجوه اللاعبين ومن خلفهم ملايين الجماهير المتزينة بالقمصان الحمر والمحتشدة بأعداد غفيرة في الملاعب والساحات العامة لولا وجود هيدينك الذي نجح حتى الآن في الاضطلاع بدور صانع التاريخ الحقيقي لكرة القدم الكورية بانتزاعها فوزها الاول في تاريخ مشاركاتها في المونديال على بولندا 2-صفر في مرحلة اولى وتأهلها الى الدور الثاني ثم ربع النهائي على حساب ايطاليا 2-1 في مرحلة ثانية. واللافت ان هذا الوجود المؤثر لهيدينك كاد الا يتكرس على ارض الواقع. ففي مرحلة اولى لم يمثل المدرب الهولندي، الذي لم يذق طعم النجاح بعد اشرافه على منتخب بلاده في مونديال فرنسا عام 1998 حين حلّ رابعاً وتولى لفترة وجيزة الاشراف على فريقي ريال مدريد واشبيلية بتيس الاسبانيين قبل ان يعمل معلقاً رياضياً لحساب شركة "كانال بلوس هولندا"، الخيار الاول لمسؤولي الاتحاد الكوري الذين آثروا الاستعانة بخدمات الفرنسي ايميه جاكيه او الكرواتي ميروسلاف بلازيفيتش اللذين رفضا المهمة. وقبل مسؤولو الاتحاد الكوري على مضض تعيين هيدينك بدلاً من هور يونغ مو في كانون الاول ديسمبر الماضي. وفي مرحلة ثانية، واجه هيدينك مشكلة رفض الكوريين شروطه للاشراف على المنتخب، والتي صبت في خانة تفريغ الدوليين للمنتخب بالكامل عبر تحريرهم من مسؤولياتهم تجاه انديتهم، ثم دخل المعنيون المحليون في مناقشات اسفرت عن قبول اقتراحه. اما في مرحلة ثالثة، فاصطدم هيدينك بالعقبة التي يمكن ان تطيح برأس المدربين الاكثر اهمية في العالم الا وهي العداوة الكبيرة مع رجال الاعلام. ووجد الاخيرون درع الوقاية الاول الذي وضعه هيدينك للاحتماء منهم، والذي تمثل في الانغلاق على عمله مستعيناً بخدمات صحافي خاص واحد لتغطية نشاطاته "وتسريب" ارائه حول الاستعدادات، وانضم الى مجموعة معاونيه التي ضمت مساعده المباشر والمعالج الفيزيائي وكشاف "مخبر" يضع دراسات حول المنتخبات المنافسة والمنتخب الكوري ذاته ايضاً، وسيلة اولى للانقضاض عليه والتشكيك في كفايته، في حين شنّ هيدينك حرباً مباشرة عليهم من خلال فضح تصرفاتهم على صعيد معرفة كل شاردة وواردة داخل كواليس الاتحاد من خلال قراءة رسائل الفاكس والبريد الاكتروني ومعرفة المعلومات الادارية الخاصة. وابدى هيدينك تحفظه الكامل على رغبتهم في التدخل في شؤونه كونها لا تعنيهم، باعتقاده، الا لتدميره وتحطيم المنتخب الذي يشرف عليه، وصولاً الى اضاعة الحلم الشعبي في البروز والتألق في المونديال. وتجسدت الوسيلة الثانية في رفع سقف الانتقادات لعمل هيدينك غير المثمر باعتقادهم، خصوصاً بعد الهزيمتين امام فرنسا في كأس القارات العام الماضي وتشيخيا بعد فترة وجيزة. وبدا وضع هيدينك مأسوياً وقتذاك، وزاده مبادرة شركة سامسونغ المنتجة للادوات الكهربائية الى سحب رعايتها للمنتخب بحجة انخفاض شعبيته. لكن هيدينك نجح في الاستمرار متحدياً التقاليد والاعراف كلها التي ربطت دائماً مسيرة الكرة الكورية والتي كان ترجمها في خيارات تشكيلة المنتخب التي لم ترحم عناصر الخبرة السابقة او المخضرمة او التي ينظر اليها بهالة النجومية المطلقة لحساب النوعية. وهكذا استدعى هيدينك عدداً كبيراً من الوجوه الشابة الى صفوفه، وشرع في تلقينهم مبادئه التدريبية كما يفعل المعلم مع تلميذه في بادرة فريدة غير مسبوقة على مستوى المنتخبات التي تحتضن صفوة الخامات التي يفترض ان تكون مصقولة سلفاً بالخبرة والمهارات الفنية. واللافت ان هيدينك لم يلتزم بقواعد "تعليم" صارمة، بل لجأ الى الحوار واستعراض الاراء معهم في الخطط التكتيكية الموضوعة، ما كرّس اجواء الالفة الضرورية لانجاح اي عمل بحسب هيدينك. واذ استقر عدد اللاعبين في تشكيلة كوريا على 30 منذ ايلول سبتمبر الماضي، شرع هيدينك في العمل بعمق، وحصر اهتمامه الاول في الفترة من كانون الثاني يناير الى نيسان ابريل بتعزيز صلابة خط الدفاع، والذي اراد الا يعتمد فيه على ستة او سبعة لاعبين بل المنتخب كله على طريقة الكرة الشاملة الهولندية في الدفاع والهجوم على السواء، وغيّر ذهنية تفكير اللاعبين من اجل زيادة تأقلمهم مع متطلبات الكرة العصرية في هذا المجال. وبعدذاك انتقل هيدينك الى مرحلة تطوير الاداء الهجومي الذي وصفه بالأكثر صعوبة كونه يتطلب قدرة اللاعبين على الخلق. واعتبرت النتائج مأسوية بين منتصف كانون الثاني وآذار مارس الماضيين تحديداً، اذ خسرت كوريا مبارياتها الودية كلها، وخرجت مبكراً من منافسات مسابقة الكأس الذهبية لدول الكونكاكاف بعدما تلقت دعوة للمشاركة فيها. وعنى ذلك بالنسبة لكثيرين ضياع طموحات أمة بكاملها في مقابل ايجاد الحوافز لانتقاد المدرب، لكن المنتخب الكوري ردّ بقوة من خلال سلسلة انتصارات اعادت الهيبة المفقودة ل"الشياطين الحمر" الجدد استهلت في المباراة الودية امام اسكتلندا 4-1، واستمرت وصولاً الى الدور ربع النهائي من المونديال الحالي... وماذا بعد؟